على عكس أولى الصور الراسخة في ذاكرته عن منزل طفولته في الجولان، حين كان يزيح ستائر النافذة ليطل منها على جبل الشيخ المغطى بالثلوج في أشهر البرد خلال الشتاء، كبر النحات السوري حمادة مدّاح بقلبٍ دافئ مكّنه من تحويل الصلصال إلى رابطة عاطفية بين الجولان والأراضي الفلسطينية المحتلة، بل ومن تحويل فعل مثل رمي الحجارة على جنود الاحتلال إلى موقف فني وحضاري وشاعري.
من قريته في مجدل شمس، بدأت رحلة الشاب البالغ من العمر اليوم 42 عاماً، مطارداً حلمه بالدراسة في دمشق، لينتهي به الحال في القدس، حاملاً في ذاكرته صوراً عن مدنٍ شتى، مزقتها الحروب والاحتلالات والأنظمة الديكتاتورية، في تجربة نَدُرَ من عاش مثيلها.
تفاحة تربي أجيالا
في مقابلة مع المدوّن أحمد بيقاوي في بودكاست "تقارب"، يحكي مدّاح الذي كبر وسط عائلة من المزارعين، كيف تعمل إسرائيل على تهجير الأهالي والمزارعين من أراضيهم في مجدل شمس، عن طريق نصب ما يدّعون أنها مراوح لتوليد الطاقة، في حين يسميها مدّاح "المراوح القاتلة"، إذ إن طولها الذي يتجاوز 100 متر، وحركة مراوحها التي تغطي مساحة 40 متراً، تحرم المزارعين من التحرك بأمان لزراعة أراضيهم.
ومع ترصد "المراوح القاتلة" لأراضيهم، تفرض دولة الاحتلال عليهم شراء المياه المستخدمة للري، وهكذا بدأت هذه الأراضي بالموت، لأن كلفة رعايتها باتت أكبر من مردودها.
بهذه الأدوات، تسعى إسرائيل لإبعاد المزارعين عن أراضيهم في الجولان، بعد أن تكفل تفاحها بتربية وتعليم أجيال من أبنائهم، مثل مدّاح وإخوته، بحسب تعبيره.
القدس تعويضاً عن دمشق
في مواقف شبيهة بهذه الإجراءات شهدها مدّاح بأم عينيه في طفولته، فهم مدّاح الذي رأى أشياء مشابهة أيضاً من القتل والاضطهاد والاعتقال في فلسطين عبر شاشة التلفاز، أن ما يجمع الجولان وفلسطين أكبر من أن يحجمه سياج شائك على الحدود، وهكذا صار حلمه الأول أن يتابع دراسته في دمشق ويعود إلى القدس ليعلّم فيها.
وبعد 3 محاولات للحصول على تصريح أمني من دولة الاحتلال، يسمح له بالتوجه إلى دمشق لاستكمال تعليمه، نجح مدّاح أخيراً في الانتقال إلى عاصمة بلاده، هناك حيث شاهد وسمع أيضاً، لهجات وأماكن، لم يعرفها سوى في شاشة التلفزيون.
درس مدّاح في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، مختصاً بالنحت، بين عامي 2000 و2006، ويرى هذه الفترة مثل نافذة كانت تغلق أبوابها ببطء، منذرة بعودته إلى السجن الكبير في الجولان، حيث عاد إلى هناك جسداً تاركاً روحه في دمشق، كما يقول.
وبعد 3 سنوات من عودته إلى الجولان، وجد مدّاح نفسه مضطراً للبحث عن مكان يشبه دمشق ويستطيع الوصول إليه بسهولة، فكان أن توجه إلى القدس.
يحكي مدّاح عن مدى التشابه الذي وجده بين دمشق والقدس، اللتين تتمتعان بطابع البناء والحارات القديمة ذاتها، حتى باتت القدس تعويضاً عن كل ما أحسه وعاشه في دمشق.
الزمن الضائع
في القدس، بدأ مدّاح بتعليم الأطفال فن النحت، في عدة مدن من القدس إلى الخليل وجنين ورام الله وغيرها، ثم امتد نشاطه ورفاقه لتعليم الأطفال في الجولان أيضاً، من أجل المساهمة في بناء ارتباط فكري بين هذه المناطق.
ويوضح مدّاح، سبب اختياره لفن النحت تحديداً، بأنه شيء يبقى موجود ويتحدى الزمن والظروف، باختصار النحت فن مقاوم، ورغم قدرته على مواجهة الظروف القاسية والصمود، فالمنحوتات تظهر قوية صلبة ضخمة إلا أنها تحمل في داخلها فكرة فنية شديدة الحساسية.
من هذا المنظور، يصبح للصلصال برأي مدّاح بعداً سياسياً، لأنه يتربط بالتراب والأرض حيث يدور الصراع بين أصحاب الحق والمحتلين، وهكذا يتحول الحجر بيد المنتفضين إلى عمل فني، يعبر عن الإنسان ومقاومته، لأنه مصنوع من المادة نفسها التي يشكّل بها الفنان عمله.
يستذكر مدّاح، قصّة رواها له والده، قال فيها إنه فقد ساعة معصم في القدس كان يحبها كثيراً، بسبب شجار مع جنود الاحتلال خلال فض مظاهرة في البلدة القديمة، ويتساءل النحّات الشاب في قرارة نفسه، "ترى هل أعود لأكمل الزمن الذي أضاعه أبي من قبلي في هذه المدينة؟".