جرائم ضد التاريخ: خرائط لتدمير ثقافة أوكرانيا

لم تركز عملية دراسة صور الأقمار الصناعية الملتقطة في أوكرانيا على العتاد العسكري فحسب، إذ على بعد آلاف الكيلومترات من القتال، تقوم منظمة دولية تضم مختصين في مجال الآثار ومؤرخين وفنيين بتنسيق جهود المراقبة ذات المخاطر العالية بصمت، حيث تتعقب الخسائر المتزايدة في المشهد الثقافي الأوكراني.

واليوم، يكشف ملخص حول أثر القتال وأضراره صدر خلال هذا الشهر عن مخبر تلك المنظمة الموجودة في أحد متاحف ولاية فيرجينيا الأميركية، عن تلك الحقيقة العارية.

الاستهداف للأوابد الدينية والثقافية محرم دولياً

حتى الآن، تم التحقق من آثار تدمير 191 معلماً ومكاناً أثرياً في أوكرانيا، ومعظم التدمير الذي من المعتقد أنَّ القوات الروسية الغازية هي من ينفذه، يتركز على النصب التذكارية ودور العبادة الأوكرانية، حيث أدرجت في تلك القائمة نحو 85 كنيسة ومسجداً ومعبداً وكاتدرائيةً، إلى جانب 111 موقعاً أثرياً وتسعة مواقع أثرية عامة، كما تم الهجوم على موقعين فنيين خلال الحرب، أحدهما مسرح ماريوبول الذي انتشرت صوره في مختلف بقاع العالم، إلى جانب تعرض موقع أثري آخر للتدمير. بيد أن العنف المنصبّ على الأوابد والأبنية قد ينظر إليه البعض على أنه شيء غير مهم مقارنة بأرواح الضحايا من الجرحى والقتلى وذلك بالنسبة للعائلات في أوكرانيا، ولكن بالنسبة لبلد تعيش في ظل تهديد من دولة جارة، يمكن للثقافة والتراث أن يلعبا دوراً حاسماً ومهماً في هذا السياق، وذلك لأن الاستهداف المتعمد للمواقع الدينية والثقافية محرم بموجب اتفاقية لاهاي عام 1954، بالرغم من عدم معاقبة الأفراد من مرتكبي تلك الجرائم إلا في حالات نادرة.

مسرح ماريوبول عقب تدميره على يد الروس

يعتبر المخبر المتخصص بمراقبة الإرث الثقافي والكائن في متحف التاريخ الطبيعي بولاية فيرجينيا الأميركية، مركزاً لتنسيق المحاولات الدولية لتسجيل الأوابد وحمايتها حال تعرضها لأي خطر. وقد أسست تلك الشبكة خلال العام الماضي بالشراكة مع مبادرة الإنقاذ الثقافي لمؤسسة سميثسونيان الشهيرة، حيث أتى ذلك استجابة للزلزال الذي وقع بهايتي في عام 2010، وهكذا أصبحت تلك المنظمة تعمل على تدريب أمناء المتاحف في مختلف بقاع العالم وذلك ليبدوا استجابة عند وقوع أي نزاع.

آلية العمل

يعمل هذا المخبر على إرسال أي خبر يتصل بتدمير أي موقع أثري في أوكرانيا على الفور، وذلك للحد من تضرر القطع الأثرية أو توثيق ما يجري على الأرض على أقل تقدير. إذ داخل متاحف أوكرانيا، هناك الكثير من الخزائن التي تحتوي على قطع نقدية تعود للعهد البيزنطي وذهب من منطقة سكيثيا والتي تم نقلها من تلك المتاحف، كما أخفيت أعمال فنية قيمة في أقبية تحت الأرض أو جرى نقلها سراً إلى متاحف أجنبية متعاونة، في حين يقوم حرس اليوم بحراسة المجموعات الأثرية الأوكرانية الوطنية بعدما تم تسليحهم وباتوا على أتم استعداد لطرد أي لص يسعى لنهب المتحف.

هذا وتعتمد العملية التي ينتهجها المخبر القائم في فيرجينيا على خبرة أمناء متاحف في أميركا وأوروبا، ويترأس تلك المجموعة خبير الآثار هايدين باسيت الذي يقول: "إن العملية تجري على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ومع ذلك قد لا يراقب أحدنا ما يجري عبر الشاشة عند الساعة الثالثة صباحاً، ولهذا تقوم الأقمار الصناعية المخصصة لنا بتصوير ما يجري في ذلك التوقيت".

في حين يقول برايان دانييلز وهو عالم بالأنثروبولوجيا (دراسة أصل الإنسان)، يعمل لدى الفريق المقيم في فيرجينيا، بأن نسبة الهجمات ارتفعت بشكل ملحوظ منذ نشر التقرير الخاص بتلك المجموعة، وأضاف: "أصبح العنف يركز اليوم على البنية التحتية المدنية، وهذا يعني استهداف المتاحف والتراث الثقافي عبر سياسة الأرض المحروقة هذه".

اقرأ أيضاً

حرب بوتين تهدد مواقع التراث العالمي في أوكرانيا.. الأجمل على الإطلاق

وقد تحدث باسيت عن تدمير هائل لحق بالثقافة والحضارة الأوكرانية وذلك في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، وقد شمل ذلك التدمير التام أحد المتاحف في مدينة إيفانكيف قبل شهرين من اليوم.

شملت المواقع الأثرية البالغ عددها 26 ألف موقع والتي يقوم المخبر بفحصها خلال هذا الشهر بطريقة الاستشعار عن بعد والأبحاث التي تعتمد على مصادر مفتوحة، فضلاً عن دراسة الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية، سبعة مواقع للتراث العالمي في أوكرانيا، أشهرها كاتدرائية القديسة صوفيا في كييف ذات القبة الذهبية والتي لم يمسسها أي سوء. كما شجعت وزارة الثقافة الأوكرانية الشهود على إرسال صور إلى موقع الجرائم الثقافية الإلكتروني، وهو:  culturecrimes.mkip.gov.ua وذلك بهدف إرسال أدلة موثقة إلى المحكمة الجنائية الدولية.

عرف "التقرير الجديد حول الأضرار" الذي نشره هذا المخبرُ التراثَ الثقافي بشكل واسع، والذي يشمل الأماكن والمواقع والأوابد التاريخية، دون التطرق للمكتبات والمحفوظات. وأورد بأن "الضرر المحتمل" يعني وجود مؤشر على احتمال حدوث ضرر بناء على طرق الاستشعار عن بعد، في حين قد تغفل تقنية الجغرافيا المكانية الأضرار الأصغر حجماً مع احتمال عدم قدرتها على رصدها.

ولذلك تحولت المناطق التي يسيطر عليها الروس في الدونباس والقرم إلى مصدر قلق في بداية الأمر، بحسب ما ذكره داميان كوروبيكيج وهو أحد كبار المحللين لدى ذلك المخبر، فقد عثر هذا الرجل على أدلة تثبت أخذَ نصب تذكارية مدمرة ووضع أخرى جديدة بدلاً منها بما يدعم الرواية الروسية حول تراث تلك المناطق، ويضيف هذا المحلل بالقول: "إننا مشروع يعمل عن بعد، لكنه مشروع حقيقي وواقعي جداً في نظري، إذ من الضروري أن نؤمن بقدرتنا على التغيير في هذا المضمار".

المصدر: غارديان