البث المباشر
"في سجن صيدنايا لم يكن الموت هو العذاب الأكبر، الخوف هو ما كان يشق الروح، كان الخوف يقتلني.. يختبئ في كل شيء؛ في صوت أقدام السجانين، في ضحكاتهم، في ليل العذابات الطويل".
إنها كلمات العائد من الجحيم عمر الشغري:
"يدخل السجان مع السخرة (الموت) يضعون الطعام عند الأبواب. يفتح الباب:
كان علي أن أقف بوضعية الركوع، كي أنتظر موتي. كنت في المهجع الثالث، سمعت السجان يفتح الباب الأول من المهجع الثاني.. صار صوت الموت أقرب، أسمع الضرب وأسمع شخير الموت. ثوان معدودة اقتربت قدما السجان، لم أعد أحتمل. أركض إلى الخلف وأتراجع وأنا أبكي. يركض شخص مكاني، ويموت ذلك الشخص".
/عمر الشغري- اعتقال 2012 لمشاركته بمظاهرات قريته البيضا بريف بانياس، كان عمره سبعة عشر عاما/.
هذا البوح والأنين يرتسم بخطاه في آخر فقرات "الشراقة" للإعلامية والكاتبة الفلسطينية السورية سعاد قطناني.
"الشرّاقة" ذاكرة خطاب ناجين وناجيات من السجن/ الموت/ الجحيم
ذاكرة انتقلت من الخطاب الشفوي عبر برنامجها "يا حرية" والذي عُرض على تلفزيون سوريا -هناك اللقاء بوح وحوار تختبئ خلفه كضمير غائب، الكاتبة معدة ومحاورة- هنا بياض الورق يحتضن النشيج يتواشج معه، يصغي حبو الكلام لطالما يسترخي صهيل الحروف كي تعبر ضفاف الحضور.
لماذا الشراقة كعنوان؟
تقول سعاد قطناني في المقدمة: "إن الشراقة عندما تُفتح، لاتفتح على الفضاء والضوء، بل لتلقي أوامر من السجان".
ولربما أيضا القول إن دلالات المعنى، ستختلف من تدمر الجحيم، حيث "الشراقة" سلطة السجان المطلقة، يقف ويتلصص على المعتقلين؛ ليرميهم بصباح ذي رعبٍ قد يصل إلى الموت، قبل التلذذ بابتكارات وبصمات خاصة تطول بهم دروب النهاية.
لربما "الشراقة" خاصة في سجون الفروع الأمنية، تنحو منحى المراقبة وحفيف صوت آخر يمشي في الرواق أو أنين صوت يأتي من زنزانة أخرى.
"في بعض الأحيان كنت أقاتل كي يفتحوا الشراقة، وأصرخ أني أكاد أختنق, فقط ليتسلل بعض الضوء...". / تهامة معروف اعتقال 1992-حزب العمل الشيوعي/.
تحاول سعاد قطناني في "شراقتها" الانفتاح على دلالة المأساة (الفاجعة) بما هي حضور لهن ولهم، كانوا جسداً وروحاً في البرنامج، هنا يهمسون ويهمسن بكلمات متقطعة، يحاورون لغتهم عبر المؤلفة، مثلهم كمثل أي عمل روائي متخيل، لكنهم من بشر وذاكرة وتاريخ مسكون بالفجيعة، ليسوا من ورق وحبر ناشف وجامد. اثنا عشر ناج وناجية، أزمنة تتراءى عبر خمسين عاما من طوفان القهر والجنازير. من ثمانينيات القرن الماضي إلى الفصل الدامي ما بعد 2011، عندما امتلأت صرخات الحرية أزقة وحارات سورية.
"هززت الجسد كي أوقظه، حاولت تحريكه فانقلب جانبا، عندها عرفت أني اتشارك هذه الزنزانة مع جثة. ابتعدت عنها وكأني ازيح الموت عني..وجدت مسمارا حادا في الزاوية؛ كان ذلك المسمار أنيسا في وحدتي، صار قلماً وفرشاة وحكاية. أما أنا -الكاتبة- فما زلت في تلك الزنزانة أشم رائحة الموت وأحفر بإصبعها كلمة حرية". /حكاية رزان محمد حنطاية اعتقالات 2013/.
تستعيد"الشراقة" في اثني عشر "حواريين وحواريات" تراجيديا طقوس العود الأبدي التي ستتعارض مع "مارسيا إلياد" بأنها حنين إلى ما مضى" فردوس مفقود"، إنما هنا عودة الجلاد إلى التلذذ أكثر بضحيته، كي يصل الانتهاك إلى نهايته القصوى.
تراجيديا السجون السورية ما بين سجن تدمر الجحيم إلى صيدنايا السجن الأحمر، مرورا بصيدنايا حينما تأسس عام 1987 بجماليات المكان، وعلى لسان المعتقلين أو بتعبير "قوقعة" مصطفى خليفة المعتقل الجبلي مقارنة بتدمر المعتقل الصحراوي.
