لعنوان رواية الكاتبة التركية إليف شَفاق "حليب أسود" إحالة دلالية بليغة، إذ يشكِّل العنوان عنصر جذب للقارئ، فيحفزه على نهب صفحات الرواية ذات الـ418 صفحة محاولاً اكتشاف إحالات أسرار الألوان المتناقضة الكامنة في العنوان (الأبيض/ الأسود)، وذلك لأنَّه كلما تقدَّم في القراءة سيشعر بلذة خفية تصاحب عملية تفكيك الثيمة الرمزية التي يمتلكها، ومن ثمَّ ستنبثق تساؤلات عديدة تثيرها الأفكار العميقة التي تطرحها الكاتبة التي تعاني في حقيقة الأمر من صراع وجودي مثير لاهتمام شريحة واسعة من القرَّاء أو القارئات بالتحديد، صراع بين أن تكون أمَّاً ناجحة في تربية طفلتها وبين أن تستمر في صعود أدراج المجد الذي وصلت إليه وهي الكاتبة والروائية الشهيرة التي ذاع صيتها ليس في تركيا فحسب، وإنَّما في كلِّ أصقاع العالم، فتتساءل الرواية عبر صفحاتها: كيف يتحقَّق التوازن بين أمرين لا يمكن التخلِّي عن أحدهما في سبيل الآخر بسهولة، وهل يطغى أحدهما على الآخر فيلغي وجوده؟
تعتقد إليف أنَّ الحيز المكاني الذي يوفِّر العزلة بالنسبة للكاتب هو الحيز الذي يدفع للإبداع بخلاف ما على المبدعين الآخرين أن يفعلوه، إذ ينبغي أن يُحسنوا الانسجام مع الآخرين، وبذلك تؤكِّد الكاتبة أنَّ "الكتَّاب بالدرجة الأولى ليسوا اجتماعيين" والأجواء التي يسودها الهدوء والسكينة هي الأجواء المُثلى لهم، ولكنَّ اختراق هذه الأجواء بحَدَث الأمومة قد يتسبَّب بأن ينضب حبر الكتابة وحليب الأمومة في الوقت ذاته، وعلى الرغم من رفض الكثيرات من النسويات لفكرة الزواج وإعلانهنَّ فشل هذه المؤسسة الاجتماعية -وإليف كانت واحدة منهنَّ- إلا أنَّهن قد وجدن حينما خضعن لهذه التجربة أنَّ "الأمومة هي أحسن ما جرى عليهنَّ في الحياة"، الفكرة الأساسية إذن تتعلَّق بإنجاب الأطفال الذي يعني طلاق الكتابة والإبداع، وقد كانت النظرة إلى الكاتبة المرأة في المشرق ولا زالت ذات منحى ذكوري، وبذلك فإنَّه تمَّ الاعتقاد بأنَّ إبداعها وخلقها يكمن في رحمها لا في عقلها، لأنَّها كائن عاطفي بحت، لذلك تحتَّم عليها الاختيار بين العقل والرحم.
تحكي إليف عن تجارب كاتبات اتخذن قرار عدم الإنجاب وكرسنَّ حياتهنَّ للكتابة بغزارة وحرية ليلمع نجمهنَّ في عالم الأدب، وتتحدَّث عن تجربة جودث الأخت التي اختلقتها فرجينيا وولف لشكسبير، تلك الأخت التي تجزم فرجينيا أنَّها لن تنال شهرة أخيها بسبب القوانين والأنظمة التي تميِّز الرجال عن النساء، وفي حال كانت جودث تملك موهبة الكتابة ستكون ممزقة بين واجبات الأم والزوجة وبين وقت الكتابة والإبداع "ستجد نفسها امرأة منخولة، يتسرَّب وقت العالم كلُّه من ثقوب حياتها"، غير أنَّ الأمومة التي تشكِّل إرباكاً مرعباً لكاتبات كثيرات كانت مصدر إلهام لبعضهنَّ الآخر، وقد لعبت الطبقة الاجتماعية التي تنتمي لها الكاتبات دوراً مهماً في إنجاح تلك العملية المزدوجة، إذ تستطيع أيُّ كاتبة تملك المال أن تحصل على مربية تحمل عنها أعباء الأمومة، وتيسر لها إمكانية الكتابة من خلال الوقت المتاح لممارسته، وهذا بحدِّ ذاته سينتج شكلين من الأمهات؛ الشكل الأول أمهات استطعن أن يكنَّ قدوة لأبنائهنَّ، فصار الأولاد كتَّاباً ومبدعين، والشكل الآخر أمهات كنَّ في نظر أبنائهنَّ أمهات رديئات، حيث شكَّلت الكتابة والشهرة حاجزاً متيناً بين الطرفين.
