يبدو أن قائد "هيئة تحرير الشام" أبا محمد الجولاني، أدرك أن قراره بنشر عناصر من الألوية العسكرية داخل المدن والبلدات في شمال غربي سوريا خلال اليومين الماضيين، كان خاطئاً، بعدما ارتد عليه بنتائج عكسية مباشرة كادت أن تؤدي إلى سقوط قتلى، ما يعني دخول الحراك الشعبي المناهض له مرحلة اللاعودة.
أعطى الجولاني الأوامر بنشر العسكريين على مداخل المدن والبلدات في إدلب للحد من المظاهرات المناهضة له، عبر منع المتظاهرين من الوصول إلى مركز مدينة إدلب قادمين من البلدات في ريفها، بالتزامن مع تصريحات للجولاني نفسه وأجهزته العسكرية والأمنية، تشير إلى أنهم سيضربون بـ"حزم وبيد من حديد"، مع التلميح إلى "مرحلة جديدة" لا دور للمظاهرات فيها، على اعتبار أن "السلطة استجابت للمحتجين وبدأت بتلبية مطالبهم تباعاً".
24 ساعة شكّلت منعطفاً في إدلب
بدأت "تحرير الشام" في مساء الخميس، وصباح الجمعة، بنشر تعزيزات عسكرية في المدن والبلدات، مستعينة بفصائل تعمل معها ضمن غرفة عمليات "الفتح المبين"، ومنها أحرار الشام، وصقور الشام، وجيش النصر، وذلك في سياق الحد من المظاهرات، بعد الحديث عن مظاهرة مركزية ضخمة في مركز مدينة إدلب، رداً على مهاجمة الهيئة لخيمة اعتصام في المدينة وتحطيم محتوياتها ثم هدمها بشكل كامل.
وأفادت مصادر محلية لـ موقع تلفزيون سوريا، صباح الجمعة، بأن الجهاز الأمني في الهيئة، إضافة إلى جناحها العسكري، نصبوا عدداً من الحواجز في محيط مدينة إدلب، ومنعوا المدنيين من الدخول إليها إلا وفق استثناءات، تشمل بشكل رئيسي عائلات عناصر الهيئة.
وشمل الانتشار مختلف مداخل المدينة، لا سيما على الطرقات المؤدية من مدن أريحا وبنش ومعرة مصرين إلى مركز مدينة إدلب، كما نشرت "تحرير الشام" حواجز في محيط بلدة الفوعة مساء الخميس، ومنعت متظاهرين قادمين من مدينة بنش من الدخول إلى البلدة، كما نشرت حاجزاً في منطقة المخيمات بريف بلدة كللي شمالي إدلب، والتي تشهد مظاهرات بشكل دوري.
وبعد صلاة الجمعة، اعتدت "تحرير الشام" على المتظاهرين القادمين من مدينة بنش، ومنعتهم من الوصول إلى مركز مدينة إدلب، كما أطلق عناصرها الغاز المسيل للدموع عليهم، وصدموا عدداً منهم بوساطة العربات المصفحة، وفي مدينة جسر الشغور غربي إدلب، تداول ناشطون فيديوهات، تظهر لحظة إطلاق عناصر الهيئة الرصاص الحي في الهواء لتفريق المتظاهرين، والاعتداء على بعضهم بالضرب.
وأثارت مشاهد صدم المتظاهرين بالعربات المصفحة وإطلاق الرصاص لترهيبهم وضرب آخرين بالعصي، غضباً واستنكاراً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ دان كتّاب وصحفيون وإعلاميون هذا الفعل، فضلاً عن قادة في الجيش الوطني السوري.
وحمّل جلّ المستنكرين للفعل، قائد الهيئة "الجولاني" مسؤولية ما حصل، كونه هو من أوعز للعسكريين الانتشار في المدن لقمع المتظاهرين وإدخالهم بمواجهة مباشرة مع المحتجين، الذين حافظوا على سلمية حراكهم منذ انطلاقته في 25 من شهر شباط الماضي.
مبادرة ثم اتفاق مع "تجمع دمشق"
بعد هجوم عناصر "تحرير الشام" على المتظاهرين، باتت الهيئة في موقف ضعيف شعبياً، لكونها هاجمت المحتجين بالعربات، وكادت أن تودي بحياة بعضهم، وهنا ظهرت مبادرة للعلن من قبل 21 شخصاً ظهروا بفيديو مصور، وقالوا إنهم من "أهالي ووجهاء المناطق المحررة".
وتنص المبادرة على سحب كل المظاهر المسلحة من الساحات والشوارع، بالتوازي مع تعليق التظاهر، والانتقال مباشرة إلى مرحلة الحوار الحقيقي والجاد غير المشروط من قبل جميع الأطراف، والكفّ المباشر عن أي خطاب تحريضي يكون سبباً في تفاقم الأزمة، وضمان عدم اعتقال أي متظاهر مدني سلمي.
