قطعت كثير من المشاريع أشواطاً خلال السنوات الماضية لرسم ملامح جديدة لمناطق نفوذ المعارضة، بما فيها تلك الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري، إلا أن معظمها اصطدمت بعراقيل أدت إلى دفن "مسارات الإصلاح والتغيير"، واستمرار حالة الفصائلية وضعف المؤسسات وغياب الرؤية الواضحة للارتقاء في واقع المنطقة على المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية والخدمية والاجتماعية وغيرها.
الآن، ومع مرور ما يقارب 13 عاماً على انطلاق الثورة السورية، وبعد طيّ الدفاتر القديمة المليئة بالمقترحات والخطط والمشاريع لإعادة تأهيل مناطق نفوذ الجيش الوطني، يجري العمل على خطة مزدوجة وفق مسارين، عسكريّ ومدنيّ، لترتيب الأوراق وترميم ما مزّقته حالة العشوائية واللامركزية خلال السنوات الماضية.
ملامح "مشروع جديد"
أكدت 6 مصادر عسكرية وسياسية في مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري، أن ملفات مختلفة تخضع للنقاش في الوقت الحالي، من شأنها إحداث تغييرات في واقع منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي، عسكرياً وخدمياً وإدرياً.
وكان موقع تلفزيون سوريا أول من كشف عن ملامح لتلك الخطة، في 11 من شهر شباط الجاري، من خلال تأكيد الحكومة المؤقتة نيتها افتتاح معبرين موازيين لمعبري الغزاوية ودير بلوط التابعين لـ"هيئة تحرير الشام"، والفاصلين بين محافظة إدلب وما حولها، ومناطق نفوذ الجيش الوطني السوري في عفرين وبقية مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي.
لعل اللافت في الأمر، أن وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، هي من ستشرف على إدارة المعبرين، وقد بدأت بالفعل ببناء محارس وغرف خاصة بمبيت العناصر داخل الحاجز المقابل لمعبر الغزاوية الخاضع لسيطرة الهيئة، والذي كان سابقاً تحت إدارة فصيل فيلق الشام، وهذا ما يعطي انطباعاً أن مهام المعبر لن تقتصر على الملف الاقتصادي، بل تمتد إلى نظيره العسكري، ما يعني التأثير على نفوذ تحرير الشام هي شمالي حلب وتقييد حركتها بين منطقتي النفوذ، إذا ما حظيت وزارة الدفاع بدعم من الجانب التركي والجيش الوطني بهذا الخصوص.
من ضمن التغييرات التي ذكرتها المصادر الـ6، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إعادة هيكلة فصائل الجيش الوطني ضمن نطاق الفيالق، وتوسيع عمل الحواجز إلى بوابتي الغزاوية ودير بلوط، مع إعادة هيكلة للإدارة العامة في الشرطة العسكرية، وبعض الفروع التابعة لها ضمن المدن والبلدات.
أحد المصادر المطلعة، يرى أن وجود "هيئة تحرير الشام" في ريف حلب لن يبق على وضعه الحالي بحلول أشهر قليلة، حيث سيتم سحب البساط من تحتها، عبر تفكيك الكتل التي تشكّلت بناء على التحالف معها، واستقطاب بعض فصائل تلك الكتل عبر اعتمادها رسمياً ضمن الجيش الوطني.
ومما رشح عن الخطة الجديدة، تعيين رئيس جديد للأركان في الجيش الوطني، وتفعيل الدورات العسكرية ضمن كلية حربية تتبع لوزارة الدفاع، وإيجاد حلول لتسّلط بعض الفصائل العسكرية على أراضي وممتلكات المدنيين، لا سيما في عفرين.
خطة سورية - تركية
وفي سياق متصل، قال القيادي في الجيش الوطني السوري، علاء الدين أيوب (الفاروق أبو بكر)، إنّ هناك توجها سوريا - تركيا لإعادة هيكلة الجيش الوطني، عبر تقليص عدد الفصائل العسكرية، وخاصة صاحبة العدد المحدود، عبر إلزام هذه المجموعات بالالتحاق بتشكيلات عسكرية أكبر.
