غزة 2023، بعد سوريا منذ عام 2011، بعد الموصل 2017، بعد بغداد 2003، وما قبلهم وما سيأتي بعدهم. كلها محطات تشير إلى النزعة الاستعمارية الغربية في التعاطي مع الشرق ومع العرب بالتحديد. إنه انكسار التاريخ. وما يرتبط بتناقضات في طروحات الغرب، حول ما يحق له وهو محرّم على غيره. تُسهم المواقف الغربية من الحرب على غزّة في زيادة منسوب الشرخ الهائل بين المجتمع العربي والغرب. ما يجدد صراعاً حول الهويات، والقابلة لأن تصبح قاتلة. أو أنها حقبة تعيد إنتاج مفهوم صراع الحضارات. وقد أسهم الغرب نفسه في إعادة إحياء هذه الصراعات وتكريسها، بنتيجة مواقفه المنحازة لصالح إسرائيل في مواجهة العرب.
في السنوات العشرين الأخيرة، ومنذ الاجتياح الأميركي للعراق، تكرس الشرخ إلى حدوده البعيدة، ولم ينجح الغرب في إعادة إنتاج سياسة تتلاقى مع مصالح العرب وتطلعاتهم. في حين تعامى هذا الغرب عن عمليات قتل وتهجير ممنهجة شهدتها الدول العربية بسواعد عربية أيضاً، وكأنهم أرادوا في ذلك تبرير ما يمكن أن تفعله إسرائيل لاحقاً في أي عملية تهجير أو تطهير عرقي أو قومي أو طائفي. في الموروث العربي، ثقافة راسخة تعود إلى ما تعرض له العرب من غدر إبان الحرب العالمية الأولى، والذي تجلى في مسألتين مهمتين، الأولى خديعة دعم قيام دولة عربية متحدة، واللجوء إلى تقسيم المنطقة. والثانية، وعد بلفور وإنشاء دولة إسرائيل. تجددت الخيبة العربية من المشروع الغربي في العراق، وفي سوريا بالتحديد. إذ ترك الشعب السوري للقاء مصيره المحتوم من عمليات قتل وتهجير، على مرأى العالم، وهو ما يسنح للكثيرين الخروج وتبرير ما تقوم به إسرائيل من عمليات قضم للأراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان وصولاً إلى التجرؤ على فكرة تهجير أهالي قطاع غزة.
تكرس الحرب على غزة الانقسام مجدداً. في حين يحاول الغرب بنزعة استشراقية أن يقدم وجهة نظر ترتكز على أنه خلال 150 سنة مرّت، لم يقدم العالم العربي والإسلامي إلى العالم أي شيء يتعلق بالتطور أو الحداثة
وما جرى في سوريا ينطبق على العراق، والموصل تحديداً التي هجرت من سكانها في أشنع عمليات القتل الطائفي والمذهبي على مرأى العالم، بذريعة محاربة داعش. في حين كانت أبرز تجليات تقاطعات المصالح بين الغرب وإيران هي قتال إيران وجماعتها على الأرض في مقابل قتال الأميركيين من الجو. تكرس الحرب على غزة الانقسام مجدداً. في حين يحاول الغرب بنزعة استشراقية أن يقدم وجهة نظر ترتكز على أنه خلال 150 سنة مرّت، لم يقدم العالم العربي والإسلامي إلى العالم أي شيء يتعلق بالتطور أو الحداثة، في حين كان جزء كبير من العرب يواجه الفكرة الغربية، ومواجهة الحداثة، بناء على قناعة قائمة على بقاء مشروع استعماري قديم جديد ومستمر وهو بقاء إسرائيل في المنطقة. وهو المبرر الشرعي والواضح لتجديد العدائية للغرب.
بالنسبة إلى العالم العربي فإن الغرب يُترجم بأنه مشروع إسرائيل في المنطقة، وهي التجربة القوية والواضحة والجارحة إلى حدّ النزيف المستمر نحو القتل. ليس من المبالغة القول وفي معرض التعليق على كل ما يُطلق من مواقف غربية في أن إسرائيل هي آخر إمارة صليبية في المنطقة. ما يحّتم جموح الخيال العربي للبحث عن صلاح الدين الجديد.
وصل الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لتحويل التحالف الدولي لمحاربة داعش إلى محاربة حركة حماس، في تجاوز هائل لمنطق التاريخ، وللاعتراف بحق الشعب الفلسطيني
وبنتيجة هذه الأزمة، خُلقت إشكاليات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي على طريق مواجهة الغرب، وهو اللجوء إلى التطرف أو التنظيمات المتطرفة في سياق ترجمة الصراع عسكرياً ودموياً، من دون تقديم برنامج واضح يتعلق بإصلاح الوضعية السياسية والاجتماعية في المنطقة، ولا تقتصر فقط على ضرورة تحرير فلسطين، إنما العنوان الأكبر هو العدائية للغرب. لكنها عدائية مستمدة من الفوقية الغربية والعنصرية المعطوفتين على نظرية استشراقية، تتجلى في كلام الكثير من رؤساء الدول الغربية، وصولاً إلى حد وصف حركة حماس بأنها إرهابية، إذ وصل الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لتحويل التحالف الدولي لمحاربة داعش إلى محاربة حركة حماس، في تجاوز هائل لمنطق التاريخ، وللاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تحصيل حقوقه، وفك الحصار المفروض عليه والإعلاء من شأن قضيته، إنه صراع جديدة من شأنه أن يتأبد ويفتح السنوات المقبلة على المزيد من الصراعات وتكريس العدائية لذاك الغرب.