في نقاش مع طلبتي الأتراك قبل سنوات، قادنا الحديث إلى تناول أدب إليف شفق، الروائية التركية المعروفة. أبدى أحد الطلاب انزعاجه من الروائية، وأضاف أنه لا ينصح زملاءه بقراءة ما تكتبه، لأنها ذكرت في إحدى رواياتها أن الجيش العثماني كان يصطحب معه في معاركه مومسات لتسلية الجنود. وحين استفسرت منه إن كان قد عاد إلى التاريخ ليعرف إن كان هذا الكلام صحيحًا أم خاطئًا، قال: إنه لا يهتم بهذا، فمهمة الكاتب نقل الجانب المضيء من "تاريخنا"، لا الحديث عن الجوانب السلبية فيه.
أعادني هذا الموقف إلى حادثة مشابهة جرت قبل عشرين سنة، حين وجه أحد الزملاء انتقادات للروائي السوري فيصل خرتش في مدرج كلية الآداب بجامعة حلب، بسبب "التصوير السيئ" لمدينة حلب في رواياته، بحيث بدت – كما أشار الزميل الناقد-مدينة قبيحة، تسود فيها علاقات موبوءة، وطالب الزميل يومها الروائي بتوجيه قلمه نحو أصحاب الورع والتقى وإبرازهم في أدبه، بدلًا من تكريس الرداءة عبر شخصيات الحشاشين والسكارى والزعران.
هذا الموقف من الفن يفسر أسباب غياب عدد من الروائيين العرب عن ساحة النقد، والتعتيم عليهم إعلاميًا، حتى لا يكاد حضورهم يتجاوز الدوائر الأدبية الضيقة. والقائمة تضم عددًا كبيرًا من "خوارج الروائيين"، ربما كان الروائي المغربي محمد شكري أبرزهم وأكثرهم شهرة، وبكل تأكيد ستضم هذه القائمة كل من لا يرى فيه المجتمع ممثلًا لقيمه ومدافعًا عنها، كما في حالة فيصل خرتش الذي تعرض لعملية تهميش واسعة من قبل السلطة. وحين نتحدث عن السلطة فإننا لا نقصد السلطة السياسية دون غيرها، وإنما نحيل على السلطة بكل أصنافها، وخصوصًا السلطتين الدينية والاجتماعية.
على الرغم من أن "فيصل خرتش" أصدر حتى الآن سبع روايات، وثلاث مجموعات قصصية، فلم تحظ تجربته الروائية بكتابات نقدية توازي هذا المنجز الروائي، وتتناول هذا العالم المشغول بالغوص في حارات حلب وأسواقها التاريخية، هذا مع العلم أن روائيين أقل أهمية نالهم كثير من الاهتمام النقدي، سواء داخل الأسوار الأكاديمية أم خارجها. ولم يكن هذا الإهمال إلا بسبب سيف السلطة الذي يخافه الباحثون، فقد رفض أكثر من طالب تناول هذه التجربة خوفًا من أن يلتصق اسمهم بأدب أحد "خوارج الأدباء".
ما يمتاز به أدب هؤلاء "الخوارج" هو الإصرار على كتابة الهامش الاجتماعي، إذ تحتل الفئات المهملة حيزًا واسعًا من أعمالهم التي تبدو تاريخًا للجانب المخفي من المدينة العربية. وعالم فيصل خرتش، على سبيل المثل، هو نموذج مثالي لهذا الجزء الذي لا يريد حراس القيم كشفه، إذ تعد رواياته مدونة متكاملة لتفاصيل عالم القاع الاجتماعي في مدينة حلب، والظروف التي تحيط بهؤلاء المهمشين وحياتهم الصعبة.
وعلى خلاف النزعات الحداثية التي تصر على إبراز الجانب الهوياتي في أثناء تناول المهمشين والمنبوذين، فإن قضية هؤلاء في روايات فيصل خرتش تأخذ طابع التوكيد على أولوية العدالة الاجتماعية، والقضايا المادية، فالتهميش نتاج طبيعي لمجتمع يعاني الحرمان والفقر، في حين تبدو القيم الأخلاقية مجرد أمنيات في عالم غدا أكثر توحشًا، وأقل إنسانية.
