ليس من الموضوعية إطلاقُ صفات تتضمن "أحكاماً قيمة" على كاتب ما، كأن نقول إنه: متألق، متميز، تقدمي، رجعي، متعصب، متحرر.. ولكن محسوبكم يمتلك من الاندفاع والشجاعة والإصرار ما يكفي للقول إن إبراهيم صموئيل كاتب كبير، لأسباب عديدة يمكن للقارئ أن يصادفها في سياق هذا الحديث.
البداية والتريث وتجربة الاعتقال
كتبَ إبراهيم صموئيل -المولود سنة 1951- أولَ قصة قصيرة من تأليفه سنة 1968، بعنوان "الثوب الجديد"، ونشرها في إحدى الصحف، وفرح بنشرها بالطبع، لاسيما أنه كان في السابعة عشرة من عمره، ولكنه وقف مع نفسه وقفة جادة، فرأى أنه من الواجب على مَن يطرح نفسه كاتباً أن يتريث، ويتأمل، ويطَّلع، ويحوز تجربة حياتية واسعة.. وأقلع عن النشر مدة عشرين سنة، اعتُقل أثناءها مرتين، وسُجن بسبب انتمائه إلى رابطة العمل الشيوعي المعارِضة لنظام حافظ الأسد (التي تأسست في منتصف السبعينيات، وأصبحت فيما بعد "حزب العمل")، وفي سنة 1988، أصدر مجموعته القصصية الأولى "رائحة الخطو الثقيل"، عن دار الجندي بدمشق، فاستقبلها الوسط الأدبي السوري بحفاوة.. وفي مقدمتها التي كتبها الأديبُ الراحل ممدوح عدوان، وضع ممدوح إصبعه على أهم صفة تميزها، وهي أن من يقرؤها سوف يجد كل حرف فيها مجبولاً بالسياسة، ومع ذلك تخلو من جملة سياسية مباشرة واحدة.
(ترجمت رائحة الخطو الثقيل إلى الإيطالية سنة 1992، وترجمت قصص أخرى لإبراهيم إلى الإنكليزية والفرنسية والصينية).
حكاية شجاعة
كان إبراهيم مناضلاً صلباً، بلا شك، وهناك حكاية طريفة (على الرغم من مأساويتها)، عن ضابط أمن كبير (أعتقد أن اسمه علي خليل)، التقى بإبراهيم ورفاقه، في أوائل الثمانينيات، بعد أن أتى أمر إخلاء سبيلهم من حافظ الأسد شخصياً، ووجه إليهم السؤال التقليدي: كيف كانت إقامتكم عندنا؟ وهل لديكم ملاحظات؟
المعتقلون لا يجيبون، في العادة، عن هذا السؤال، لأنه سخيف، والإجابة عليه لا جدوى منها. ولكن إبراهيم قال له:
- كانت إقامتنا جيدة، وليس لنا عليكم سوى ملاحظتين؛ الأولى أن مربي البقر، قبل أن يُحضروا البقرات، يحسبون طاقة استيعاب البايكة، فإذا كانت تتسع لست بقرات، مستحيل أن يضعوا فيها سبعاً. الملاحظة الثانية: أتمنى أن تشتري لعساكرك سطولاً إضافية، لئلا يُحضروا الطعام للمساجين في نفس السطل الذي يشخون فيه.
عن قصص إبراهيم وأهميتها
سيكون كلام ممدوح عدوان عن "رائحة الخطو الثقيل" واضحاً لكل من يقرأ قصصها، وسيجد أن أبطالها إما معتقلون، أو هاربون، أو متخفون، ومع ذلك يتناول الكاتب قضاياهم الإنسانية، ويحفر عميقاً في دواخلهم، دون أن يغريه تصوير مشاهد القتل والضرب والتعذيب التي اشتهر بها كتاب أدب السجون، أمثال الروائي عبد الرحمن منيف صاحب الروايتين الرهيبتين، "شرق المتوسط"، و"الآن هنا"، وصنع الله إبراهيم في رواية "البصقة"، ونبيل سليمان في روايتيه "السجن" و"سمر الليالي"، والمغربي عبد القادر الشاوي في رواية "كان وأخواتها"، وفاضل العزاوي، ولطيفة الزيات، وراتب شعبو، ومصطفى خليفة، وحسيبة عبد الرحمن.. إلخ.
