تدور أحداث فيلم "جيران" للمخرج السوري الكردي "مانو خليل" في أحد معسكرات لجوء السوريين في كردستان العراق عام 2021 ليعود بالأحداث إلى قرية صغيرة نائية على الحدود السورية التركية أوائل الثمانينيات لتحكي بلغة سينمائية شفافة وأسلوب فكاهي ساخر وحزين عن ديكتاتورية الأسد وهيمنة البعث على كل مفاصل الحياة، وتدميره لحقبة تاريخية جميلة كان الناس يعيشون فيها بتنوعهم الديني والطائفي والعرقي مع بعضهم بعضا كجيران، ويستعرض الفيلم عبر ساعتين و4 دقائق قصة الطفل الكردي "شيرو" البالغ من العمر 6 سنوات الذي يقضي سنته الدراسية الأولى في مدرسة عربية وعليه أن يتعايش مع تحولات عالمه الصغير الذي يتغير بشكل جذري بسبب تعاليم البعث السقيمة.
وكانت بداية شغف خليل بالسينما منذ طفولته في القامشلي التي كانت تضم 5 صالات سينما حينذاك وروى لـ"موقع تلفزيون سوريا" أنه كان يدخل إليها خلسة وبطريقة ذكية جداً، ولأنه لم يكن يملك المال الكافي للدخول اعتاد انتظار بدء الفيلم ومشاغلة قاطع التذاكر، وكان ينقد حارس السينما مبلغاً بسيطاً لا يتجاوز ربع قيمة التذكرة ليسمح له بالدخول، وعند دخوله إلى الظلام كان ينبهر لمرأى الشاشة السحرية الكبيرة ويندمج مع حرية عالمها السينمائي ومن هنا تولدت لديه فيما بعد رغبة دراسة السينما التي كانت بالنسبة له مسألة إنسانية و"نضالية" إن صح التعبير للدفاع عن حقوق الناس والمضطهدين الأكراد وغيرهم من القوميات والأديان.
من التاريخ والحقوق إلى السينما
ودرس مانو -كما يقول- في كليتي التاريخ والحقوق سنوات 1981-1986 ولكنه اضطر إلى تركهما والخروج من سوريا بعدها لدراسة السينما الروائية في تشيكوسلوفاكيا، وسبب تركه لدراسة التاريخ والمحاماة في سوريا كان لها أسبابها –كما يقول- فهو ينتمي إلى مكون من مكونات المجتمع السوري (الأكراد) ولديه ثقافة ولغة كانتا محظورتين فترة هيمنة حزب البعث، وعاش الأكراد خلالها اضطهاداً كبيراً، ويستعيد خليل جوانب من هذا الاضطهاد على المستوى المدرسي حيث كان المعلمون البعثيون في معظمهم -يضربون التلاميذ إذا كانوا يتحدثون فيما بينهم باللغة الكردية التي كانت ممنوعة حتى مع شقيقه الذي كان يدرس معه بالمدرسة نفسها.
اعتقال ومنفى
بعد إنهائه الدراسة في تشيكوسلوفاكيا عاد خليل إلى سوريا وتعرض لتجربة اعتقال لأنه انتقد دولة البعث الفاشي وأنتج فيلماً بعنوان "هناك حيث ينام الله.." وبعد الإفراج عنه أُجبر على الخروج من البلاد ثانية، وكان همه وأمله الوحيد -بحسب قوله- أن يبدأ من جديد في تصوير أفلام تتحدث عن الشعب وقيم الحرية والكرامة والناس والبشر، وليست أفلاماً فكاهية سخيفة تمجد الديكتاتور على غرار ما تنتجه ما تسمى بالمؤسسة العامة للسينما أو التلفزيون السوري الذين كان همهم على الدوام تصوير أفلام ومسلسلات تسخّف التراجيديا وتجعل منها شيئاً اعتيادياً، وأشار خليل إلى أن نظام الأسد كان ولا يزال يجحف بحق السوريين العرب ولكنه أجحف بحق المكون الكردي مرتين لأنهم لا ينتمون للمكون العربي حالهم حال اليهود السوريين الذين قضى نظام الأسد على ثقافتهم ولغتهم ووجودهم.
"جيران" فيلم عن حقبة حافظ الأسد
وحول فكرة فيلمه "جيران" أشار خليل إلى أن سيناريو الفيلم كُتب منذ أكثر من ربع قرن وهو يحاكي الواقع السوري في عهد حافظ الأسد وهو العهد الذي لم يتغير منذ ذلك الوقت بل باتت الديكتاتورية والطغيان أكثر توحشاً، وما دمّره وشوهه الأب أكمل الابن تدميره وتشويهه وربما الحفيد وحفيد الحفيد، وتابع أن هؤلاء سيحكمون سوريا بعقلياتهم إلى الأبد معتقدين أنها مزرعة أو حديقة خلفية لهم أو غابة مليئة بالحيوانات وهم الأسود فيها فقط كما هو الحال اليوم، واستدرك محدثنا أن: التاريخ يعلمنا أن ليس هناك ديكتاتور أبدي أو خالد، فالكل سيموت ويفنى، ولفت مخرج الفيلم إلى أن فكرة فيلمه هي استحضار لتجربته الشخصية وعيشه طفلاً وشاباً في مملكة الرعب والخوف، البلد الذي يحكمه 15 جهاز مخابرات والجار فيه يتجسس على جاره لدى المخابرات وحيث تنعدم قوانين الكرامة والأخلاق والمحبة والتسامح.