لم يكن تصوير هذا البؤس يرضي الفئة الاجتماعية المسيطرة التي رأت فيه إبرازًا للتناقضات التي تختمر في قاع المجتمع، الأمر الذي يعني تعرية خطابها المكرور عن المساواة في الإسلام، والعطف على الضعفاء، والرحمة بالمساكين، فكل هذه القيم تبدو مجالًا للاستهلاك الإعلامي، أما الحقيقة العارية فهي انتشار الفقر وانعدام أسباب الحياة الكريمة، ووجود طبقة مسيطرة وأخرى مهمشة منبوذة. هكذا نُبذت روايات فيصل خرتش من قبل الفئة المهيمنة اجتماعيًا، والتي رأت في أدبه تعرية لسلوكها الذي يتسم بالنفاق والكذب.
ومثلما عرى فيصل خرتش خطاب البرجوازية على الصعيد الاقتصادي، فقد تصادم مع القيم الاجتماعية المحافظة التي تمثلها، أي قيم الأسرة التي تطلب فنونًا نظيفة لا تحاول خدش صفحة الحياء الاجتماعي الذي تسعى إلى تكريسه؛ فثيمة الأب القاسي الذي يتسم سلوكه مع أبنائه بالعنف تعد موضوعًا أساسيًا في روايات فيصل خرتش، ونعثر في رواية "شمس الأصيل" وحدها على نموذجين لها، تبدو فيهما العلاقات الأسرية مفككة، يلجأ فيها الابن إلى التعويض من خلال الجنس وتناول الحشيش.
الخطأ الذي يقع فيه حراس القيم افتراضهم أن الأدب والتاريخ يتكلمان اللغة نفسها، وينقلان صورة واحدة للعالم
ولم يكن موقف السلطة السياسية أقل إدانة، فعلى الرغم من أن الروائي استطاع تطوير أدوات السرد التي مكنته من إيجاد حلول فنية يتجاوز بها ممنوعات السلطة السياسية، فإن حاسة الرقابة السياسية لا يمكن أن تخفى عليها قضية فنية، كالثورة على الأب، وقتله الرمزي، فقد قرأتها السلطة على أنها تهديد للتراتبية الاجتماعية والسياسية التي يستمد منها النظام شرعيته، ناهيك طبعًا عن موقف فيصل خرتش من قضية الصراع مع "إسرائيل"، فعالمه الروائي تؤطره خلفية تاريخية، تحتل فيها القضية الوطنية، وخصوصًا القضية الفلسطينية، جزءًا أساسيًا من ذاكرة الشخصيات، غير أن الهم الوطني يبدو مرتجلًا ومفروضًا على سياق الأحداث، والشخصيات التي تمتلئ ذاكرتها بالقضية يغيب عنها العمق الفكري اللازم للإحاطة بجوهر المشكلة، مثلما يغيب عنها الحس الإنساني العميق الكافي لتناول القضية، فالسطحية التي يتناول بها المسألة تحيل على موقف فكري أكثر منه ضعفًا فنيًا. وهو أمر لم يكن ليخفى على السلطة التي وضعت الكاتب على لائحتها الحمراء،
ويضاف إلى هذا الموقف الفكري إشارات فيصل خرتش المتكررة إلى حضور اليهود في الحياة العامة في بلدان المشرق، كبيروت وغيرها، وحديثه عن الأرمن في حلب، فهو يندرج أيضًا في زاوية المحرم من وجهة نظر سلطة، تدفعها جذورها الفكرية القومية لتوكيد فكرة النقاء المجتمعي. ولا ينبغي أن نعير خطاب النظام في السنوات الماضية عن حماية الأقليات أي اهتمام، فهذا خطاب مرحلي أملته ظروف المحافظة على وجوده، أما الحقيقة فهي أن جذوره القومية تجعله يقف متشككًا في أي سرد يتكلم على حضور غير عربي في أي مدينة، على الرغم من أن هذا الحضور لا يقصد به توكيد أي حق سياسي أو تاريخي.
الخطأ الذي يقع فيه حراس القيم افتراضهم أن الأدب والتاريخ يتكلمان اللغة نفسها، وينقلان صورة واحدة للعالم. والحقيقة أنهما يتحدثان لغتين مختلفتين كليًا، فالتاريخ وتشبهه في ذلك السياسة يعنى بالعموميات، بينما يتجه الأدب للبحث عن الفروق الدقيقة، ويركز على أولئك الذين لا تذكرهم كتب التاريخ، فيصور الجانب الآخر من المجتمع، وينقل حياة الناس العاديين الذين لا يتاح لقارئ التاريخ أن يجد أسماءهم في كتبه ونصوصه.
في هذا المشرق المثقل بأوهام الماضي وصوره الأسطورية الناصعة، يغدو التاريخ كتابًا مقدسًا، لا يجوز المساس به. المفارقة الكبرى أننا -نحن المثقلين بالأوزار-سنتحول بعد قرن من الزمن إلى سلف صالح.