وأضاف "أيوب" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن التوجه ينص على إعادة هيكلة فيالق وفرق الجيش الوطني، واعتماد كتل عسكرية لبعض المجموعات بهدف إدخالها ضمن مظلة الجيش، بالتزامن مع إجراء تغييرات على صعيد المؤسسات، بما فيها الشرطة العسكرية.
بدوره، ذكر القيادي والسياسي في الجيش الوطني، هشام اسكيف، أن المشروع يتضمن "تعزيز دور وزارة الدفاع والشرطة العسكرية وتمكينهما، وهناك تأكيد على التخلص من الفصائلية عبر تقسيمات عسكرية مهنية تحمل أرقاماً كفرق وألوية".
وأضاف اسكيف في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "الكلية العسكرية المزمع تفعيلها، ستكون أحد أهم منجزات وزارة الدفاع، وسيتم من خلالها مأسسة الجيش الوطني، بشكل هرمي واحترافي".
قيادي آخر ضمن الجيش الوطني - فضّل عدم الكشف عن هويته - قال لـ موقع تلفزيون سوريا: "هناك موقف واضح وصريح هذه المرة، لا اعتراف بأي تشكيل جديد خارج إطار الفيالق الثلاثة للجيش الوطني، والجبهة الوطنية في إدلب".
وأردف: "بدعم كامل من الحليف التركي، فإن وجود الهيئة شمالي حلب مرفوض بأي شكل من الأشكال، وستشهد الأيام القادمة إعلان المجلس العسكري الكامل الذي سيشمل الجبهة الوطنية للتحرير، كأول إعلان صريح وعملي لانضمام الجبهة الوطنية بشكل عملي للجيش الوطني، ومشاركتها بالمجلس العسكري".
حراك مدني للائتلاف
بالتوازي مع ما يرشح من نوايا للتغيير على المستوى العسكري، أجرى الائتلاف الوطني السوري مطلع شهر شباط الجاري، جولة موسعة في شمالي سوريا، استمرت لعدة أيام، وشملت مختلف المؤسسات العسكرية والمدنية.
وقالت مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا، إنّ الوفد ضم رئيس الائتلاف هادي البحرة، ونائبه عبد المجيد بركات، وعددا من أعضاء الائتلاف، وأجرى جولات على الدوائر الحكومية والمجالس والمؤسسات العسكرية، في مدن اعزاز ومارع والباب والراعي وجرابلس وعفرين وأريافها.
والتقى الوفد مع وزير الدفاع وقادة في الجيش الوطني، ومسؤولي الشرطة العسكرية والمدنية، ورؤساء المجالس المحلية، وجرى الحديث بشكل جدّي عن أهمية وضرورة التغيير والارتقاء بواقع المنطقة.
وأشارت المصادر، إلا أن الوفد التابع للائتلاف عقد لقاءات منفصلة مع المدنيين وكتل مجتمعية، سواء من العشائر وغيرهم، واستمع إلى مشكلاتهم على مختلف المستويات، ووعد بالعمل على تلافيها أو حلّها وفق المستطاع.
تترافق هذه الجولة، مع زيارات مشابهة لرئيس الحكومة المؤقتة عبد الرحمن مصطفى، آخرها شملت إدارة القضاء العسكري، وإعلان الحكومة عن عدد من المشاريع المتعلقة بتحسين الوضع الخدمي شمالي سوريا، تتضمن إنشاء مستشفى جامعي، وذلك خلال اجتماع مجلس الوزراء في الحكومة، لمناقشة عدد من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وأفاد نائب رئيس الائتلاف الوطني السوري، عبد المجيد بركات، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بأن الائتلاف يعمل خلال الدورة الحالية على تحقيق توازن في الملف السياسي من جهة، والملف الخدمي والتنفيذي من جهة أخرى.
وفي الشق الخدمي، يقول "بركات"، إنّ الائتلاف عمل ويعمل على دعم الحكومة المؤقتة ومؤسساتها، من خلال رفدها بمجموعات وشبكات عمل على المستوى المدني والمجتمعي لتأمين المستلزمات الأساسية لمناطق الشمال السوري.
