واجه الأدب النسويّ صعوباتٍ كثيرة منذ نشأته حتّى يومنا هذا؛ ولعلّ أكبر مشكلةٍ رافقته خلال التاريخ هي مشكلة المتلقّي، إذ لم تكن المشكلة يومًا في كاتباته، فالنساء كتبن أعمالًا إبداعيّة تتناول قضايا وهموم المرأة باستمرار، إلّا أنّها قوبلت بالسخرية والاحتقار في معظم الأحيان حتّى من قِبل الأدباء والنقّاد، فمحي الدين صبحي مثلًا يرى أنّ المرأة الكاتبة تنتهي مغامرتها الكتابية بمجرّد حصولها على زوجٍ متميّز يجعل منها سيّدة صالون: "لكي أظهر لك أنّ قضيّة تحرير المرأة مزيّفة، أحيلك إلى النساء المثقّفات... دعني أرسم لك الخطوط العريضة لمسار المرأة المثقّفة في بلادنا: إنّها تبدأ مسيرتها في الحياة العامّة بنشر بعض الشعر المنثور، ثمّ تتطوّر فتكتب بعض القصص القصيرة، أو رواية متوسّطة الحجم والقيمة، وقد تكتب بعض المقالات للمؤتمرات النسائيّة، وغيرها... فإذا حقّقت لنفسها مركزًا مرموقًا، وحصلت على زوجٍ متميّز، استمرأت وضعها وتحوّلت إلى سيّدة صالون!"
هذا المثال غيضٌ من فيضٌ من الأحكام الجائرة التي أطلقت على الأدب النسويّ، ولا تقتصر هذه الأحكام الجائرة على مجتمعاتنا العربيّة، وإنّما وجدت في آداب وثقافاتٍ أمم أخرى، ولعلّ هذا كلّه يصبّ في خانة التجاهل لما تكتبه النساء، وهو موقفٌ قديم قدم التاريخ نفسه، فلطالما قُدّمت لنا نساء الأدب العظيمات من خلال عيون الجنس الآخر، ومن خلال العلاقة التي تجمعهنّ به، مع أنّ ذلك الحيّز من مجمل حياة المرأة ضئيلٌ جدًّا، ولعلّ مي زيادة أوضح مثالٍ ينقض المسار الذي رسمه محي الدين صبحي للنساء المثقّفات؛ لأنّها خرجت من ذلك الصالون الذي يفترض الرجال سعي المرأة المثقّفة الحثيث لتكون سيّدةً فيه.
حين يُذكر اسم مي زيادة، يخطر اسم جبران خليل جبران لصيقًا به، نتيجة للمراسلات المشهورة التي كانت بينهما، واستمرت لسنوات، ولذلك فإنّ حصر أهميّة ميّ بعلاقتها بجبران أو ببقيّة الأدباء والمفكّرين في عصرها ممّن دأبوا على حضور صالونها الأدبيّ الذي ذاع صيته في القرن الماضي؛ ما هو إلّا نوعٌ من الحصار للمرأة المبدعة وتهميشٌ لها في مجتمعٍ لا يستطيع أن يرى المرأة كيانًا منفصلًا ومستقلًا عن الرجل؛ لذا نجد التاريخ الأدبي يهتمّ بحياتها وعلاقاتها أكثر من اهتمامه بأعمالها الأدبيّة.
لقد انصرف معظم الأدباء والنقّاد عند الحديث عن ميّ زيادة إلى ما كتبه الآخرون عنها، وهذه الكتابات معظمها تركّز على حياتها الشخصية وما وُصف بعلاقاتها الغرامية ورسائلها، إلّا أنّنا حين نقرأ مؤلّفات ميّ وما كتبته في مواضيع متنوّعة نجده يضارع في قيمته وأهميّته ما كتبه كبار المفكرين والأدباء في عصرها، يُضاف إلى ذلك قدراتها الإبداعية وأسلوبها المتفرّد في الكتابة.
