لم تطل الحكاية.. بصيص الأمل الذي فتحه الرفاق وهم يحفرون نفقهم ليخرجوا إلى الضوء، بدأ يخبو سريعاً معلناً انتهاء فسحة الأمل.
عاود الاحتلال اعتقال الغالبية منهم لتبقى غصة الأمل في الحنجرة، ونحن نترقب مصيرهم بأسى لأن رحلة الحرية لم تدم طويلاً، عدا عن الخوف حول مصيرهم.
ربما كانت حكاية الأسرى الستة الذين فروا من سجون الاحتلال هي حدث العام وأكثر ما يمكن أن يضع بصمة إيجابية على أخبار الموت والحرب المستمرة بشكل يومي، لكن القدر شاء أن تنتهي على عجل لنستمر في الحرب الطاحنة من جديد بعد أن فقدنا الأمل وأنهكنا تعب الترقب.
كان لتلك الحادثة أثر جميل جعلنا نتنفس الصعداء ونستعيد أنفاسنا بعد رحلة يأس طويلة، تخللها تسليم القدس للاحتلال ونقل سفارات العالم إليها، ما يعد بمنزلة اعتراف بشرعية الاحتلال وتمكينه عالمياً.
وكنتيجة طبيعية لشكل العالم الجديد الذي بدأنا باعتياده منذ بداية القرن، بدأ شكل الخطاب الإعلامي يتغير شيئاً فشيئاً وفقاً لقوانين المرحلة الجديدة، فيعنون أخباره بعبارات من قبيل "القوات الإسرائيلية" من دون أن يستخدم مصطلحات الاحتلال أو الكيان الغاصب، وهذا إن دلّ فهو يدل على مؤشر خطير قد يضفي شرعية على قوات غاصبة أصلاً، وقد يؤسس لفهم جديد لدى الشريحة المستمعة بحيث نقع فيما بعد في فخ مصطلحات تتقبل ذلك الكيان على أنه خصم وليس كياناً محتلاً.
يبدو أننا ومع الانحدار المستمر في العالم أدرك أغلبنا أن عجلة العالم في دورانها العجول قادرة على دهسنا في أي لحظة، وأن كثيرين منا لا يمكنهم مجاراتها بالسرعة، فاتجه كل منا إلى استخدام آلياته الدفاعية مدفوعين بغريزة البقاء، فمنا من انكفأ على نفسه ومنا من اختبأ خلف أي دريئة ليحتمي بها، علّ تلك العجلة تسهو عن وجوده ولا تدهسه في طريقها.
قلة قليلة فقط اختارت متابعة المسير وحاولت التأقلم، وحافظت على حقها في حلم الحرية واستبسلت في محاولة تحقيقه، بل واختارت أن تكون في موقع المهاجم الشرس الذي يستميت ليأخذ حصته من الحياة على الرغم من وجود كثير من العوائق، واضعة في حسبانها أن قوانين العالم الجديد لا ترحم "ولكن تؤخذ الدنيا غلابا".
أي نوع من الصبر وأي رغبة عارمة بالحياة تلك التي دفعت أولئك الأسرى ليستمروا بالحفر سنوات من دون أن يفقدوا الأمل إذن، إذا لم يكونوا قد شحذوا هممهم طوال ذلك الوقت ولم يغب حلم الحرية عن أفكارهم يوماً.
لا يمكن إلا أن نجري مقاربة مع حالة الأسر المستدام التي يعيشها السوريون اليوم ليس في داخل سوريا فحسب، وإنما مع حالة الأسر النفسية التي قد تمجد الاستبداد أو تستسيغه، أو أولئك الذين يستكينون إلى حالة الأسر ويفقدون الأمل بالحرية ولا يمتلكون الصبر والمحاولة لتحقيقها.
ربما تكون عودتهم إلى الأسر مجدداً مبرراً كافياً لليأس وكاشفاً للمصير المحتوم لكل من يحلم بالحرية في أي مكان من العالم، لكن ذلك لا ينفي أنهم يملكون حرية لا يملكها من هو خارج القضبان، حرية وصبر تمكنهم من تحويل المستحيل إلى ممكن، فيما فقد كثير منا حالة الأمل والصبر لتحقيق الأهداف والمطالب المحقة للشعوب المقهورة واكتفينا بحالة التمني الملازمة للمغلوبين على أمرهم لأننا عدمنا الحيلة والحجة.
من منا الأسير إذن ومن منا الحر؟ نحن أسرى الخوف والحسابات المتضاربة التي لا يمكن أن تعطي ناتجاً صحيحاً ولا يمكن أن تخلف سوى نفوس مكسورة وأحلام هزيلة لا تقوى على المغامرة ولا تتعدى رغيف الخبز.
لا يمكن أن يموت حق وراءه مطالب وهذا بالضبط هو أصل الحكاية، وربما هو ما يجعل الأنظمة الظلامية تستقر وتحط أجنحتها فوق رؤوس الشعوب المكلومة، مستغلة حالة اليأس من استحصال الحقوق والزهد بكل ما يمكن أن يعيدنا إلى مصاف الإنسانية.
إن كل ما قيل أو ما يمكن أن يقال عن حكاية الأسرى لا يمكن أن يختصر حالة النشوة العارمة التي شعر بها من ما زال يؤمن بأحقية القضية ويعيش على حتمية انتصارها، كما لا يمكن أن يُختصر الأمر بالقول أيضاً فالحكاية سوف تختفي غداً أو بعد غد لتصبح طي النسيان، وسوف نعود شعوباً مقهورة مغلوبة على أمرها سلمت مقاليد أمورها للسلطات الحاكمة، وعادت لتدور مع عجلة الوقت التي لا ترحم من أجل تحقيق مكاسب آنية بسيطة لكنها قد تكون بعيدة المنال للاستمرار في عجلة الحياة التي سوف تدهسنا لا محالة.
ها هم يعودون الآن إلى الأسر في وقت نعتقد فيه جميعنا أننا قدمنا لهم من التضامن والنصرة ما يكفي لنزيل عن كاهلنا عبء تأنيب الضمير، ثم سنتناسى الحكاية بعد حين معتقدين أننا أحرار أو على الأقل نسعى خلف الحرية، لكننا كلما زاد سعينا زادت معرفتنا بكل ما يمكن أن يكبل أفكارنا بسلاسل وقيود.
إن عودتهم إلى الأسر أو انعتاقهم من قضبانه، لا يغير حقيقة أنهم كانوا أحراراً وما زالوا، لكننا أسرى للخوف الذي كبل أقدامنا ومنعنا من النضال أو من قول كلمة الحق.