شدَّتني في شبابي الباكر المباريات الشعرية المتمثلة بأن يبدأ أحد المتبارين ببيت شعري من محفوظاته، فإذا انتهى البيت بحرف النون مثلاً، توجَّبَ على المتباري الآخر أن يبدأ ببيت يكون حرفه الأول نوناً، فإذا انتهى البيت بحرف الدال مثلاً توجَّب على الطرف الآخر أن يأتي ببيت مطلعه حرف الدال. وهكذا دواليك إلى أن تفرغ جعبة أحد المتبارين ويعلن عجزه عن الإتيان بالبيت المناسب.
كنت واحداً من قِلَّة ممن تصعب هزيمتهم، ذلك لأني، وأنا طفل في المدرسة الابتدائية، كنت أحفظ المعلقات، ثم أضيفَ إليها لاحقاً أجزاء كبيرة من الشعر العذري، ومتناقضات جرير والبحتري والفرزدق، وأشعار المتنبي والمعري وأبي نواس وبشار بن برد والشريف الرضي، وصولاً إلى أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وبدوي الجبل والأخطل الصغير.
في الحقيقة لم يكن أحد يغلبني سوى صديق لي يحفظ تقريباً نفس ما أحفظ، فمراجعنا الشعرية هي نفسها الموجودة في مكتبة أخيه الكبير، الذي لم يكن في القرية أحد غيره يهتم بالقراءة، وشراء الكتب على اختلافها، من أجاثا كريستي وأرسين لوبين، مروراً بنجيب محفوظ وأرنست همنغواي، وصولاً إلى نفح الأزهار في منتخبات الأشعار.
كان صديقي يبدأ المباراة يوماً، وأنا أبدؤها يوماً. إذا بدأ هو فلا بد أن أستنفد محفوظاته من الأبيات التي تبدأ بحرف النون فيخسر، وإذا بدأت أنا فلا بد أن يستنفد محفوظاتي من الأبيات التي تبدأ بحرف الراء فأخسر.
ذات يوم قرَّرت أن أكسر هذا الديدن، فألَّفت بيتاً يبدأ بحرف الراء وينتهي بحرف النون إمعاناً في هزيمة لا تقبل بأقل من "تثبيت أكتاف" وإعلان استسلام. وحين جاءت اللحظة، وفي أوج "الحزَّة واللذة" كما يقال، قطَّبتُ حاجبيَّ، وهدَّجتُ صوتي، وألقيت البيت كمن يلقي قنبلة:
ريقتْ دماءٌ في سبيلك يا وطنْ حمراء مثل شقائق النعمانِ
أغمض صديقي عينيه، وكنت أراهما تنبضان، ثم فاجأني ببيت، لا أتذكر الآن سوى أنه يبدأ بحرف النون، وينتهي بألف مهموزة، لا تشكل عبئاً لكثرة الأبيات التي تبدأ بألِف.
قلتُ: من أين جئت بهذا البيت؟
قال: من حيث جئتَ أنت ببيتك.
قلتُ: أنا وجدته في الطريق على مزقة ورق من إحدى الصحف.
قال: كلامك لا يقنعني.
قلت: حسناً.. أنا اخترعتُ بيتي، أعني ألَّفته على منوال ما أحفظ.
قال: وأنا أيضاً.
كنا حينها في الصف السادس، فلم أنتبه ولم ينتبه صديقي إلى الخطأ المتمثّل في مطلع البيت "ريقت"، وكان ينبغي أن أقول "أريقت"، غير أني لم أقلها لأني تبعتُ موسيقا أذني وليس قواعد اللغة.
في الصف السابع كتب كلٌّ منا قصيدته الأولى. كانت قصيدته بعنوان "وطني" وكانت قصيدتي بعنوان "حريتي". وهكذا انفرطت "مسبحة" الشعر، وانتثرت حباتها على طول الطريق الممتد من قريتنا "تير معلة" إلى المدرسة الإعدادية في قرية "الغنطو" التي تبعد عنا ما بين اثنين إلى ثلاثة كيلومترات.