لقد أعلنت ميّ هواجسها بخصوص الكتابة النسويّة وموقف الجنس الآخر منها في وقتٍ مبكّر وذلك في مقدّمة كتابها (سوانح فتاة)، وأدركت بوعيها العميق موقع المرأة الكاتبة في المجتمع الذي لا يستطيع أن يعتقها من تلك النظرة النمطية، إذ تقول: "إنّ رغبة الجمهور في تذوّق إنشاء المرأة لا تعرب عن إكباره لذلك الإنشاء، أو عن إقراره بصدق الفراسة منها، وإنّما لأنّ في كتابتها مظهرًا من مظاهر الذات النسائيّة العامّة".
ثمّ تنهي مقدّمتها تلك بهجومٍ ضمنيّ على أولئك الرجال الذين ينظرون إلى المرأة نظرةً دونيّة تفصل المرأة عن النوع الإنساني المحصور لديهم في الرجل؛ لتؤكّد أنّ ما تكتبه المرأة يصدر عن النفس الإنسانية الشاملة، وأنّ كلّ نقصٍ يشوبها إنّما يرجع إلى العجز البشريّ الشائع، وكلّ أثرٍ من آثار ذكائها إنّما هو وجهٌ من وجوه الفكر الإنساني العام.
لعّل ميّ هي أوّل رائدة نسويّة تشير إلى عالم المرأة الخاصّ، حين تحدّد ملامح حضور المرأة في محيطها ومجتمعها وفي العالم بأسره، وهذا العالم بنظرها عصيّ على الاختراق من قبل الرجل ـ وإن رفع شعارات تحرير المرأة وتثقيفها وتعليمها ـ لأنّه ينظر إلى موضوع المرأة من الخارج، وليس بإمكانه مهما توخّى الدقّة والموضوعية أن ينفذ إلى تفاصيلها وتكوينها، وبالرغم من أنّها تثمّن مبادرات رجالات عصرها في موضوع تحرير المرأة ومنهم: قاسم أمين ورفاعة الطهطاوي وبطرس البستاني، إلّا أنّها تصرّ على أنّ من يحرّر المرأة هي المرأة نفسها، وهذا الموقف تعلنه من خلال مراسلاتها مع ملك حفني ناصف (باحثة البادية) وتضمّ صوتها إلى صوت باحثة البادية التي تنتقد دعوة قاسم أمين إلى تحرّر المرأة، وتناقش جوانب القصور فيها: "المفارقة التي تحيّرني في كتابة الداعين إلى تحرير المرأة أنّهم تصرّفوا باستبدادٍ شديد يفوق الاستبداد القديم، إنّ أحدًا لم يهتم بأن يسأل المرأة ماذا تريد؟ ومع ذلك فكلّ واحدٍ لديه تشخيصٍ وحلول وأدوية، لكنّ المريض غائب عن الحضور، أو غائبٌ عن الوعي.. ممّا يجعل تشخيصات المهتمين رسومًا في الهواء، أو تجريداتٍ ذهنيّة تتحلّل عند ملامسة الواقع".
لقد اتّسمت كتابات ميّ حول المرأة بالاعتدال والتعميم وتجنّب الخوض في أمور حسّاسة ومثيرة للجدل كموقف الإسلام من المرأة، وقضيّة الحجاب، ويعود حذرها من الخوض في هذه المواضيع الدقيقة إلى انتقادها بشدّة من قِبل الأديب المصري محمّد لطفي جمعة بسبب بعض آرائها، إلّا أنّنا نستطيع اعتبار القليل الذي كتبته كثيرًا، وأنّها نجحت في بلوغ هدفها بذكاء حاد، فانصرفت عن المواضيع المثيرة للجدل وركّزت على إيصال الفكرة واستفزاز العقل ليبحث فيها وعنها.
