منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة مطلع سبعينيات القرن الماضي، اعتمد نظامه بشكل متزايد على شبكات من المخبرين و"العواينية" كما كانوا يسمون في عهد الانتداب الفرنسي. وسواء كان المخبر موظفا يتسلم راتبا من النظام أم متطوعا يتلقى بعض الفتات أو الامتيازات الصغيرة، فإن هؤلاء المخبرين شكلوا دوما مصدرا مهما للمعلومات بالنسبة لأجهزة الأمن، لكون عناصر تلك الأجهزة مهما بلغت حرفيتهم، فلن يستطيعوا جمع معلومات قيمة وشاملة عن شخص أو قضية ما، كما يفعل المخبر الذي ينتمي للحي نفسه موضع الاهتمام.
وتصاعدت هذه الظاهرة بعد تنامي الاتجاهات المناوئة للسلطة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وبدء الصدام مع جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم بروز بعض الحركات اليسارية.
أكثر محافظة سورية عانت من قضية المخبرين الذين يعملون لصالح أجهزة النظام الأمنية، هي درعا في جنوبي البلاد، وخاصة بعد اتفاقيات التسوية
وجاء انطلاق الحراك الشعبي عام 2011، ليدفع بهذه الفئة من جديد الى الواجهة، وكانوا بالفعل وراء اعتقال آلاف الأشخاص في الأشهر الأولى لهذا الحراك، وتصاعد دورهم لاحقا وتنوع مع انتقال المعارضة الى الميدان العسكري.
ولعل أكثر محافظة سورية عانت من قضية المخبرين الذين يعملون لصالح أجهزة النظام الأمنية، هي درعا في جنوبي البلاد، وخاصة بعد اتفاقيات التسوية التي أبرمها النظام مع الفصائل والفاعليات المحلية عام 2018، والتي لم تتمكن من تحقيق هدف النظام بإخضاع المحافظة لسيطرته الفعلية، حيث ظلت جذوة الرفض للنظام، وخاصة وجوده الأمني، متقدة في أغلب مناطق المحافظة.
ومن هنا، تفتقت أذهان ضباط النظام عن استعادة دور المخبرين، كأفضل الأساليب لإخضاع أهل حوران، وتفتيت وحدتهم، من دون التصادم المباشر معهم، نظرا للكلفة المرتفعة لهذا التصادم من جهة، وللقيود التي وضعها الراعي الروسي لاتفاقيات التسوية على حركة النظام في المحافظة من جهة أخرى.
ومن يستمع إلى المحادثات التي وجدت على هاتف عميل النظام عامر النصار الذي قتل منتصف الشهر الماضي في بلدة الحارة، وهو قيادي سابق في المعارضة، لا بد أن يلاحظ كيف أن هذه الفئة ربطت وجودها ومصالحها بشكل كامل بوجود النظام، مثلما أن الأخير يعتمد بشكل كبير عليها، لدرجة الشعور بأن هناك قدر من "الندية" وترابط المصالح بين الطرفين، حتى إن النصار يتحدث بشكل اعتيادي مع مدير إدارة المخابرات العامة لدى النظام اللواء حسام لوقا، ورؤساء فروع أمن الدولة والأمن السياسي في درعا ودمشق، ويتبادل معهم المعلومات والمقترحات، وكأنهم في غرفة عمليات واحدة.
والنصار ليس حالة متفردة، ومثله المدعو وسيم الزرقان ومصطفى المسالمة (الكسم) وغيرهم. لقد بات هؤلاء يشكلون "حالة" لها وزن في محافظة صغيرة مثل درعا، ربما يعادلون في قوتهم قوة المعارضين للنظام، فهم لا يعملون فرادى، بل يديرون مجموعات مسلحة، تتلقى الدعم العسكري والمادي والتسهيلات من قوات النظام، وأجهزته الأمنية، وقد يتحولون لاحقا بتسويق من النظام وحلفائه إلى "حالة سياسية" لموازنة المعارضين، برغم افتقادهم للحاضنة الشعبية، خاصة مع تزايد الحديث عن إمكانية منح الجنوب السوري (درعا والسويداء والقنيطرة) "وضعا خاصا" يشبه الحكم الذاتي، في إطار التسوية النهائية للمسألة السورية.
ولا تخفى أهداف النظام من تعويم هذه الفئة. وإضافة إلى الخدمات التي يقدمونها لأجهزة النظام لجهة جمع المعلومات عن المطلوبين، وتنفيذ الأعمال القذرة من تصفيات وزرع عبوات، مع تحملهم مخاطر ذلك نيابة عن قوات النظام، مقابل بعض الامتيازات مثل المال والبطاقات الأمنية ورخص حمل السلاح، فإن الهدف الأبعد للنظام هو بث الشقاق داخل المجتمع، وتقسيمه بين مخبرين ومعارضين، مع ما يستتبع ذلك من عداوة وثارات بين الأفراد والعائلات والعشائر، بينما يسعى ضباط النظام لأخذ مسافة بينهم وبين العملاء، بحيث يتبرؤون منهم في حال تورطوا في تجاوزات وأعمال تثير سخط المجتمع المحلي. كما لا يتورع ضباط النظام عن تحريك مجموعات العملاء بعضهم ضد بعض، ليكونوا هم دوما الملجأ والحكم بين الجميع.
من المفهوم أنه ليس لدى النظام سياسة رشيدة في درعا، كما في عموم سوريا، وليس له سوى هدف واحد هو إخضاع المحافظة بالقوة، مع نهب خيراتها، وابتزاز أهلها، مقابل إهمال واجباته الأخرى كـ "دولة"، لناحية توفير الخدمات للمواطنين، ما اضطر الأهالي في مجمل مدن وبلدات المحافظة إلى جمع التبرعات لتأمين بعض الخدمات الأساسية.
التعامل مع هذه الحالة لا ينبغي أن يعتمد أسلوب الانتقام والتصفية وحده، بل لا بد من زيادة بث الوعي بخطر هذه الظاهرة، وتأمين النبذ التام لكل المتعاملين الأمنيين
ومن هنا، فإن سياسة تديرها الأجهزة الأمنية، من الطبيعي أن يكون العملاء والمخبرون أحد أهم ركائزها، بوصفهم عين النظام وسيفه، والفتيل الذي يستطيع رميه لإشعال الحرائق والفتن هنا وهناك.
وبطبيعة الحال، فإن التعامل مع هذه الحالة لا ينبغي أن يعتمد أسلوب الانتقام والتصفية وحده، بل لا بد من زيادة بث الوعي بخطر هذه الظاهرة، وتأمين النبذ التام لكل المتعاملين الأمنيين مع أجهزة النظام، بوصفهم خطرا مجتمعيا وأمنيا، لا يقل خطورة عن المخدرات التي تعمل تلك الأجهزة على نشرها في المحافظة، وهم بالتأكيد، أسوأ من القصف الجوي والمدفعي الذي طالما دك به جيش النظام مدن المحافظة.