إنما ستفترق دلالات الأحمر الصيدناوي بصيغ أكثر التصاقاً بالذبيح، هنا تتكور الضحية أو تتمدد حتى تصل حالة "السجود" الركوع مع وضع اليدين على العينين، ذبيحة سيضحي بها على وليمة الجلادين.
في "الأحمر" لا وجود للشراقة وحراس خديعتها، باب حديدي أسود تناثرت على أنيابه بقع حمراء حيث الذبيحة تلملم شظاياها!
في تدمر تقف الضحية لكنها منحنية ومغمضة العينين وتنتظر التعذيب وحارس "الشراقة" يتلهف لفريسةٍ جديدة.
تنسج /فدوى محمود اعتقال 1992- حزب العمل الشيوعي/ سنارتها على "صفعة"ٍ كانت قد تلقتها من أخيها رئيس فرع التحقيق في الأمن السياسي: "جاء أخي وناولني صفعة على وجهي.. انكسر في داخلي شيء كبير وتهشم".
تخرج من المعتقل، بعد عامين. تعاود الحياة دورتها اللاطبيعية بعد انفجارات الحرية، حيث الآن عام 2012 وشهر أيلول بأوراقه الصفراء تدمى على أزقة صحنايا في ريف دمشق، تنتظر /عبد العزيز الخير القيادي في هيئة التنسيق الوطنية المعارضة، والقيادي في حزب العمل الشيوعي، كان قد اعتقل من 1992 حتى 2004/، تهتف لولدها ماهر، كي يقله من مطار دمشق وكان عائدا من أحد اللقاءات في الصين: "كان الموعد الساعة الرابعةعصراً.. بدأت بتحضير الطعام.. أتصل، أتصلُ بعد ساعة بعد ساعتين، إنه خارج التغطية..".
ولمّا يزَلْ خارج التغطية بعد مضي أكثر من تسع سنوات!
يسافر الزمن الواقعي محايثاً للزمن السردي في "الشراقة"، إننا هنا أمام إحياء "التجربة" بين زمانين مغايرين 1980/ 2012.
عمر الشغري ابن السابعة عشر، محمد برو أيضاً وعمره سبعة عشر عاماً. يُشرع الجحيم أبوابه على كوميديا بشرية، تنأى بنفسها عن الكوميديا الإلهية لـ (دانتي).
كوميديا (دانتي) رحلة تخيلية، أقانيم ثلاثة: الجحيم، المطهر، النعيم. قبل عبورها كُتبَ على بابها:
"وأنتم الداخلون إلى هنا، عن كل أملٍ تحلّوا. يُسمع صرخات المعذبين..".
"السورية" في صياغة الأب والابن
رحلة الفاجعة يحاول محاكاتها المتخيل ولم يستطعْ بذلك سبيلا؛ "الصالحون" من أهل السلطة والقوة، يتلذذون بعذابات الضحايا، كي يشعرون بالنشوة أنهم أصحاب "النعيم"!
على الأبواب الصدئة وزواياها العتيقة، المأثور الديني بعبارات العقاب دون الثواب، "عُلِقَ "على سوطٍ:
"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب".
"وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".
يأتي /محمد برو، اعتقال 1980-1993 على خلفية قراءته مجلة النذير الناطقة باسم الطليعة المقاتلة، التنظيم الذي تبنى العنف المسلح و انشق عن تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا، عمره كان سبعة عشر عاماً/ حاملاً مرآته التي تعرف من خلالها على ملامحه بذات شارب بعد غياب دام أحد عشر عاماً خلف العتمة: "في الطريق إلى تدمر قبل الدقائق الأولى للفجر، وقبل الدخول السريع إلى عالم الجحيم، مررنا بمزرعة نخيل، فيها جدول ماء صغير، يستلقي على جانبه فلاح معفر بالتراب، تحت نخلةٍ رأسه ملفوف الكوفية.. كان مستلقياً على الأرض بسلام..".
محمد برو ناج من المقصلة وهذا عنوان يومياته التي صدرت بعد هذا البوح هنا، ناجٍ؛ سبعة اعتقلوا معه لنفس التهمة /حيازة النذير وقراءتها/، هؤلاء حوكموا بالإعدام إلا هو، تأخذ "الحكمة الأمنية" بالاعتبار سنّه القانوني دون الثامنة عشر!
سوف يردد بيومياته تلك: "والمدينة ما تزال في سباتها العميق، وصوت مكبس القرميد كما هو، لم تتغير معزوفته الحزينة منذ سنوات ولم يتوقف عن الأنين".
تنحو "الشراقة" مع /رياض أولر، المواطن التركي الذي اعتقل مع زوجته عام 1996، قضى هو 21 عاما وزوجته ستة أعوام، كتبَ مقالاً تجاوز خطوط الطول والعرض: الأحوال الإنسانية في سجن تدمر- مجزرة تدمر/ منحى لمعتقل مخضرم ما قبل الألفية وما بعد الألفية.
سوف يتعرف لكافة المناطق "الأثرية والسياحية" من صيدنايا إلى عدرا إلى فروع شتى للأمن السياسي، سوف يشهد بأم عينيه المشاهد الدموية لما سمي بـ الاستعصاء في سجن صيدنايا، في 2008.