بين القامشلي وكردستان العراق
ولم يُخْفِ مخرج "جيران" وجود صعوبات اعترضت رحلة إنجاز الفيلم ومنها الميزانية الضخمة التي قاربت ثلاثة ملايين دولار وهي ميزانية كبيرة مقارنة بميزانيات الأفلام التي تنتج في الدول العربية والشرق الأوسط ولكنها ليست كبيرة مقارنة بالأفلام الأميركية مثلاً، إضافة إلى صعوبة إيجاد مكان مناسب للتصوير، وكان يتوق -كما يقول- لأن يصور الفيلم في القامشلي ومنطقة الجزيرة على الحدود السورية التركية ولكن ظروف الحرب وصعوبات التنقل حالت دون ذلك مما زاد من تكاليف الفيلم، مشيراً إلى أنه قام ببناء قرية صغيرة في منطقة دهوك -في كردستان العراق- لتشبه قرى الجزيرة، ولجأ إلى بناء حدود ومعابر، ومدرسة على غرار المدرسة التي درس فيها طفلاً، والصعوبة الأخرى -بحسب مخرج الفيلم- هي جمع الممثلين إذ كان حريصاً على أن يكونوا معروفين في العالم العربي ولهم قصتهم مع النظام التي تتفاعل مع قصة الفيلم، ولذلك اختار الفنان الكبير "جهاد عبدو" والفنان "جلال الطويل" والفنان "مازن الناطور" والفنانة "نسيمة الضاهر" وبعض الفنانين الأكراد مثل "زيرك" و"إسماعيل زاغروس" و"إيفان أندرسون" إلى جانب الممثلة البرازيلية تونا دويك وهي سورية الأصل من حلب ومشهورة في البرازيل، وكشف خليل أن أكبر صعوبة واجهها الفيلم هي إيجاد طفل يمثل دور الطفل الكردي شيرو حيث أجرى "كاستنغ" لنحو 300 طفل في المخيمات والمدن الأوروبية وداخل سوريا إلى أن استقر الرأي على الطفل "سرحد خليل" الذي مثل دور الطفل شيرو بشكل رائع جداً.
وشارك فيلم "جيران" في المسابقة الرسمية لمهرجان شانغهاي الذي يعتبر من مهرجانات الدرجة الأولى في العالم وحصل على جائزة نقاد السينما في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأميركية التي تقدم لفيلم سينمائي واحد سنوياً وشارك قبل أيام قليلة في مهرجان لوكارنو السينمائي وهو أيضا من مهرجانات الدرجة الأولى، ورشح لإحدى جوائز مهرجان سولور 2021 وهي أكبر جائزة سينمائية في سويسرا أيضاً.
والفيلم مدعو الآن إلى عشرات المهرجانات وسيعرض سينمائيا في أميركا، كندا، سويسرا، ألمانيا وبعض الدول العربية في نهاية العام.
ويُشار إلى أن "مانو خليل" عمل في التلفزيون التشيكوسلوفاكي مخرجاً، حتى تم تقسيم تشيكوسلوفاكيا، واستمر بعد التقسيم في العمل في التلفزيون السلوفاكي. ما بين عامي 1990 ـ 1996 شارك في العديد من الأعمال الدرامية للتلفزيونية وللسينما ممثلاً. منذ استقراره في سويسرا 1996 والى اليوم، صور أكثر من ألف ريبورتاج تلفزيوني أو فيلم إعلاني. كان يقوم بإخراج برنامج في التلفزيون السويسري لمدة خمس سنوات يدعى بارتي بيوبل ويشارك في تصوير وإعداد برامج أخرى عديدة, قبل أن يتفرغ حصرياً للعمل السينمائي منتجاً ومخرجاً ومدير تصوير مستقلاً لأفلام وثائقية وروائية. وأخرج حتى الآن 18 فيلماً، منها 2003 أحلام ملونة و 2005 الأنفال و 2007 دايفيد توليهلدان وفي 2009 فيلم زنزانتي بيتي وفيلم جنان عدن، 2012 فيلم طعم العسل, 2016 فيلم السنونوة, 2018 فيلم حافظ ومارا، وفي عام 2021 جيران وحصل على عشرات الجوائز وعرضت أفلامه في مهرجانات عالمية من الدرجة الأولى مثل برلين، لوكارنو، كارلوفي فاري، شنغهاي، نيويورك، طوكيو..".