"منزلي الأخضر في مخيّمات اللجوء على الحدود السوريّة التركيّة"، بهذه العبارة نشر الشاب السوري وسام عبد الرزاق دياب صوراً لخيمته "الأنيقة" في مخيمات اللجوء السوريّة بمدينة أطمة الحدودية مع تركيا، لاقت صور الخيمة رواجاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي مشيدةً بهذا العمل الذي يُبين إرادة الحياة على الرغم من كل الصعوبات التي توجد في مسيرة حياة المهجرين واللاجئين.
في بداية الأمر يعتقد الناظر إلى صور هذه الخيمة أن من رتبها ربّة منزل أفنت حياتها بترتيب بيتها وتنظيفه، ليكتشف لاحقاً أنها من فعل شاب ناشئ يبلغ من العمر 19 عاماً، حيث أحال خيمته إلى لوحة فنية باتت تتنشر صورها في كل مكان، إلا أن هذه الرتابة في الخيمة تخفي وراءها مأساةً إنسانية لا يوجد لها حلٌ في الأفق القريب، ألا وهي مأساة الوجود الإنساني في خيام لا تقي من حر الصيف ولا برد الشتاء.
في البداية حاولنا التواصل مع وسام، لكنه رفض الحديث للصحف أو القنوات الإعلامية، حيث كان على قناعة أنه وعلى الرغم من كل الجمال الذي أضفاه على مكان إقامته إلا أنها تبقى خيمة، ولا ترقى لأن تكون كغرفة صغيرة من غرف بيته القديم الذي نزح منه في عام 2016 بعد أن دمره قصف النظام على مدينته كفرزيتا بريف حماة.
عندما وافق وسام على الحديث معنا أخيراً، كانت كلماته متعبة كمدينته أو ربما كوطنه، لكن هذا التعب لم يقتل إرادة الحياة لديه، يروي وسام حكايته لموقع تلفزيون سوريا، أنه درس المرحلة الابتدائية في مدينته قبل أن يضطر للنزوح مع أهله، وانقطع عن الدراسة لمدة سنتين، ليعود إلى مقاعد الدراسة ويبدأ دراسة الصف التاسع حتى ينال الشهادة الإعدادية.
كان وسام في العاشرة عند بداية الثورة
في بداية الثورة السورية كان عمر وسام 10 سنوات، وعلى الرغم من عمره الصغير حينها إلا أنه كان يشارك بالمظاهرات التي خرجت في مدينته، في البداية لم يكن يعي وسام "معنى المظاهرة أو الثورة" كما يروي لنا، إلا أنه عندما بدأ إجرام النظام "أدركت معنى الظلم والقهر يوماً بعد يوم، وأصبحت مقتنعاً بالثورة لأنها مع المظلومين بوجه الظالم".
عندما بدأ القصف على مدينة كفرزيتا بريف حماة انتقاماً من مشاركتها في الثورة، كانت عائلة وسام تنزل إلى قبو البناء ويتجمعون كلهم في مكان واحد، يقول وسام: "كنا نقعد الكل بغرفة وحدة مشان إذا صار شي الكل يموت مشان ما يضل حدا يزعل عاللي بدو يستشهد!"، ربما حمل وسام وأطفال سوريا في هذه الفترة أكثر مما يحتملون، قصف ومن ثم تهجير ومن ثم فقد للأحباب والأصدقاء والأهل.
5 مراحل من النزوح المتعب وفقدان أعز الأصدقاء
كانت رحلة نزوح وسام وعائلته مقسمة إلى 5 مراحل، ففي المرة الأولى كان نزوحهم خفف الوطأة إذ أنهم انتقلوا إلى بيت لهم على أطراف مدينة كفرزيتا، ومن ثم نزحوا منه إلى قرية على أطراف مدينة قلعة المضيق، وبعد ذلك انتقلوا إلى مدينة أطمة وأصبحوا يتنقلون من منزل إلى منزل حتى استقر بهم الحال في هذه الخيمة "الأنيقة" التي يقول وسام إن ثمن هذه الخيمة ما زال ديناً على والده.
لم تؤثر مصائب النزوح والتشرد على وسام كما أثر فقد الأخوة والأصدقاء، فخلال السنة الدراسية التي بدأها في منطقة أطمة لإكمال الشهادة الإعدادية، تعرف على صديق جديد وأصبح مقرباً منه، في يوم من الأيام كان وسام يكلم رفيقه ولكن الأخير أغلق فجأة، وعندما كان وسام يتصفح الفيس بوك وجد صورة صديقه شهيداً في قصف للنظام، لم يستطع التحمل مما أدى لحدوث انهيار عصبي معه نُقل على إثره إلى المشفى، هذه الحادثة أثرت سلبا على حياة وسام مما استدعاه لترك الدراسة مرةً أخرى.