ومن أجل تنفيذ الخطط وتحقيق واقع تنموي في الشمال السوري، يتطلب - بحسب بركات - ترتيب الأمور المتعلقة بالأمن والاستقرار، عبر رفع السوية التنظيمية للجيش الوطني والشرطة، وتطوير البيئة القانونية، بما يؤدي إلى تطوير مؤسسات القضاء.
ووفق نائب رئيس الائتلاف، فإن المؤسسة تعمل على توفير الظروف والإمكانيات لتحقيق التنمية في الشمال السوري، وتنفيذ الخطط، عبر التواصلات التي تجريها مع الدول الصديقة والحليفة.
وقبل أيام أعلن الائتلاف عن عقد ورشة عمل في ولاية غازي عنتاب التركية بعنوان "الخطة الوطنية المشتركة للنهوض بالشمال السوري - تكامل الأدوار"، بحضور 39 منظمة سورية من منظمات المجتمع المدني، لبحث سبل التعاون والتنسيق ووضع خطة عمل مشتركة للنهوض بالشمال السوري.
وعود تركية بتعاط مختلف مع الملف
وفقاً للباحث السوري، بسام السليمان (أبو عدنان) فإنه وبعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في الائتلاف الوطني، عُقد اجتماع للائتلاف والحكومة المؤقتة وهيئة التفاوض مع الجانب التركي، بحضور وزير الخارجية ورئيس الاستخبارات، وحينذاك وعد الطرف التركي بتعاطي مختلف مع طريقة إدارة الشمال السوري، عبر تعزيز سلطة الائتلاف والحكومة على المؤسسات، وتعزيز سلطة وزارة الدفاع على فصائل الجيش الوطني، بالتزامن مع العمل على حوكمة المنطقة وتعزيز سيادة القانون، وتأمين بيئة آمنة جاذبة للاستثمارات.
ويرجح السليمان في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إمكانية أن يكون هناك منسق تركي واحد لكل مناطق سيطرة المعارضة كصلة وصل بين الجانب التركي والمؤسسات في شمالي سوريا، بدلاً من عدة منسقين.
وبخصوص تواجد هيئة تحرير الشام شمالي حلب، توقع السليمان أن يتم العمل على إعادتها إلى إدلب، قائلاً: "بدأ التجهيز لإنشاء معبر كبير في الغزاوية جنوب عفرين من جانب الجيش الوطني، يقابل معبر الهيئة، وقد يتم إنشاء معبر يقابل معبر دير بلوط، لمنع دخول وخروج قوات تحرير الشام متى أرادت ذلك".
ولفت إلى أن ردة فعل تحرير الشام حيال ذلك غير معروفة، مضيفاً أنها مشغولة حالياً بأوضاعها الداخلية، ويتوقع أن تبادر لاتخاذ إجراءات اقتصادية بديلة إلى حين انتهاء أزمتها الداخلية، وعندما تلملم أوراقها قد تتخذ سلسلة إجراءات تحافظ من خلالها على مكتسباتها شمالي حلب، وقد تنفذ هذه الاجراءات بنفسها أو عبر أذرعها.
معوّقات أمام رياح التغيير
ووفقاً للباحث، نحن "أمام عملية تغيير، لا بد أن تقابلها مقاومة للتغيير، والسؤال من سيفوز؟ لا نعلم، لكن في المرات الماضية فازت مقاومة التغيير، لأنها تُمسك بزمام القوة".
وهناك عدة معوقات في وجه عملية الإصلاح، منها الهياكل والشبكات العسكرية القائمة حالياً، إذ عاشت المنطقة سنوات من اللامركزية وسيطرة العسكر على قرار المنطقة، ما خلق مجموعة من العوامل التي تجعل من التغيير أمراً صعباً، بحسب "السليمان".
وأضاف: "على مستوى الفصائل، لكل فصيل مكتب عسكري وأمني واقتصادي وسياسي منفصل، بمعنى أنه شكّل دولة داخل قطاعه، كما أن المجالس المحلية، كل منها له هيكل منفصل قائم على شبكة علاقات وامتدادات اجتماعية وعشائرية".
