"أشعر بالسعادة اليوم، لأني اتخذت ذاك القرار، لكن لو كانت لدي يومها المعرفة التي لديّ الآن، ما كنت لأفعلها. كان الأمر خطيراً للغاية، لكني لم أدرك ذلك حينها". ما يشبه هذا القول سمعته من صديق سوري ركب البحر من شواطئ تركيا ليعبر مع عائلته إلى الجزر اليونانية، وهو طريق التهريب الأكثر استخداماً في العقد الأخير. كان لصديقي مبرراته، فقد تعطل بهم المركب "البلم" وبدأ الماء يتسرب لداخله. رأى الذعر في عيون زوجته وطفليه، وانتابته كل مشاعر من هو مشرف على الموت رفقة من يحب. لكن لحسن الحظ، نجا ووصل أخيراً. هو يعيش اليوم بأمان في ألمانيا، ويتابع أبناؤه تعليمهم هناك.
الاقتباس الذي افتتحت به مادتي هذه، لم يكن لشخص سوري، إنما للألماني "جونتر ويتزل" خلال لقاء مع إحدى المجلات بمناسبة إطلاق فيلم عن قصة هروبه مع عائلته وعائلة صديقه من شرق ألمانيا إلى غربها. تم إنتاج الفيلم بعد 39 عاماً على مغامرته. استمع أغلبنا لبعض عروض التهريب عبر البحر، وكانت تأتي على نحو سلس وبسيط: نصف ساعة أو ساعة على الأكثر، وسوف يصل المركب إلى الجزيرة وينتهي كل شيء. ما يشبه هذا حدث مع ويتزل ولكن ليس من خلال عرض المهرّبين. كان قد قرأ مقالاً في إحدى الصحف عن المؤتمر السنوي حول راكبي المناطيد في نيومكسيكو، ووصل إلى خلاصة بسيطة: "تضخُّ الهواء الساخن في كيس من القماش، فينطلق للأعلى ويطير".
من عام 1961 إلى عام 1988، سُجن 75000 من الألمان الشرقيين لمحاولتهم الفرار إلى الغرب، بينما فقد أكثر من 800 رجل وامرأة وطفل حياتهم على الحدود
كانت عمليات الهروب من شرق ألمانيا إلى غربها تعني بالنسبة للألمان الشرقيين الوصول إلى أرض الميعاد، أو إلى الجنّة. إضافة إلى الهرب من الاستبداد إلى الديمقراطية، فإن حلم العيش الرغيد والفرص المتاحة كان حافزاً قوياً للكثيرين، كي يجربوا تلك المغامرة المحفوفة بالخطر. خطر السجن لسنوات طويلة أو الموت حتى. الأمر الفارق في حكاية ويتزل أن الهروب جاء متأخراً ثمانية عشر عاماً على إقامة جدار برلين. من عام 1961 إلى عام 1988، سُجن 75000 من الألمان الشرقيين لمحاولتهم الفرار إلى الغرب، بينما فقد أكثر من 800 رجل وامرأة وطفل حياتهم على الحدود، ووصفهم نظام جمهورية ألمانيا الديمقراطية بالخونة.
"فكرة الهروب كانت تتأرجح في ذهني لسنوات، لكن كان واضحاً أنه من الخطير جداً تنفيذها عبر طريق بري. عندما رأيت صوراً لهذه البالونات، علمت أن تلك كانت طريقة معقولة" يقول ويتزل. كانت فكرة العمل مع صديقه وزميله بيتر ستريلزيك وزوجتيهما بيترا ودوريس، لصناعة منطاد بطريقة يدوية سراً هي الطريقة الأمثل والمبتكرة للنجاة من بنادق حرس الحدود، حسب ما توصلوا إليه بعد نقاشات لا يمكن وصفها بالمعمّقة. استغرق الأمر حوالي 18 شهراً، وخياطة آلاف الأمتار المربعة من القماش، والاستماع عن كثب لتقارير الطقس من راديو ألمانيا الغربية لتحديد الوقت المناسب لتنفيذ خطتهم، التي تطلبت رياحاً شمالية قوية للوصول إلى "بافاريا". صنعوا ثلاثة مناطيد فشل الأولان بالطيران ونجح الثالث بصعوبة.
قاما باحتساب الحجم المناسب للمنطاد، ليحمل ثمانية أشخاص، عدد أفراد العائلتين مع الأطفال. أخطؤوا في المرة الأولى بنوعية القماش المناسب، وقد كان مسامياً يهرب منه الهواء، فعادا إلى المحاولة، وقاما بشراء قماش ادّعيا أمام الباعة أنه لنادي القوارب الشراعية، تجولا في معظم أرجاء ألمانيا الشرقية لشرائه من أماكن متفرقة، كي لا يلفتا النظر. قامت السيدتان بخياطة القماش ليل نهار، بينما راح الرجلان يجهزان سلّة الركاب، وعبوات الغاز المنزلي التي ستستخدم لتغذية المدفع الناري الذي سيحافظ على سخونة الهواء داخل المنطاد. يقول ويتزل: "لم نعتقد أنها كانت خطة مجنونة على الإطلاق. كنا على يقين تام من أننا وجدنا أخيراً خطة آمنة لمغادرة جمهورية ألمانيا الديمقراطية".