من جهتهم، شكك عدد من الناشطين بجدوى المبادرة، وعدّوها "مشبوهة"، لكون بعض المشاركين فيها من أتباع "هيئة تحرير الشام" أو مقربين منها، متوقعين أن يقبل الجولاني بها، ليسجل نقطة على الحراك الشعبي المطالب بإسقاطه.
ووفقاً للناشطين، فإن بعض أعضاء هذه المبادرة قدموا إلى خيمة الاعتصام أمام المحكمة العسكرية في إدلب، وكانوا ذريعة للهجوم على الاعتصام بحجة إهانة الوجهاء القادمين للتفاوض.
وبعد الإعلان عن المبادرة، توعدت قيادة غرفة عمليات "الفتح المبين" بالتعامل بحزم مع ما وصفته بـ"الفوضى" في إدلب، في إشارة إلى المظاهرات الشعبية المناهضة لـ"هيئة تحرير الشام"، وجاء ذلك في بيان مرئي لقيادة الغرفة تلاه مسؤول الجناح العسكري في "تحرير الشام" مرهف أبو قصرة الملقب "أبو حسن 600"، وإلى جانبه قائد "أحرار الشام" عامر الشيخ، ونائبه أحمد الدالاتي.
بالتوازي مع ذلك، توصلت "تحرير الشام" إلى اتفاق مع "تجمع دمشق" أحد مكونات "الجبهة الوطنية للتحرير"، لتحييده عن الحراك الشعبي في إدلب وعدم تدخل أو مشاركة عناصره فيه، وذلك بعد ضغوط وحشود عسكرية ضده.
وتداولت حسابات مقربة من "تحرير الشام" نسخة من نص الاتفاق الموقع من قبل زعيمي "الهيئة" أبي محمد الجولاني، و "تجمع دمشق" أبي عدنان الزبداني، جاء فيه أن قيادة "تحرير الشام" وقيادة "تجمع دمشق" اجتمعتا صباح السبت، وتم الاتفاق على اعتبار التجمع جهة عسكرية لا ارتباط له في الحراك الحالي في إدلب، والتزام كل من له صفة عسكرية أو تنظيمية فيه بعدم الانخراط بالمظاهرات.
كما نص الاتفاق على التزام هيئة تحرير الشام بسحب المظاهر العسكرية من الأماكن المحيطة بمناطق انتشار التجمع، وذلك بعد أسابيع من الحشد والتحريض ضد التجمع، بدعوى أنه يحرّض على مظاهرات في الفوعة وما حولها ضد الهيئة.
رأي ورأي مضاد
بعد الإعلان عن المبادرة، انتشرت بيانات باسم فعاليات محلية، وأطراف محسوبة على هيئة تحرير الشام، ترحّب بها، وتدعو إلى الالتزام بها، خاصة ما يرتبط بتعليق المظاهرات والاعتصامات المناهضة للهيئة، بينما خرجت مسيرات داعمة للمبادرة في عدد من المناطق.
على النقيض من ذلك، لم تعترف بعض الأطراف بالمبادرة، ووصفتها بأنها أداة الجولاني الوحيدة للخروج من المأزق بعد الهجوم على المتظاهرين، ووسيلة للعب على عامل الوقت لتهدئة الحراك المناهض له، ولو مؤقتاً.
وكان "حزب التحرير" من الأطراف الرافضة للمبادرة، حيث ذكرت الناشطة في الحزب، فاطمة العبود، أنّ "كل مبادرة لا تنص على إسقاط الجولاني وجهازه الأمني ومحاسبتهم لا تمثلنا إطلاقاً، والرد عليها سيكون بالساحات".
وأضافت: "فجأة يخرج لك أشخاص لا يمثلون إلا أنفسهم يجتمعون ويخرجون بمبادرات وبيانات، لا نعرف من وكلهم من الحاضنة الشعبية ويضعون بنوداً لا ترتقي إلى أن تكون مطالب، وهي أصلاً طوق نجاة للطاغية المجرم.. يا أخي ما بتحسن تقول للظالم يا ظالم التزم بيتك ودع عنك الأمر، إلا إن كان وكلك الجولاني لتخرج وترمي له حبل نجاة لتنقذه!"، بحسب وصفها.
أما "المجلس الأعلى للإفتاء" المحسوب على الهيئة، فقد قال في بيان له إن "الإسراف في دعوى المطالبات بما يعطل عمل المؤسسات ويجرُّ المحرر للفوضى ويضرّ بحالة السلم الأهلي في ظل دخول فئات فصائلية وحزبية ضيقة تعمل على تطبيق أجندتها الخاصة بعيداً عن المصلحة العامة على خط ما يجري، صار يُخشى أن يتحول المشهد إلى تصفية حسابات وإحياء ثاراتٍ قديمة مغلفة بشعارات غير صادقة".