بدوره، يرى مصدر مطلع على واقع الشمال السوري، أن أكبر عقبة تقف في وجه أي عملية إصلاح أو إعادة تأهيل للمؤسسات، هي شبكات من المتنفذين على طرفي الحدود في سوريا وتركيا، سواء من السوريين أو الأتراك، ونجحت هذه الشبكات ببناء علاقة منفعة متبادلة خلال السنوات الماضية، ومن الصعب أن تتخلى عن هذه العلاقة لصالح إعادة تأهيل المنطقة ومؤسساتها.
أما القيادي، الفاروق أبو بكر، فيعتقد أن معوقات "خطة الإصلاح"، تتمثل في الخلافات بين بعض تشكيلات الجيش الوطني، خاصة بعد بروز تكتلات تدين بالولاء لـ"هيئة تحرير الشام"، مثل "تجمع الشهباء".
وهناك خلافات بين تشكيلات الجيش الوطني قد تشكّل عائقاً، مثل الخلافات بين الجبهة الشامية وفرقة السلطان سليمان شاه، وداخل تشكيلات الفيلق الثاني، ولذلك لا بد - حسب أبو بكر - إنهاء هذه الخلافات لإزاحة أحد العوائق من أمام طريق إصلاح المؤسسات العسكرية.
ولفت إلى أن هناك عقبة أخرى يجري العمل على تلافيها، تتمثل في بناء بعض قادة الفصائل لمناطق نفوذ خاصة بهم، إلى جانب تجذّر العقلية الفصائلية والمناطقية، خاصة أن أي عملية إصلاح، ستؤثر بالتأكيد على المصالح الشخصية للمنتفعين والمتسفيدين من حالة الفوضى.
هل يتجاوز الجيش الوطني مرحلة التآكل؟
سبق أن أشارت مصادر من داخل الجيش الوطني السوري إلى أن فيالق الجيش تعرضت خلال العام الماضي 2023 لهزّات قوية أنتجت اضطرابات وخلافات بين الفصائل ضمن الفيلق الواحد، ما انعكس سلباً على الواقع العسكري والأمني بشكل عام، وفتح المجال أمام "هيئة تحرير الشام" لقضم مساحات كبيرة من مناطق شمال شرقي حلب، سواء كان ذلك بالسرّ أو العلن، وهو ما شكّل تهديداً لوجود الفصائل المحسوبة على الجيش الوطني مستقبلاً، ووضع وزارة الدفاع أمام استحقاق لا مفر منه،
وتعززت فكرة القطاعات والكانتونات ضمن مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري بقوة، لتخضع كل مدينة أو عدة بلدات معاً لسيطرة فصيل أو مجموعات متحالفة فيما بينها، الأمر الذي أفقد وزارة الدفاع الكثير من قيمتها، لتجد نفسها مجددا على الهامش، بعد أن أصبح المجلس العسكري الاستشاري الذي كانت تعمل على إنجازه، من الماضي.
ومن المعلوم أن وعود "الإصلاح" ليست بجديدة في مناطق نفوذ الجيش الوطني، وآخرها ترافقت مع الإعلان عن المجلس العسكري الاستشاري، الذي ضم وزارة الدفاع وقادة الفيالق، ولعل أبرز الوعود التي جرى الحديث عنها، تسليم حواجز الجيش الوطني للشرطة العسكرية، وتسليم جميع المعابر الداخلية إلى جهة موحدة، وإعادة هيكلة الشرطة العسكرية، وحل كل أمنيات الفصائل وإفراغ سجونها، وإخلاء المدن والمناطق السكنية من القطع العسكرية، والسؤال القديم المتجدد الذي يطرح نفسه، هل ستجد الخطة الجديدة آذاناً صاغية وجهوداً حقيقية للتطبيق؟ أم ستطوى من دون نتائج كما حصل مع سابقاتها من الخطط والمشاريع؟ ربما تكشف الوقائع في الميدان الإجابة على ذلك خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة.