بدأت ميليشيا "لواء الإمام الباقر" المدعومة من إيران منذ الليلة الأولى في شهر محرم الهجري/ليلة 10/11 آب، بإقامة مجالس عزاء عاشوراء في عدد من أحياء حلب الشرقية وفي مناطق انتشار الميليشيات الإيرانية في الريفين الجنوبي والشرقي، وانتشرت رايات ولافتات المناسبة في الحسينيات والمضافات وفي الساحات العامة في عدد من الأحياء، ووزعت المشروبات على المشاركين والمارة وأقيمت الولائم.
وعلى عكس السنوات الماضية كانت طقوس عاشوراء في حلب لهذا العام أكثر كثافة وانتشاراً، وانتقلت الممارسة من إطارها الخجول والمحدود إلى الممارسة العلنية وبشكل مبالغ فيه، واتضح معها المدى الواسع للتغلغل الإيراني الثقافي والديني في الأوساط الشعبية في المدينة وريفها وذلك عبر الميليشيات والقوى والفعاليات المحلية المتعاونة معها والتي خلقت على ما يبدو بيئة مناسبة لهذا النوع من التمدد الخطير.
مجالس عاشوراء
احتضن مقر "لواء الباقر" في حي البللورة معقل الميليشيا في القسم الجنوبي الشرقي من المدينة المجلس العاشورائي المركزي، ويستقبل زعيم الباقر خالد المرعي المشاركين بعاشوراء يومياً وعلى مدار 10 أيام، وتبدأ ممارسة الشعائر من بعد عصر كل يوم وحتى ساعة متأخرة من الليل، وتتضمن إلقاء كلمات وخطب لمعممين شيعة في معظمهم موظفون في الملحق الثقافي بالقنصلية الإيرانية بحلب، ويستمع الحاضرون لأناشيد خاصة بالمناسبة، وغالبا ما يدعى المشاركون إلى وليمة عشاء. المشاركون في معظمهم عناصر وقادة في ميليشيا "لواء الباقر" ومقربون من أهالي أحياء حلب وريفها القريب، بالإضافة إلى حضور قادة وعناصر من تشكيلات مدعومة من إيران في حلب، مثل "فيلق المدافعين عن حلب" وميليشيا "نبل والزهراء" و "حزب الله اللبناني" و "لواء فاطميون" الأفغاني، وممثلين عن القنصلية الإيرانية في حلب.
ركزت كلمات بعض قادة ميليشيا الباقر على ضرورة الاهتمام بمثل هذه المناسبات وتنشئة الجيل الجديد عليها لأهميتها الكبيرة في التأسيس لجيل مقاوم، قال حسام الباقر وهو أحد قادة الميليشيا، إن "مجالس الإمام الحسين تصنع شباناً يتوجهون إلى جبهات القتال طلباً للشهادة وتفاخراً بِها"، وأضاف "لم نرفع الراية للحزن والبكاء، نحن قوم تعلمنا الشجاعة من الإمام علي والحرية من الإمام الحسين والإيثار من العباس نحن شعب المقاومة لن نهزم". ويضيف "ينبغي على الخطباء إثارة عواطف الناس تجاه الحسين وأهل بيت النبوة أكثر فأكثر وتوطيد العلاقة والرابطة العاطفية معهم، وتوضيح واقعة عاشوراء ومبادئها للمستمع، وإثارة المعرفة والإيمان ولو بشكل يسير".
قال عضو الهيئة العامة في المجلس الإسلامي السوري وسام القسوم لموقع "تلفزيون سوريا" إن "إيران تعمل بكل السبل والوسائل لتعزيز وجودها في سوريا، ولا تكتفي فقط بالجانب العسكري، إنما تتبعه بخطوات متعددة من أبرزها الجانب العقدي والديني، وتدرك إيران أن نشر المذهب الشيعي يرسخ الصراع الطائفي مع أهل السنة الذين هم المكون الرئيسي في سوريا، فهي بذلك تستهدف هوية الشعب السوري غير أبهة بتاريخه وثقافته ومعتقده".
أضاف القسوم "ما تقوم به أذرع إيران في سوريا ولا سيما ميليشيا الباقر يؤكد الرغبة الإيرانية على أعلى المستويات بإحداث تغيير ديمغرافي في سوريا، وذلك لأن ميليشيا الباقر مدعومة من الحرس الثوري الإيراني، كما تقوم إيران باستغلال نفوذها عبر ميليشيا الباقر كونها قائمة على أساس عشائري، وهذا يسهل عمل هذه الميليشيا التي تسعى لربط ثقافة وفكر العشائر بأهل البيت بحجة انتمائهم وانتهاء نسبهم لأهل البيت مما يجعلها تستغل هذا الجانب لإدراكها مدى اهتمام العشائر بموضوع النسب الشريف".
تابع "هذا يوضح بشكل جلي أن إيران تسعى للبقاء في سوريا لمدة قد تكون طويلة عبر نشر المذهب الشيعي واستغلال الجانب الديني، مستغلة في ذلك بعد الجيل عن العلم، وحالة العوز والفقر التي خلفتها آلة الأسد الإجرامية في سنوات الثورة".
يبدو أن زعيم ميليشيا الباقر والذي يفضل أن ينادى بلقب (الحاج باقر) قد خصص ميزانية كبيرة للاحتفاء بعاشوراء، بدا ذلك من خلال الحشود الكبيرة التي شاركت في الشعائر، والولائم والتجهيزات الخاصة بالمناسبة كالرايات واللافتات، وظهر الحاج باقر لأول مرة هاتفاً أمام حشد من عناصره والمشاركين في الشعائر، قال "هيهات منا الذلة هي بالنسبة لنا مبدأ، وهي بالنسبة لنا قيم، وهي بالنسبة لنا أخلاق، وهي بالنسبة لنا موقف، رددها أبطالنا في الجبهات، وشهداؤنا في اللحظات الأخيرة قبل اللحاق بالرفيق الأعلى، ورددها جرحانا، ويرددها أبناء شعبنا بكل عزمٍ، وبكل ثباتٍ، وبكل صمود".
أقامت ميليشيا الباقر وباقي الميليشيات الإيرانية المنتشرة في الأحياء الشرقية في حلب عدداً من مجالس عاشوراء، الفعاليات الكبرى شهدتها أحياء ضهرة عواد والأرض الحمرة القريبة من مساكن هنانو، وفي الريف شهدت قرية عزيزة جنوبي المدينة مجلساً عاشورائياً برعاية مختار القرية المقرب من زعيم ميليشيا الباقر، وأقيمت المجالس في عدد من القرى التي تنتشر فيها الميليشيات في ريف الحاضر وفي ريفي السفيرة ودير حافر على طريق حلب-الرقة، وشارك قادة الميليشيات في مختلف مجالس العزاء في الريف والمدينة.
تغلغل خطير؟
يأتي الاحتفاء المبالغ فيه بمناسبة عاشوراء برعاية ميليشيا الباقر وباقي الميليشيات الإيرانية في حلب بعد زيارة قصيرة قام بها رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف مطلع شهر آب/أغسطس الحالي، والذي زار دمشق أولاً وبشكل علني، ثم حلب وبشكل غير معلن، والتقى خلال الزيارة زعيم ميليشيا الباقر وقادة الميليشيات الإيرانية بحلب وقادة في "الحرس الثوري" في قاعدة جبل عزان جنوبي حلب، وقادة بعض الثكنات ونقاط التمركز الإيرانية في طوق المدينة، ويبدو أن "قاليباف" الذي التقى القنصل الإيراني في حلب أيضاً قد أمر بإظهار ما يمكن إظهاره من النفوذ الإيراني المتنامي في حلب.
الباحث في الجماعات الإسلامية جمعة محمد لهيب قلل من خطر التمدد الثقافي والديني الإيراني في حلب، فقد قال لموقع "تلفزيون سوريا" إن "إيران تحاول الاندماج بالواقع السوري أكثر فأكثر، حلب فيها تعقيد وخصوصية، الوضع شرقي سوريا مع ميليشيا فيلق القدس ربما أكثر وضوحا، تبقى المراسم العاشورائية سياسة إيرانية حتى قبل الثورة السورية إذ يعد هذا النوع من المفاخرة ضمن التأثير الناعم الضروري لجذب أتباع كثر، وللقول إنني هنا ولدي حاضنة شعبية ولإرسال رسائل داخلية وخارجية".
من جهته، قال مدير إدارة التوجيه المعنوي في "الجيش الوطني السوري" الشيخ حسن الدغيم، إن "المشروع الإيراني في سوريا متكامل، ويهتم بمختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والعسكرية والدينية والثقافية، والقطاعان الأخيران بالنسبة للمشروع الإيراني هما الأكثر أهمية في هذه المرحلة، ومن خلالهما سيكون لإيران تغلغل ووجود خطير وطويل الأمد في بنية المجتمع السوري".