تشير إليف إلى عالم الأدب الذي يقوم على التنافسية، وبينما تأخذ المرأة إجازة من هذا العالم بسبب اختيارها للأمومة سيفوتها الكثير إذ لن ينتظرها أحد بينما تعيش هي أمومتها بكلِّ تفاصيلها
وقد تعيش بعض الكاتبات المبدعات في ظلِّ الرجل كما حدث مع صوفيا زوجة تولستوي التي وقفت إلى جانب زوجها وساندته في مسيرة إبداعه، متحمِّلة أعباء أولادها لوحدها لتوفير أجواء الكتابة المثالية لزوجها، أنجبت صوفيا الكثير من الأولاد، وكتبت في مذكراتها عن حياتها التي غدت تعيسة نتيجة التحولات الوجودية في شخصية زوجها الذي تزوجته رجلاً أرستقراطياً وغدا فيما بعد شريداً تمزقه الشكوك في زوجته التي تصغره بسنوات، حتَّى تجلَّى ذلك الشعور في روايته الأشهر (آنا كارنينا)، إنَّ اليوميات التي كتبتها صوفيا لم تحظ باهتمام النقَّاد كما حظيت كتابات تولستوي الذي ما كان ليكون هو لولا هذه المرأة التي قبلت أن تبقى في الظلِّ بعيداً عن شمس الشهرة ووهجها. وتتساءل إليف بعد ذلك لو كانت صوفيا روائية هل كان تولستوي سيدعمها ويعينها كما أعانته؟ هل كان سينسخ مسوداتها كما فعلت؟ هل كان سيهتم بأطفاله وبحاجاتهم لتنغمر في الكتابة؟
تشير إليف إلى عالم الأدب الذي يقوم على التنافسية، وبينما تأخذ المرأة إجازة من هذا العالم بسبب اختيارها للأمومة سيفوتها الكثير إذ لن ينتظرها أحد بينما تعيش هي أمومتها بكلِّ تفاصيلها؛ تتسوق وترضع وتنظف وتسهر، وعندما ستجد الوقت مناسباً للعودة إلى عالمها المركون جانباً ستكون قد نسيت كلَّ شيء يخصُّ الأدب والكتابة. أمَّا المرأة الخارقة التي تحاول جاهدة الموازنة بين جميع المهام فتتحدَّث عنها إليف من خلال الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث التي صعب عليها الاختيار بين (إما... وإما) فاختارت أن تكون الاثنتين معاً، لكن ذلك الاختيار أرهقها كثيراً، وجعلها تعيش اضطرابات نفسية أثَّرت في شخصيتها تأثيراً مرضياً، فماتت منتحرة هاربة من المسؤوليات التي لم تستطع أن تؤدي أيَّاً منها على أكمل وجه، لذلك قالت في إحدى قصائدها "الكمال فظيع، لا يمكنه إنجاب الأطفال".
إنَّ الفوز في العلاقة العميقة بين الأم وطفلها تحسم دائماً لصالح الطفل، لذلك عزفت الكثيرات من الكاتبات عن الزواج، واعتبرن مؤلفاتهنَّ هن أطفالهنَّ، وذلك لأنَّ رغبة الفوز والنجاح كانت تهيمن على معظمهنَّ فقد آثرن ألا يدخلن هذه المعركة الخاسرة، ومن المهم الحديث عن تلك الملاحظة التي تحدَّثت عنها إليف وهي أنَّ الكاتبات وحدهنَّ هنَّ من يتفرَّدن بهذه العلاقة، ولم يُذكر أنَّ أيَّ كاتب قد حدَّد علاقته بكتبه بوصفها علاقة بين أب وأبنائه، ولا ندري إن كان لذلك علاقة بعاطفة الأمومة التي تحملها كلُّ منهنَّ في منطقة اللاشعور.
في الحقيقة، لا يمكن أن ننكر أنَّ الأمومة هي نقطة تحوُّل في حياة كلِّ امرأة سواء في ذلك الكاتبات وغيرهنَّ، وقد كانت الأمومة مصدر إلهام لبعضهنَّ، ومصدر قلق وانفصام عن عالم الكتابة لبعضهنَّ الآخر، ومن خلال التجارب العديدة التي تحدَّثت عنها إليف شفاق في روايتها، ومن خلال تجربتها هي نفسها سنصل إلى نتيجة مفادها أنَّ لكلِّ شخصية بصمتها الخاصة في هذه التجربة التي تستحق التأمل والتفكير، إلا أنَّ الكاتبة تخلص إلى نوعين من الأمومة؛ الأولى هي الأمومة التقليدية التي يجب فيها أن تضحي الأم بكلِّ شيء من أجل أبنائها، والثانية هي الأمومة التي تجعل من المرأة امرأة (سوبر وومن) تسعى لتوفق بين الزوج والأطفال وعملها وكتابتها، وتحاول دائماً أن ترضي الجميع، وفي كلا الحالتين على المرأة أن تختار، ويبقى الاختيار الأصعب هو الاختيار غير المناسب دائماً.