تحاول خديجة (53 عاماً) الحصول على المواد الغذائية التموينية من سكر ورز وسمن وزيت بمختلف الوسائل، التي من بينها بيع جزء من أثاث منزلها في مدينة دوما بريف دمشق.
وخلال حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا، قالت خديجة إنّها في البداية باعت المكنسة الكهربائية والمكواة لأحد تجار الأثاث المنزلي المستعمل، واشترت بضعة كيلوغرامات من المواد الغذائية، ثم اضطرت إلى بيع البراد والمايكروويف ثم طقم الكنبايات، بمعدل قطعة كل شهر.
واعتبرت خديجة أنّ لجوءها إلى بيع أثاث منزلها مقابل الحصول على المواد الغذائية، هو تطبيق حرفي للمثل الشهير "آخر الدواء الكي"، مضيفةً أنّها لجأت إلى شبه المقايضة أيضاً، حيث تقايض قطعاً منزلية بمواد غذائية باتت خارج متناول الطبقة الفقيرة التي تنتمي إليها.
ورغم توفّر المواد التموينية الأساسيّة بشكل مغرٍ على رفوف المتاجر، فإن خديجة والآلاف من سكّان دمشق وريفها غير قادرين على شراء الكميات اللازمة من هذه المواد، بسبب ارتفاع أثمانها في السوق من جهة، ونتيجة لعدم توفّر ما يُعرف بالسلع التموينية، وهي مواد غذائية كانت تُباع في أسواق محدّدة، تستخرج من سلة الإغاثة التي كان برنامج الأغذية العالمي (WFP)، يوزّعها خلال السنوات الماضية.
ومثل خديجة، لجأ أبو عبدو (45 عاماً ويقيم في مدينة داريا بريف دمشق) إلى بيع جميع الأدوات الكهربائية التي في المنزل، بهدف "شراء مؤونة البيت"، حيث يؤكّد لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ منزله "تدوخ الفأر فيه ولا تجد حبة حمص أو رز".
ويضيف: "منذ آخر سلة معونة بت أتسوّق من أجل شراء المواد التموينية، الأسعار لا تحتمل أبدا، لذلك اضطررت إلى الاستغناء عن الأدوات الكهربائية للحصول على الطعام.. على أي حال هذه الأدوات لا أستعملها بسبب غياب الكهرباء".
حكاية سوق المعونة
في وقت سابق، أدّت وفرة السلل الإغاثية الموزّعة من قبل الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية والمحلية إلى نشوء (سوق المعونة)، وهو عبارة عن شراء وبيع المواد الإغاثية سواء بالجملة أو بالتجزئة، وذلك بأسعار أقل من السوق العادي.
وكان عشرات التجّار يشترون السلل الإغاثية من مستحقيها الذين يحتاجون إلى المال أو من بعض الموظفين الفاسدين العاملين ضمن المؤسسات الإغاثية، إضافة إلى مصادر أخرى، بأسعار منخفضة، ثم يعاودون بيعها في بسطات أو متاجر بوسائل غير معلنة، وبأسعار أرخص من نظيراتها في المتاجر النظامية.
وشكّل سوق المعونة الخيار الأفضل للعائلات الفقيرة، حيث يؤمّن لها ما تحتاجه من المواد التموينية، خاصة في ظل تقلّص عدد وحجم السلل الإغاثية وعدم تلبيتها احتياجات الأسرة، لكن مع إيقاف برنامج الأغذية العالمي (WFP)، توقّف توزيع السلل الإغاثية منذ أكثر من 6 أشهر، ما أدّى إلى تدهور هذا السوق وندرة المواد التموينية فيه، مع ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق.
برنامج الغذاء العالمي توقّف بشكل تدريجي عن تقديم المساعدات الغذائية في سوريا، ففي تموز 2023، خفّض البرنامج مساعداته الغذائية من خلال قطع المساعدات عن 5.5 ملايين سوري، وذلك بسبب القيود المالية.
وفي آب 2023، خفّض المساعدات الغذائية والمالية المقدمة للاجئين السوريين في كل من لبنان والأردن، وفي نهاية العام الفائت أعلن البرنامج توقّفه بشكل نهائي.
ورغم أنّ وجود سوق المعونة يكرّس مرحلة جديدة من الفساد الذي يُشرف عليه النظام السوري، نتيجة لتورّط منظمات وشخصيات مقربة منه في الاتجار بالمساعدات الإنسانية، فإن هذا السوق سهّل من إمكانية حصول الشرائح الفقيرة والأشد فقراً، على السلع الغذائية الضرورية.
ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق
بحسب ما رصده موقع تلفزيون سوريا عن أسعار المواد التموينية، فقد ارتفع كيلو الرز من 12 ألف ليرة نهاية العام الفائت، أي قبيل إعلان برنامج الأغذية العالمي عن التوقّف، إلى 17 ألف ليرة، وفقاً للأسعار الحالية.
وسجل لتر الزيت النباتي ارتفاعاً كبيراً أيضاً، حيث تجاوز اللتر الواحد 25 ألف ليرة مقارنة بـ19 ألف ليرة في العام الفائت، أما الحمص فسجّل ارتفاعاً غير مسبوق بسبب زيادة الطلب، كون الحمص يعتبر المصدر الأساسي لمطاعم الفلافل والمطاعم الشعبية، قافزاً من 11 ألف ليرة للكيلو الواحد إلى 32 ألف ليرة.
أسعار طحين المعونة أيضاً تضاعفت مقارنة بالعام الفائت، حيث يُباع كيس طحين المعونة (15 كيلوغراماً) بـ150 ألف ليرة مقارنة بـ75 ألف ليرة سابقاً، أمّا العدس فارتفع من 11 ألف ليرة إلى 22 ألف ليرة.
ويقول أحد تجّار المواد الغذائية في دمشق، إنّ الأسعار مؤهلة للارتفاع بشكل أكبر، في حال لم تستأنف المنظمات الدولية والمحلية عملها في توزيع السلل الإغاثية على مستحقيها.
وأضاف لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ الغلاء الحاصل في المواد التموينية يعني وقوع آلاف العائلات في فخ الجوع ولجوءهم إلى الاعتماد على وجبة واحدة أساسية يومياً، توفيراً لما تبقّى لديهم من مواد تموينية.
برنامج الأغذية العالمي قال مؤخراً، إنّ أسعار المواد الغذائية استقرت في سوريا خلال نيسان الماضي، لكنها بقيت أعلى بنسبة 87% عما كانت عليه قبل عام.
وأشار في تقرير له، إلى أنّ العائلات التي تحصل على الحد الأدنى للأجور، لا تستطيع شراء سوى 29% من احتياجاتها الغذائية، مضيفاً أن 740 ألفاً و800 شخص في سوريا تلقّوا مساعدات برنامج الأغذية العالمي، في نيسان الماضي 2024.
قرار مستغرب
يرى المنسق الإغاثي والطبي مأمون سيد عيسى، أن "توقّف برنامج الغذاء العالمي بداية هذا العام كان قراراً كارثياً، فقد شكّلت السلّة وقاء من الوقوع في براثن الجوع والعوز الغذائي بما تحويه من مواد، رغم تخفيض محتوياتها ست مرات قبل قطعها".
وأضاف خلال حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّه من المستغرب صدور مثل هذا القرار في التوقيت الحالي، مبدياً عدم اقتناعه بالذرائع التي وضعها البرنامج كمبررات للتوقّف مثل وجود أماكن توتر عديدة في العالم منها أوكرانيا وغزة، لكن "على أرض الواقع لا توجد إغاثة لغزة إلا بالقطّارة، أما أوكرانيا فلا توجد أي تقارير دولية تؤكّد وجود كارثة إنسانية لدى سكّانها".
وتابع: "لقد رصدنا تصريحاً لمنسق الأمم المتحدة المقيم للشؤون الإنسانية، آدم عبد المولى، أن 12.9 مليون شخص على الأقل يعانون من انعدام الأمن الغذائي في سوريا، من بينهم بالطبع سكان شمال غربي سوريا".
وعليه، يعتقد "سيد عيسى" أن توقّف السلة الإغاثية التي تعتبر شريان الغذاء الرئيسي لآلاف العائلات السوريّة "يدخل في سياق الضغط على السوريين كي يقبلوا بحلول ترسيم لسوريا، حيث ترافق الضغط في المجال الغذائي مع تقنين الدعم الصحي، فمثلاً مديرية صحة إدلب أكّدت منذ أيام، أنّ انخفاض تمويل القطاع الصحي يُهدد حياة 5 ملايين إنسان في شمال غربي سوريا".
وحول احتمالية استمرار توقّف السلة الاغاثية، يوضّح "سيد عيسى" أن "هنالك وعوداً من برنامج الأغذية العالمي (WFP) بإعادة 30% من الدعم الإغاثي بعد نهاية الربع الأول من العام الحالي، لكن لم تحقّق تلك الوعود حتى الآن"، مردفاً: "نخشى أن يكون انقطاع توزيع السلل الغذائية دائماً".