وأضاف الدغيم خلال حديث لموقع "تلفزيون سوريا" أن "دعم الميليشيات والقوى المحلية المتعاونة مع إيران هو الخيار الأمثل لتنفيذ سياسة التغلغل، فميليشيا لواء الباقر العشائرية مثلاً في إمكانها استقطاب المزيد من المريدين والأتباع للمشروع الإيراني، والتوسع أفقياً وعمودياً في الترويج للمشروع في المجتمعات المحلية التي تنتشر بينها، هناك الكثير من المغريات التي تستفيد منها إيران في جذب الاتباع والمريدين، كالبعثات الدراسية، والتمويل المباشر وتقديم الخدمات الأساسية مستغلة حالة الفقر والبطالة المتصاعدة في البلاد".
قال الباحث في مركز جسور للدراسات محمد السكري لموقع "تلفزيون سوريا" إن "القوة الناعمة التي بدأت إيران باتباعها أخيراً في سوريا سينتج عنها نتائج خطيرة على المدى البعيد، المشكلة ليست في ممارسة شعائر دينية من قبل طائفة سورية أصيلة، حتى قبل اندلاع الثورة السورية، المشكلة تكمن في التوظيف الإيراني لهذه الشعائر، ولهذا المذهب لنشر مشروعها الفارسي، وضم المزيد من الأتباع والمدافعين عنه، وهنا تكمن الخطورة".
الباحث في التسويق السياسي والاجتماعي علاء رجب تباب يرى أن "المجاهرة الشعائرية والثقافية التي نشاهدها في الشارع الدمشقي والحلبي، ليست وليدة المجتمع السوري، وفي الوقت ذاته ليست ارتجالية من الناحية السياسية، المجاهرة الشعائرية هو اغتصاب اجتماعي من قبل السلطة السورية والاحتلال الإيراني، ومحاولة لاستنبات الثقافة عن طريق فرض العادة سلوكيا لا فكريا، من الواضح أنّ إيران أوكل لها دولياً المهمة الأمنية والثقافية في سوريا، وكلا المهمتين يتأثران ويؤثران فيما بينهما بشكل كبير ومعقد جداً، أوكل لإيران أن تكون الدم الثقافي والديني الجديد المراد ضخّه في شريان الحضارة الحلبية والدمشقية".
وأضاف تباب خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" أن "هذا ما يفسّر حصول إيران على امتيازات خاصة تؤهلها لفتح جامعات ومدارس تعود لها مباشرة، إضافة إلى أنها أبرمت عقودا مع النظام أوكل إليها من خلالها مهمة الإشراف على تطوير المناهج التعليمية لسوريا، الفكر الشيعي السياسي أراد من خلال التنقيب عن القبور وتشييد المقامات وإقامة شعائره، استحضار المآسي والصراعات التاريخية بغية تغذية سردية الانتقام السوداوية التي يجيش بواسطتها الرأي العام، بغية تجنيدهم في صفوف الميليشيات الطائفية الغازية والعابرة للقارات التي يتحكم بها الفكر السوداوي التاريخي المسردب، فسياسة إيران بسوريا والمنطقة باختصار، إحياء القبور وقتل الأحياء".
تابع "كل ذلك بهدف تحويل الاتزان الحضاري الذي اتصفت به الحضارة السورية خلال مئات السنين إلى حضارة مضطربة تقوم على اللطم والانتقام وتفريخ الكوادر البشرية المهيجة ثقافيا ودينيا والمستعدة للارتزاق المسلح والتحوّل إلى سوق إرهابي بأي لحظة، يمكن القول باختصار لا يراد لسوريا أن تكون متزنة ومستقرة لأن الاتزان والاستقرار هو أحد أهم دعائم الاستقلال، واستقلال الدول المحيطة بالكيان الإسرائيلي خط أحمر لا يسمح به البتة، إيران الثقافية والأمنية في سوريا اليوم هي الموكلة بإعادة هيكلة الفكر والدين والثقافة بنكهة الإرهاب والارتزاق، فاستنبات الثقافة الشيعية الإيرانية السياسية المضطربة هو الكفيل بتحويل دمشق وربما حلب إلى مقبرة ثقافية لأهم حضارات العالم، ما يجري هو بيع لمستقبل سوريا وأيديولوجية الثقافة السورية وتحويلها إلى بيئة ثقافية تقوم على تفريخ الإرهاب".