كطائر حزين في قفصه يشدو رياض اولر:
"في فرع التحقيق في الفيحاء.. شكله من الخارج جميل وبهي. تحت هذا البناء الجميل المحاط بالأشجار، وضعوني في منفردة فيها ثلاثة ثقوب، هذه الثقوب كانت كل عالمي لمدة سنتين".
مع ابتسامة ترتسم على وجهه، يتذكر قرار المحكمة لصاحبها الجلاد "القاضي" فايز النوري:
"مؤبد؟" يسأله رياض.
تأتيه صفعة الإجابة: "انقلع، ولك انقلع". وانقلعتُ 21 سنة.
/مالك داغستاني، اعتقال 1987، حزب العمل الشيوعي، بقي طيّ الاعتقال قرابة التسعة أعوام/.
"أنت بابا؟". طفلته التي ولدت بعد اعتقاله، كيف لها أن تتعرف إليه؟
داغستاني كان قد ترك الحزب قبل الاعتقال بعامين؛ كان مطمئناً أنهم لن يقتربوا منه. إنها إحدى الحملات التي وصل بها "الدم للركب"، سوف لن تستثني أحدا، هكذا أيضاً رفيقه /إبراهيم بيرقدار/ الذي كان قد قرأ جريدة الحزب السرية (الراية الحمراء)، وآخرين وآخرين.
إبراهيم بيرقدار سوف يبقى أيضاً تسع سنوات.
يلتقيان كما المئات في سجن صيدنايا مع الإطلالة البهية للسجن، بملامح أنها رحلة استجمام لهؤلاء "المنسيين". وكان قد دشّنه وحضر الافتتاح قبلهم سجناء تدمر والمزة وفروع التحقيق، من كافة الأطياف السياسية السورية، يسارها ووسطها ويمينها!
"السجن هو المكان الأمثل في الحياة لصناعة الأوهام.. حتى الأمكنة عند استعادتها تفقد صورتها الأصلية، يصبح البيت اسطورياً". هكذا عرّف مالك داغستاني سجنه.
"كانت سوريا على بعد دقتي قلب ودمعة". هدهدتْ حنينها سعاد قطناني عندما شارفت المكان، إنها مدينة غازي عينتاب التركية، على مرمى غصات من حلب. سوف تلتقي هنا /حسن النيفي اعتقال 1986- 2001.. خمس عشرة سنة فقط لا غير، بتهمة الانتماء لـ "حزب البعث القيادة القومية- تنظيم العراق"/.
قبل نهاية "الخدمة" وبداية عام 1996، كانت "المكافأة" -لبعض المعتقلين من مختلف أشكال الطيف السياسي- ترحيلهم إلى سجن تدمر حيث الجحيم ينفتح على "الشراقة" دلاليا ومعنويا.
سوف يكتب عن هذه الرحلة وسنوات العجاف في نهاية سجنه، راتب شعبو (ماذا وراء هذه الجدران).
"سأمضي، لأن هناك دائما ما يقال خارج الكتابة، خارج الكلمات. هل هناك ما لم يقله مصطفى خليفة في روايته "القوقعة"؟ الآن حكايته وحده".
مصطفى خليفة سوف يحضر هنا بصفته معتقلا سياسيا أمضى أكثر من ثلاثة عشر عاماً 1981-1994- حزب العمل الشيوعي.
يتماهى الروائي و"قوقعته" مع الحكاية، يستبطن وجع الآخرين الساكنين على أطراف "المطهر" وذاك (المخرج)، حيث قاده الحنين للوطن، إلى رحلة الجحيم "تدمر الصحراوي"، لكنه سينفرد بمعاناة خاصة؛ لا ينتمي "للمهجع" اعتقادا أو فكرا، يحتمي بثقوب الجدار، ويتلصص: "كنتُ أدوّن الحاضر على لوح الذاكرة، بلا أوراق ولا أقلام".
تهامة معروف التي بكتْ على حافة الحرية. اعتقلت عام 1992، يخلى سبيلها، تحاكم غيابياً، عام 2010 يلقى القبض عليها وينفّذ فيها الحكم الصادر في 1995!
"كانت معنا (ضحى)، حامل بشهرها الثالث حينما اعتقلتْ 1992، مرَّ الوقت وأزِفَ موعد الولادة.. بدأنا التحضيرات باحتفالية لزاوية المولود الجديد. أخذوها إلى المشفى وحيدة مع جنينها. كل البنات من جميع المهاجع كنّ في الانتظار.. كانتْ لحظة فرح حقيقية. 600 امرأة وفتاة جئن يباركن".
وتتابع قطناني: "ما أذهلني أثناء تدوين هذه الشهادات وكتابتها كحكاية ضمن كتاب، كان الألم يعود طازجا وطريا من روحي، وكأني أسمع هذا الهول والوجع لأول مرة. في العمل التلفزيوني كان هناك ألم المستمع وألم الشاهد، هنا أنا الشاهد والمستمع أستعيد وقع الألم عندي وعنده".