إنّ حريّة المرأة عند ميّ تتكوّن من عنصرين أساسيين: التعليم والعمل؛ التعليم الذي يسهم في تثقيفها وعقلنتها وارتقائها الفكريّ والعمليّ وتهذيب طباعها وتنمية ملكاتها ومواهبها، والعمل الذي يحقّق حرّيتها بمعناها المتّزن الحقيقيّ الذي يجنّبها الفوضى، وتشير بدقّةٍ إلى عامل الوقت المهدور في حياة المرأة، ووجوب استثماره في تطوير وارتقاء قدراتها، وتؤكّد أنّها تريد للمرأة الحريّة وتعنيها، وهي ليست الإباحيّة كما يزعم كثيرون، والفرق بينهما أنّ للواحدة حدودًا تهدمها الأخرى وتتجاوزها، كما نراها تنتقد خضوع الفتاة لآراء والديها في شؤون حياتها كلّها؛ لأن ذلك يجعل منها امرأةً مسلوبة الإرادة عاجزة عن اتّخاذ أيّ قرار، والمرأة الحرّة هي تلك التي تجيد إدارة محيطها وتجيد التأثير فيه، ولقد أشارت ميّ في مكان آخر إلى أنّ المرأة الغارقة في العبودية تربّي جيلًا من المستعبدين، وبالتالي فحريّة المرأة مرتبطة بحريّة الأجيال المقبلة ولا ترتبط بها فقط.
كما ترى أنّ هذه الفتاة العاجزة عن الاستقلال برأيها قد تصير في المستقبل (والدة) لكنّها لا تصير (أمًّا) وإن دعاها أبناؤها بهذا الاسم لأنّ في (الأمومة) معنىً رفيعًا يسمو بالمرأة إلى الإشراف على النفوس والأفكار، والعبدة لا تربّي إلّا عبيدًا ولا خير في رجالٍ ليس لهم من الرجولة غير ما يدّعون.
كما تتحدّث في سوانحها عن الحروب التي تشتعل بسبب الدين: "إنّ الأديان لتبرأ من فظائع الحروب، ولا تجوّز إلّا الدفاع عن الوطن إذ هاجمه الأعداء، ولكنّ جميع النفوس لا تفهم الأديان كما هي، بل كلّ منّا يفهم دينه حسب درجة عقله وميول قلبه... وكثيرًا ما يستفيد رؤساء الشعب والحكومات من هذا التعصّب فيشهرون الحروب، ويقودون الشعب المسكين إلى حيث لا أثر للدين، ولا منفعة لغير السياسة".
ولا يفوتها في سوانحها الحديث عن العادات والتقاليد التي هي بنظرها مجرّد اصطلاحاتٍ على طقوس الأمس التي لم تعد صالحة لليوم، وقد لا يبقى منها شيء بعد مرور أعوام، ومع ذلك لا ينفكّ الناس عن اتّباعها صاغرين؛ لأن العادة أقوى الأقوياء وأظلم المستبدين.
وتعرّج في سوانحها على مدّعي الأدب في نقدٍ ساخرٍ لهم: "إذا كتب المرء مقالاتٍ قليلة في الزراعة مثلا، حاز دفعةً واحدةً جميع الألقاب الكتابيّة المدوّنة في القاموس، فأصبح كاتبًا مجيدًا، أديبًا أريبًا، مفكّرًا مبتكرًا، شاعرًا فذًّا، خطيبًا مفوّهًا، سياسيًا محنّكًا، عالمًا علّامة، وبحرًا فهّامة".
ولا ترى ميّ أي جدوى من المواعظ والمنابر، لأن الناس يسمعونها، ولا يبذلون أي جهدٍ لإدراك كنهها، وإن هم أدركوها فلا يعتقدون بوجوب تطبيقها على أعمالهم، لأنها كجميع النصائح تقلّ قيمتها بالتكرار، ويُستخفّ بها كلّما تبرّع بها المتبرّعون.