جند الأقصى أعدم أخاه بتهمة "الردة"
لم تكن هذه حالة الفقد الأولى التي يمر بها وسام، إذ إنه فقد أخاه الأكبر أنس عام 2017، يحدثنا وسام أن "لواء جند الأقصى" قتل أخاه العامل في إحدى النقاط الطبية الميدانية ذبحاً بتهمة "الردّة" ضمن مجزرة ارتكبها عناصر اللواء في ريف حماة، وكانت الأنباء تواردت حينها بأن هذا الفصيل المتشدد قتل ما يقارب 200 شخص من فصائل المعارضة والسكان المحليين في المنطقة، وُجد رأس أنس في حفرة بينما عُثر على جسده في مكان آخر وتم التعرف عليه من خلال ندبات إثر إصابته بقصف لقوات النظام، والقول هنا لوسام.
85 كتاباً في الخيمة والأمنية الكبيرة هي "صحيح البخاري"
هي حياة قاسية على شاب يحاول لملمة نفسه بعد المصائب التي حصلت معه، يحاول إحياء الأمل بأي عمل ممكن أن يكون تسلية لنفسه أو إحياءً لروحه المتعبة، خلال فترة النزوح استطاع وسام جمع 85 كتابا بعناوين مختلفة، يحب القراءة كثيراً كما يقول، ويروي وسام أنه لا يجد شيئاً أمامه إلا ويقرؤه حتى لو كان منشوراً على الفيس بوك أو حتى ورقة من جريدة قديمة مهما كان موضوعها، ويتمنى لو يستطيع إغناء مكتبته بالكثير من الكتب ولكن أمنيته الكبيرة أن يقتني كتاب "صحيح البخاري".
يتحدث وسام أن القراءة هي الشيء الوحيد الذي يستطيع إخراجه من المأساة التي يعيش بها، يقول: "ربما أصبح كاتباً في يوم من الأيام، أعتقد أنني سأعمل على تأليف الكتب ولو أنجزت كتابا واحداً من أجل تحقيق حلمي، والذي دفعني للقراءة هو حب المعرفة".
في الحديث عن خيمة وسام التي أصبحت مشهورة برتابتها وأناقتها، يقول وسام إنه على هذه الحالة مذ كان صغيراً فقد كان يعمل على ترتيب غرفته وبيته بهذا الشكل، كما أنه يحب الاهتمام بالنباتات، لكنه في الجانب الآخر من جمالية المشهد يوجد وجه مأساوي، يتكلم وسام عن حالته في فصل الصيف في ظل الخيمة حيث يقول: "في الصيف أستيقظ في الساعة السابعة صباحاً لأخرج من الخيمة هرباً من الحرارة الشديدة"، يضيف "لا أستطيع دخولها حتى تغيب الشمس".
أما في الشتاء فالحالة مزرية أكثر، في المرة الأولى التي نزل بها المطر هذه السنة بقي وسام ساعات وهو يخرج المياه من خيمته، طبعا هذه الحالة في بداية الفصل يتساءل وسام عما ستكون عليه الحالة حينما تدخل ذروة الشتاء إلى منطقة المخيمات، يقول وسام "أحاول إيصال الرسالة عن الوضع المزري الذي نعاني منه دائماً في كل فصل ولكن يبدو أن لا أحد يأبه لنا".
يتمنى وسام بأن يجد عملاً يستطيع به مساعدة أهله، ويتحدث عن المحسوبيات التي أثرت على إمكانية العمل في مناطق شمالي سوريا، يعمل أهله الآن في زراعة إحدى الأراضي ويستفيدون منها في تحصيل قوت يومهم فقط، يتحدث وسام عن أمنيته الكبرى وهي الرجوع إلى منزله، يقول بلهجته العامية المتعبة: "الأمنية الأولى أنو نرجع على بلادنا، هناك بحسن ساوي اللي بدي إياه سواء كان مشاريع أو بيت أو أي شي بيخطر على بالي رح يكون موجود عندي، هون أقل شي بتمنى يكون عندي بيت اتآوى في، الخيمة قد ما كانت حلوة ومرتبة بضل اسمها خيمة".
الشاب وسام عبد الرزاق، حالة من مئات آلاف اللاجئين المهجرين، كل واحد منهم يملك آمالاً ويتطلع لتحقيق أمنيات ويحلم بمستقبل يعيشه بلا حر صيف أو برد شتاء، كانت الكلمات البليغة من وسام رسالته الأخيرة التي أرسلها لنا وننقلها بدون تعديل أو ترتيب وهي أبلغ من ألف مقال: "رسالتي اللي بدي وصلها هي الأمل، أملي أكبر من أي شي بالدنيا!، الخيمة خيمة، أد ما أتجملت ووين ما كانت، نحن بس اللي منساويها، نحن اللي قادرين نحول الألم لأمل!"
يضيف وسام "طبعاً كان عندي صعوبات كتيرة لحتى صارت خيمتي بهالشكل، نقلتها عدّة مرات وبكل مرة كنت ضرّ زرايعي وأحياناً اضطر أترك شي منهن والكتب اللي عندي اتعرضوا للبلل بسبب المطر، ومع ذلك ما تركتهن ولا اتخليت عنهن أبداً ولسا بدي كبّر المكتبة واهتم فيها أكتر".