أعياد الدولة الرسمية المزيّنة بالشاخصات، والمحلّاة بالأعلام وصور الرئيس، غير أعياد الجالية في الوطن والتي أنشأ لها النظام وزارة اسمها وزارة المغتربين، بل إنّ للدولة أعيادًا دون أعياد، وأعيادًا فوق أعياد، فهي تحتفل بعيد الجلاء احتفال نقرة الغراب، واحتفاء الواجب وتحصيل الحاصل، فليس أكثر من عطلة رسمية، ولولا العطلة ما علمت الرعية بالعيد.
والعطلة في سوريا عطلة وعطالة، سكون وسبات، تسكن فيها الشوارع والأسواق، وتتجمد الحركة، على عكس العطل الرسمية وغير الرسمية في بلاد الغرب حيث تنشط فيها الحركة وتدبّ الحياة في الشوارع والساحات ويزداد الكسب، بينما ليس في محافل الدولة ومكاتبها سوى برقيات التهنئة بعباراتها الخشبية التي لا تتغير مثل قبور الأجداد الطوامس.
ويرد ذكر المحاربين القدماء الذين يحضر بعضهم، فليس من بحث عن أبطال مجهولين منسيين، أو ذكريات مطمورة تحت رمال التاريخ
قد تقيم الدولة العتيدة للعيد الرسمي أو للذكرى مهرجانًا خطابيًا في مكان مختار، مثل الجامعة، يجتر فيه الخطباء وهم قاعدون طاعمون أقوالًا سابقة عفا عليها الدهر وأكل وشرب ونام وسَلَح، يسمعها الحضور مكرهين، وألفاظا بالية، مثل الملحمة والأبطال، والوطن يعلو ولا يعلى عليه، ويرد ذكر المحاربين القدماء الذين يحضر بعضهم، فليس من بحث عن أبطال مجهولين منسيين، أو ذكريات مطمورة تحت رمال التاريخ، أو اتخاذ العظة من الاحتلال لدرء احتلال جديد، يُذكر أن التمثيلية التلفزيونية "عواء الذئب" التي مثّلت للتذكير بالوطن والشهامة هي الأخيرة في مضمارها ومجالها.
مات الذئب بعد أن تسيد سنام سوريا الأسد.
قد تصدر الدولة المطبوعة على اللبن الصناعي والأوامر الجمهورية طابعًا تذكاريًا يلحس المواطنون صمغه الحلو، بعد دفع ثمنه ولصقه على وثيقة ستضيع تحت عجلات الدولة، إن كان وجه الطابع صورة البطل، أو قد يكون صورة المستعمر إن كان الطابع صورة للمستعمر المدحور.
يوم رحيل آخر جندي فرنسي عن سوريا هو يوم السابع عشر من نيسان تاريخًا، أما اسمه فليس مثل الأسماء، وليس على اسم جده ولا أبيه، وهو عيد الجلاء، وهو في دول أخرى اسمه عيد التحرير، أو عيد الاستقلال، وقد بات ذكرى بعيدة، بل إن النظام السوري زعم أن العدو المجلو عن البلاد ترك النجمات الثلاث والذي أصبح علم الثورة، لذلك اختار علمًا غيره، فالجلاء عنده جلاءان، جلاء الاستعمار وجلاء الإقطاع والرجعية.
يخفت صدى الأيام العظام بعد تعاور الزمن عليها، مثل حطين واليرموك وسواهما، ولم يكن الأجداد يحتفلون بتلك الأيام، فهي بضاعة وافدة. وقد تدارك المربّون وأصحاب الرأي والعقل والمكيدة اضطراب صفة الجلاء التي أطلقوها على تطهير البلاد من دنس المستعمر على نتيجة التلميذ في نهاية السنة الدراسية، وهي حصيلة جدّه خلال سنة من العلم والدرس، فبدلوها بتعبير أوفى صفةً، وهو "صحيفة التلميذ"، حتى لا يصير العام الدراسي حربًا، والمعلم محتلًا. يذكر أن جدلًا متأخرًا نشأ من إطلاق صفة الاستعمار المحمودة لغة على الاحتلال المرذول، فأصبح بعض النابهين يصف الاستعمار بالاستخراب.
لكن الدولة تجتهد بعيدي التشرينين، فبطلهما هو السيد الرئيس؛ تشرين التحرير، الذي يسميه المعارضون تشرين التحريك. وتشرين التصحيح، والتحريف به أجدى وأليَق، وعيد التصحيح أكثر احتفالًا وأشد بهجة من شقيقه تشرين التحرير، مع أنه لم يقع فيه ما وقع في تشرين التحرير من دماء ونيران، فهو ترقية لفظية لعيد ارتقاء العرش، وعيد تولي السلطة، فالنظام السوري بارع في الكنايات اللفظية، وتشريد الأسماء عن مسمياتها.
في عيد تولي العرش، وهو عرش حقًا؛ تُعقد الزينة، وتنصب السرادق، وتجول عربات مكشوفة في الشوارع، اشتغل عليها النجارون والفنانون مددا أطول أكثر من مدد حفر خنادق الحرب، وتنصب عليها الأنصبة والتماثيل واللوحات، ويحتفل المنتصرون بنصرهم المبين على الإقطاع والرجعية.
أما أعياد الجالية في الوطن، فلا تعيرها الدولة بالًا، وليس لها زينة أو لافتات وشاخصات، هي أعياد يفرح بها الناس ويتزاورون ويتبادلون الهدايا والطعام، ويرتادون المنتزهات والبساتين، ويلهو الأطفال، فيقصدون الحدائق وآلات اللهو.
كتبت صحيفة تشرين بمناسبة يوم الجلاء مقالات قليلة ندّد أحدها بفرنسا التي نزعت جائزة فرنسية كبيرة كانت قد خلعتها على الرئيس بشار الأسد، وقرأنا مقالات قديمة ورأينا في التلفزيون صورًا مكررة من ذكريات سابقة، وسمعنا بعض الأغاني القديمة من الإذاعة السورية.
أصحبت سوريا محتلة من جيوش كثيرة فارسية وروسية بعقود رسمية، ودُمّر نصفها تدميرا
لم تعد سوريا كما كانت، فقد تقلصت عن مساحتها يوم الجلاء، وانحسر عدد سكانها إلى النصف أيضًا، أو أدنى من ذلك، وتحسّر سوريون على الاستعمار، وتذكّروا أنه كان يتجنب دور العبادة، إما احترامًا أو اتّقاء للغضب، وأنه كان يبني السكك والقصور من أجل سرقة البلاد، فينتفع بها الناس بعض النفع، وليس مثل اللصوص الجدد، وأصحبت سوريا محتلة من جيوش كثيرة فارسية وروسية بعقود رسمية، ودُمّر نصفها تدميرا.
بات كثير من أبناء يوسف العظمة وميسلون يحنّ إلى عهد الاستعمار، وقد جلا نصف الشعب أو أكثر هربًا من الاستعمار الجديد. نجا بعضهم بثيابهم وأحلاسهم، وباع آخرون بيوتهم، واقتحموا لجج البحر الذي عبره جيسون في ملحمة الأوديسة بحثًا عن الفروة الذهبية، لاجئين إلى ديار المستعمرين السابقين، على طوّافات من المطاط المنفوخ. أما الوطن، فلم يبق منه شيء. إنّ الاستخراب الجديد جعل النفي الذي كان عقوبة تشريعية وقصاصًا نكالًا نعمة مشتهاة.