بعد خمسة أسابيع من بدء محاولتهم الأخيرة، كان المنطاد على وشك الانتهاء. شعر الرجال وكأنهم يتسابقون مع الزمن، قلقين من إمكانية اكتشافهم في أية لحظة. بدا لهم أن توقعات الجو وسرعة الرياح ليوم 15 سبتمبر/أيلول 1979 مثالية، لذلك سارعت العائلتان في الاستعدادات. انتهت خياطة البالون في الساعة 10 مساءً. انتقل الصديقان إلى أعلى التل في المنطقة المتفق عليها، لمعرفة ما إذا كانت الرياح قوية بما يكفي للطيران. وعادا سريعاً، لاصطحاب عائلتيهما والمنطاد. لم يحملوا معهم شيئاً، باستثناء أوراقهم الشخصية والهويات. وصلوا إلى الموقع عند الواحدة صباحاً. بعد نصف ساعة كان المنطاد جاهزاً للتحليق. لم يكن لديهم أي لحظة تردد، بل ولم يكن لديهم الوقت للخوف. "كنا تحت ضغط كبير لدرجة أننا بدأنا الطيران على الفور. لم يكن هناك مكان لأي مشاعر على الإطلاق".
لم تبدأ الرحلة بسلاسة. وقف ويتزل وفرانك في زوايا متقابلة لقطع الحبال التي تثبت المنطاد إلى الأرض، لكنهما لم ينفذا القطع في نفس الوقت بدقة، مما تسبب في إمالة "البالون" نحو الموقد المشتعل. اشتعلت النيران في القماش عندما انطلقت آخر مرساةٍ من الأرض، وخُدش رأس فرانك. قاموا بإخماد النيران بسرعة باستخدام مطفأة الحريق. لكنهم اكتشفوا وجود ثقب في الجزء العلوي من المنطاد لم يحكموا ربطه جيداً، ما يعني أنه كان عليهم إشعال النار طوال الرحلة لتعويض التسريب. حلق المنطاد ووصل إلى ارتفاع 2000 متر مدفوعاً برياح بلغت سرعتها 50 كم في الساعة. لم تكن هناك طريقة لتوجيه البالون، وكانت العائلتان تحت رحمة الريح.
لم يتكلم أحد منهم خلال الرحلة، حتى رصدوا ثلاثة كشافات ضوئية ساطعة من بعيد تتوجه نحو السماء. كان هذا حسب ما خمّنوا، وكان ظنهم صحيحاً، معبراً حدودياً، وقد اكتشفهم. تابعتهم الكشافات لدقائق، لحين ابتعادهم. في الدقائق التالية نفد الغاز وانطفأ الموقد، وراح البالون يهبط بسرعة جعلتهم قلقين وخائفين. بعد نصف ساعة من انطلاقهم، سقطوا بين الأشجار. "نظراً لأن الجميع استطاعوا النزول من السلة بدون مساعدة، كان واضحاً لي، أنه لم يصب أي شخص نتيجة الاصطدام القوي. حسناً، كنا محظوظين" يقول ويتزل. لكن هل وصلوا إلى الغرب؟ هذا ما لم يعرفوه على وجه اليقين.
هل رأيتم الضحكات المختلطة بالدموع في صور الواصلين للتو إلى الجزر اليونانية، وهم يغادرون قوارب كان يمكن لها أن تكون سبب موتهم؟
سارت المجموعة باتجاه الجنوب بعيداً عن الحدود. الحقول والمزارع الصغيرة لم تكن تشبه تلك الواسعة في الشرق. عندما اقتربوا من مكان مأهول رأوا جراراً زراعياً لم يكن من الأنواع المألوفة. اختبأت السيدتان والأطفال بين الأشجار، وخرج الرجلان للبحث عن أحد ما. سريعاً توقفت سيارة للشرطة ورغم رؤيتهما الدوائر الأربعة، شارة سيارة Audi الغربية، سأل أحدها الضابطين اللذين ترجّلا، السؤال الذي لم يعد ضرورياً: هل نحن في الغرب؟ أجاب الضابط: "طبعاً، وأين يمكن أن تكونا إذاً؟ رغم أنه لا أحد يتوقع وصول ألمانيين شرقيين لمسافة عشرة كيلومترات من الحدود في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل!". كمجنونين، صرخ الرجلان في لحظة واحدة باتجاه عائلتيهما: أخرجوا، لقد فعلناها.
هل رأيتم الضحكات المختلطة بالدموع في صور الواصلين للتو إلى الجزر اليونانية، وهم يغادرون قوارب كان يمكن لها أن تكون سبب موتهم؟ بدا الأمر دائماً وكأنه ولادة جديدة، أو على الأقل البدء بحياة جديدة بعد الفرار من بلاد جعلت مجرد حلم العيش الطبيعي، صعب المنال على مواطنيها. فرَّ السوريون إلى مشارق الأرض ومغاربها، والأغلب إلى شمالها، هرباً من قدرهم، ليس بحثاً عن الجنة الموعودة، إنما عن حياة طبيعية لا يتلقون فيها كل ذاك العسف والظلم والإذلال الذي عرفوه طوال عقود. آخرها العقد الأسود خلال مقتلتهم.