ثمّ تتطرّق إلى مسألة الحكم على الآخرين التي لا يراعي فيها الناس حين يحكمون على الآخر ما يجيزونه لأنفسهم، وإنّما: "يحكمون وفقًا لنصوصٍ صلبة جُمعت في الجدول الأخلاقي الذي يتسلّحون به أمام بعضهم بعضًا، فإذا ما طُرحت العيوب في سوق المزايدة، هي مزايدة لا تقبل المناقصة مطلقًا، عمد المتحدّثون الذين صار كلّ منهم في ذلك الموقف بارًّا صفيًّا وقدّيسًا مفضالًا، عمدوا إلى ذلك الجدول الصارم كوجه الجلّاد، وكما أنّ جدول الحساب الذي وضعه فيثاغورس اليوناني هو جدول ضرب، كذلك كان الجدول الأخلاقي لمساوئ العباد والحكم عليها، جدول ضرب تعالت أرقامه الشريفة عن كلّ طرحٍ شائن".
لعلّ ميّ حين قرّرت أن توصد باب صالونها في وجه عشّاقها ومريديها؛ إنّما أرادت أن تكسر تلك القوقعة التي أراد المجتمع أن يحبسها في داخلها، مجتمع يتردّد في قبول المرأة مثقّفة وكاتبةً، ويحيطها من كلّ صوبٍ ليخنق صوتها، ولعلّ ما يثير الاستغراب أن أديبًا بحجم العقّاد حينما سُئل عن أدب ميّ أثنى على لطفها وجمال روحها، وما إلى ذلك، متجنّبًا عن عمدٍ الحديث عنها بوصفها كاتبةً ومثقّفة صرفت جهدها وأدبها إلى القضايا الكبرى في عصرها، متسلّحةً بثقافةٍ قلّ نظيرها، ونشرت مقالاتٍ أدبيّة ونقديّة واجتماعيّة، كما أبدعت في مجال الصحافة، والدفاع عن حقوق المرأة بمنطقٍ متّزنٍ واعٍ.
إنّنا نظلم مي زيادة حين نركّز على حياتها الشخصيّة وعلاقاتها بأدباء عصرها وعظام المفكّرين الذين كتبوا عنها، لتكون كتاباتهم تلك مفتاحنا في تكوين صورتها؛ صورة مؤطّرة للمرأة المثقّفة الجميلة الذكيّة التي وقع في هواها جميع من ارتاد صالونها الأدبيّ الشهير الذي حقّق لها شهرة أدبية واسعة، وأحاطها بكبار المفكرين والأدباء الذين يتبارون في خطب ودّها؛ إلّا أنّها أدركت بوعيها العميق أنّ من حولها يحاولون اختزالها في صورة معيّنةٍ ترضي الثقافة الذكوريّة التي ما تزال تضرب أطنابها على الأدب، والغريب أنّ ميّ زيادة خاضت في أواخر عمرها معركةً تثبت من خلالها سلامة عقلها وبراءتها من الجنون الذي نُسب إليها إثر أزمةٍ نفسيّة مرّت بها عقب وفاة والديها وجبران، عزاها كثيرون إلى تقدّمها في العمر وعدم حصولها على زوجٍ وعائلة، ممّا دفع أقرب الناس إليها للتآمر عليها، واتّهامها بالجنون ليودعوها في مصحّة عقلية ويحجروا على أملاكها، وبعد كفاحٍ طويل ومرير تمكّنت من تكذيب ادعاءاتهم بمساعدة بعض الأصدقاء المخلصين القلائل؛ وتشهد الجموع التي تقاطرت إلى محاضرتها (رسالة الأديب إلى أهله) بخروج ميّ من حالة الجنون التي أُلصقت بها زورًا؛ لكنّها خرجت أيضًا من صالونها ولم تعد إليه!