"لم أكن أعرف الإيقاعات وأوزان وبحور الشعر. كنت أحسها كما لو أنها جوعاً أو عطشاً أو هجساً لا يهدأ قبل تلبيته"
كنت أمشي الطريق ذهاباً وإياباً بأقصى ما تنطوي عليه متعة إيقاعات الشعر، تبعاً للإيقاع الذي يلفّ رأسي من الليلة الفائتة. فإذا كان الإيقاع الذي يحتلّني هو الكامل، وازنتُ خطواتي وشهيقي وزفيري عليه طوال الطريق، فإذا لم أشعر بالارتواء تابعت المشي بمحاذاة الساقية، أو نزلت إلى ضفاف نهر العاصي، إلى أن تهدأ إيقاعاتي وأعود إلى البيت.
لم أكن حينها أعرف الإيقاعات وأوزان وبحور الشعر. كنت أحسها كما لو أنها جوعاً أو عطشاً أو هجساً لا يهدأ قبل تلبيته.
في الصف الثامن أعطيت مدرِّس اللغة العربية قصيدتين لي، لعله يشجعني أو يبدي إعجابه أو ينصحني ويدلني على أخطائي، غير أن المدرِّس أنَّبني في اليوم التالي أمام زملائي قائلاً:
"اللص ليس هو فقط الذي يسرق الجيوب والمنازل. من يسرق قصائد الآخرين وينسبها لنفسه هو لص أيضاً. البارحة أعطاني أحد زملائكم قصيدتين على أنهما من تأليفه. هو يعتقد أني لا أعرف من هو الشاعر الحقيقي صاحبهما".
يا إلهي.. واضح أن المدرِّس يقصدني في كلامه. لم يحدث أن كّذَّبني أحد في حياتي. كدتُ أقع من هول ما سمعت، ولكني تمالكت نفسي وانتظرت إلى أن انتهى الدرس، ثم لحقتُ بالمدرِّس حتى حاذيته لأقول:
"أقسم بالله يا أستاذ أن القصيدتين من تأليفي، وإذا كنتَ واثقاً أني أكذب وأنك تعرف الشاعر الحقيقي، فأرني القصيدتين في أي كتاب أو صحيفة، وعندها سوف أصدِّقك، وأعاقب نفسي بأن لا أقرب الشعر في حياتي، وأن لا أبقى في المدرسة يوماً واحداً".
لا أدري إن كان المُدرِّس أشفق على حالي أو اقتنع بأنه ظلمني، ولكنه هزَّ رأسه وهو ساهم الطرف، ثم فجأة ربتَ على كتفي قائلاً: يكفي.. "اِرجع إلى صفِّك".
بعد سنتين صرت في الصف العاشر، وصارت جريدة المدينة "العروبة" تنشر لي قصائدي.
في مرحلة الدراسة الثانوية أدركت أني كنت أختزن في داخلي كل شيء عن أوزان الشعر.
ولكن في الصف الثاني عشر عرفت السياب وشعراء الوطن المحتل "فلسطين"، فانتقلت إلى شعر التفعيلة.
كان مدرِّس مادة اللغة العربية حينها، المبدع شعراً ومسرحاً كتابةً وإخراجاً، الأستاذ فرحان بلبل. بعد بضعة دروس قال لي: تستطيع في كل الموادّ أن تبقى في المقعد الأخير، ولكن خلال دروسي أريدك في المقعد الأول.
أعطيته بضع قصائد، فقال لي في اليوم التالي: "حين ينتهي الدوام تأتي معي إلى غرفة المدرّسين، ثم نغادر معاً". ما إن صرنا خارج المدرسة حتى قال لي: "اِسمعني جيداً يا فرج. في المدرسة أنا أستاذ وأنت طالب، ولكن خارج المدرسة نحن زملاء وأصدقاء. أدعوك الآن إلى منزلي، وهناك ستتعرف على أعضاء الفرقة المسرحية، فقد حدثَّتهم عنك، وهم عموماً يحبون الشعر ويتذوّقونه".
وهكذا وجدت نفسي أحبو في ميدان الشعر بثقة ومحبة.