وأضاف أن "استخدام وسائل غير مشروعة من الافتئات والشتائم وألفاظ التخوين والاتهام وبث الإشاعات والإصرار على الحلول الصفرية مع السلطة؛ يجعل هذه المطالب محفوفة بكثير من المحاذير والتجاوزات فضلاً عن مآلاتها الخطيرة".
ورأى أن "الواجب اليوم هو تفعيل الصلح وتهدئة الأمور ودعوة العقلاء ليأخذوا دورهم في تقريب وجهات النظر ونزع فتيل الأزمة".
ما سر سحب الجولاني للعسكر؟
أفادت مصادر مطلعة لـ موقع تلفزيون سوريا، بأن تصعيد "تحرير الشام" ضد المتظاهرين يوم الجمعة، أحدث خلافات داخل التنظيم نفسه، بين مؤيدين للفعل، ورافضين له، حيث ذكر العسكريون أنهم يخشون من وصفهم بـ"المجرمين"، بعدما أُخذ انطباع عن الأمنيين في الهيئة أنهم كذلك، على خلفية أحداث ملف العمالة ضمن الفصيل.
وأشارت المصادر، إلى أن بعض العسكريين أبدوا اعتراضهم على زجهم بمواجهة مع المتظاهرين، كما أن بعض القادة العسكريين رفضوا إرسال عناصر من كتلهم للمشاركة في الانتشار ضمن المدن، وبعضهم غادر من مجموعات التنسيق العسكري على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولتخرج الهيئة من المأزق، تقول المصادر: "لجأت تحرير الشام لبعض الأشخاص لطرح مبادرة شكلية تنص على انسحاب العسكريين من المدن، وبذلك تُظهر الهيئة للعلن أن انسحابها مرتبط بالمبادرة، ولا يتعلق بالخلافات الداخلية التي نجمت عن هذه الخطوة، أو رضوخاً لحراك المدنيين".
وأضافت المصادر: "أبدى قائد لواء علي بن أبي طالب في الهيئة، أبو مسلم آفس سخطه بعدما وجد نفسه في ورطة، إذ حاولت بعض الأطراف في الهيئة تحميله منفرداً مسؤولية الهجوم على المتظاهرين القادمين من بنش، كون القوات الموجودة على الحاجز تتبع للواء المذكور، كما أن قائد صقور الشام أبا عيسى الشيخ طلب سحب عناصره بعد توتر الأجواء والتصعيد ضد المحتجين".
"مرحلة جديدة"
ويدخل الحراك الشعبي المناهض للجولاني، مرحلة جديدة، بعدما لجأت قيادة الهيئة لأسلوب تصعيدي ضد المتظاهرين، يتمثل بنشر الحواجز وتقطيع أوصال المدن والتضييق على المدنيين لمنعهم من الوصول إلى نقاط التظاهر الرئيسية، ولا سيما في مركز مدينة إدلب شمالي سوريا.
وبدأت شرارة التصعيد في مدينة أريحا، ثم انتقلت إلى مركز مدينة إدلب، إلى أن انفجرت في منطقتي بنش وجسر الشغور في ريفي إدلب الشرقي والغربي، إذ نشرت الهيئة المئات من عناصرها، ومنعوا المتظاهرين من التوجه إلى مدينة إدلب، وأطلقوا الأعيرة النارية لترهيبهم، فضلاً عن ضرب بعضهم بالعصي، وصدم آخرين بالعربات المصفحة، وإصابة عدد من المحتجين بالغازات المسيلة للدموع.
وخلال الأسابيع الماضية، اعتمد الجولاني على عامل الوقت وملل المتظاهرين من كثرة المظاهرات، لإخماد الاحتجاجات، وأفسح المجال لخروج مظاهرات بشكل شبه يومي في مراكز المدن والبلدات إضافة إلى المخيمات، من دون أن يتعرّض لها الأمنيون بأذى، لكن الرياح جرت عكس رغبات الجولاني، فقد أخذت الاحتجاجات بالتوسع يوماً بعد يوم، لتشمل فئات مختلفة من المجتمع، ولم تعد المطالب تقتصر على إسقاط الجولاني، إنما توسعت للإضاءة على مواطن الخلل داخل "حكومة الإنقاذ" (الذراع المدني لهيئة تحرير الشام)، وتبعات سياساتها على المجتمع، وهو أمر يرهق الجولاني ويضيّق الخيارات أمامه مع مرور الوقت.