أكثر ثلاثة كُتّاب يكن لهم إبراهيم صموئيل الاحترام هم دستويفسكي، ويوسف إدريس، والفلسطينية سميرة عزام. وهنا مناسبة للحديث عن واحدة من قصص يوسف إدريس بعنوان "مسحوق الهمس"، فلعل إبراهيم يؤثرها بالمحبة أكثر من غيرها. تجري أحداث القصة في السجن، بعيداً عن أجواء التحقيق والتعذيب والاضطهاد بالطبع، ملخصها أن سجن النساء وسجن الرجال كانا متلاصقين، يفصل بينهما جدار سميك، وفي ذات يوم تخيل أحد السجناء، أن إحدى السجينات وراء الجدار تحبه، وتريد أن تتواصل معه، وكان ثمة سجينة، بالفعل، شعرت بالشيء نفسه، وصار كل منهما يضع طاسة الطعام، بعد فراغها، على الجدار مقلوبة، ويتحدث، فيعبر الصوتُ طبقات الجدار، ويستقبل الآخر صوته ليس على شكل كلام مسموع، أو همس، بل (مسحوق الهمس)، وهذه العلاقة استمرت طويلاً، والأحاديث اليومية بين العاشقين، عبر الطاسات، لم تتوقف.
إحباط كبير
أصدر إبراهيم صموئيل، بعد رائحة الخطو الثقيل، ثلاثَ مجموعات قصصية أخرى، النحنحات، والوعر الأزرق، والمنزل ذو المدخل الواطئ، وكان من الطبيعي أن يقف، وهو الذي أمضى عمره في مقارعة ديكتاتورية عصابة الأسد، إلى جانب ثورة الشعب السوري سنة 2011، ولكنه، على ما يبدو، أصيب بالإحباط، وهو يرى الأشهر والسنين تمر على سوريا وهي تُمَزَّق، وتدمر، ويهجر شعبها إلى أقصى أقاصي الأرض، وتعيث فيها تشكيلة وسخة من الدول والميليشيات، فلم يعد راغباً في الكتابة، وكان قد عاهد نفسه - كما صرح في آخر حوار معه نشر في موقع "عالم موازٍ" - ألا يكتب أية قصة يُمَكِّنُه تمرسُه من كتابتها، أو تمليها عليه ضرورة، أو حدث مهما كان جللاً، وهنا يستشهد إبراهيم هنا بما قاله محمود درويش ذات يوم، بأنه لو أمكنه لاستغنى عن ثلاثة أرباع شِعْره.
من هو رئيسكم؟
كتب إبراهيم صموئيل، في إحدى قصصه اللاحقة، أنه زار سويسرا قبل نحو عشر سنوات، وكان يمشي هناك بصحبة مجموعة أصدقاء سويسريين بينهم واحد يعرف العربية، وخطر له أن يسألهم: ما اسم رئيسكم الحالي؟ لم يكن يعرف أن هذا السؤال سيربكهم، ويحرجهم، فقد احمرت وجوههم، وصار كل واحد منهم يهرش رأسه، ويميل على صديقه، ويطلب منه أن يسعفه باسم الرئيس. حل بإبراهيم الندم على طرحه هذا السؤال، وقال للصديق الذي يقوم بالترجمة إنه يسحب سؤاله، ولكن ذلك لم يعد ممكناً، إذ استمر الأصدقاء السويسريون بالتفكير، والتداول، (كما لو كانوا يشاركون في مسابقة وقتها محدود). بعد ذلك خرجوا للقيام بجولة في المدينة، ودخلوا منطقة خالية من السيارات تماماً، يكثر فيها المشاة إضافة إلى بعض راكبي الدراجات الهوائية. وفجأة هتف أحدُهم. انظر. ذاك هو رئيس سويسرا. اسمه إيريك. نعم اسمه إيريك. سأله ابراهيم: أي واحد منهم؟ فقال: راكب الدراجة الزرقاء، لقد تولّى الرئاسة حديثاً. قال: إبراهيم: إنه متواضع، أليس كذلك؟ قال الرجل: لا أدري. عقّب إبراهيم بحميّة: كيف لا تدري؟ ألا تراه يركب دراجة؟ قال الرجل إن هذا طبيعي، لأن ركوب السيارات هنا ممنوع. قال إبراهيم: عرفتُ ذلك، لكنه متواضع حقاً. سأله باستغراب: هل تعرفه شخصياً؟ أجابه إبراهيم: بالطبع لا أعرفه، ولكن؛ لأنه يركب دراجة فلا بدّ أن يكون متواضعاً. مطّ الرجل شفتيه مستغرباً هذا الاستنتاج. لاذ إبراهيم بعد ذلك بالصمت، مكتفياً بالتصويت بـ "إمممم" على كل حديث يجري أمامه، فقد شعر بأن أي سؤال جديد يطرحه سيورطه، ويوطّن اليقين لديه بأنه قد جاء من كوكب بعيد.