تتكاثر التحليلات السياسية المفعمة بروح الإيديولوجيات القومية الحالمة بتعزيز التكامل بين البلدان الفقيرة والنامية والصاعدة، ومحاولة خلق استقطابات دولية بين الشمال والجنوب، على قاعدة إبطال السيطرة الإمبريالية الغربية برأسها الأميركي، وضرورة مواجهة هذا التحدي الاستعماري، حيث يجد البعض أن حصول هذا التقاطع التاريخي قد بدأ في مجموعة تحالف "بريكس"، وتوسُّعه بإضافة ست دول إليه منها ثلاث دول عربية، واعتبار ما حصل وفق الوعي الجمْعي العربي والإسلامي، على أنه بداية للانتصارات على المشاريع الخارجية والاستعمار. ولم يعلم هؤلاء، بأن أي تحالف أو تجمُّع دولي سياسي أو اقتصادي وبأية صيغة تكاملية كان، يلزمه معايير محددة إنسانياً وتنموياً وأخلاقياً، ليكون بديلاً عن المشاريع الغربية أو الأميركية النيوليبرالية، هذا بحده الأدنى، أما بحده الأقصى فهو في امتلاكه فكراً ونظرية سياسية_اجتماعية، وبنى اقتصادية تشكِّل حاجة ملحة للمجتمع الدولي، الذي ما زال إلى اليوم يحتكم للمعايير الغربية في شرايين المال والاقتصاد والتوريد والتحويل، وتقديس الفكر الليبرالي المبدع والحريات الفردية والجماعية، وتداول السلطة ونماء المؤسسات وتطويرها ومحاسبة الفاسدين والإعلاء من كرامة الإنسان في صيغة عيشه وبقائه.. فهل هي معايير تتوافر بين دول الـ "بريكس" حتى تلك المنضوية حديثاً إلى هذا التحالف؟ وما هي الخلفيات الاقتصادية وقوة تلك الدول لتشكل بديلاً للغرب أو لنقل مجموعة السبع؟ وما هي الأمثولة التي قدمتها تلك الدول منذ 2009 إلى اليوم، والتي على بلدان العالم أن تحتذيها تيمُّناً بالـ "بريكس"؟
تعتبر كل من الصين وروسيا أنهما حققتا إنجازاً، بإعلان مجموعة "بريكس" الاقتصادية ضمّ 6 دول جديدة إليها. فالنقاشات المكثفة التي خيضت تمحورت حول الأوراق التي يمتلكها التكتل في مسيرته لتوليد نظام اقتصادي عالمي جديد، منها إعادة تقييم النفط بعملات غير الدولار، واستخدام عملات بديلة عن الدولار الأميركي.
شهدت قمة "بريكس" بجنوب أفريقيا مطالبات بزيادة إدخال العملات المحلية في التسويات التجارية والمالية، للتغلب على مشكلات تفرُّد الدولار منذ عقود، كونه العملة الرئيسة لتسوية المعاملات المالية والتجارية على مستوى العالم
وعقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وإحكام العقوبات الغربية على روسيا، أعلنت موسكو أنها ستبيع نفطها بالروبل إلى الهند ليكون الدفع بعملتها، وبعدها قررت السعودية دراسة تصدير جزء من نفطها للصين باليوان، وهو ما أظهر بأن عصر "البترودولار" في طريقه للتراجع.
كما شهدت قمة "بريكس" بجنوب أفريقيا مطالبات بزيادة إدخال العملات المحلية في التسويات التجارية والمالية، للتغلب على مشكلات تفرُّد الدولار منذ عقود، كونه العملة الرئيسة لتسوية المعاملات المالية والتجارية على مستوى العالم، والذي بلغت حصته من احتياطيات النقد الأجنبي على مستوى العالم نحو 60%، واليورو بنسبة 20.4%، ثم الين الياباني بنسبة 5.5%، ثم اليوان الصيني بنسبة 2.6%.
ورغم الأرقام الخاصة بقاعدة البنك الدولي المؤشرة إلى تصاعد مستمر في نصيب دول "بريكس" من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والذي وصل إلى 25%، تبقى قوة البريكس الاقتصادية قائمة على الصين بشكل كبير، فأداء بكين في جميع المؤشرات الاقتصادية الكلية للتكتل يمثل 70%.
وهذا معناه أيضاً_ بعد انضمام دول نفطية لتجمع الـ "البريكس" كإيران والسعودية والإمارات _ بأن التكتل سوف يمتلك حصة كبيرة من إنتاج النفط في العالم بما يصل إلى 25 مليون برميل يومياً، توازياً مع ما تملكه منظمة أوبك، ويعطي هذا نقطة قوة لــ "بريكس" للسير في تسعير وتقييم النفط بغير الدولار، ويكون بالفعل منعطفًا حقيقيًا لإيجاد نظام مالي عالمي جديد.. لكن دون ذلك عقبات كثيرة لم يتنبه لها المراقبون حول العالم، فعملية نزع تفرّد الدولار وطرح سلَّة من العملات والتبادل البيني بين الدول بعملاتها الخاصة، له مخاطر كثيرة من نواح عديدة:
أولاً، لأن تجمع "البريكس" لا يُلزم أعضاءه بشيء، ولا لناحية بيع النفط بالعملات المحلية كونه سلعة استراتيجية، وفي التعاملات البينية، وهذا يشكل أكبر نقاط الضعف للتكتل. فالدول المنضمة حديثاً لها تعاملاتها التجارية والمالية مع مجموعة السبع الصناعية أهمها الصين، ومن هنا ستكون مضطرة لبقاء تسعير النفط بالدولار، ولكسب الدولار وتسوية معاملاتها التجارية والمالية.
ثانياً، المشكلة هي ما يتعلق بالنفط وإنتاجه وليس ببيعه فقط، حتى بمراحل الاستكشاف والتنقيب والإنتاج والنقل والتأمين، فهي تتم مع شركات غالبيتها أميركية وغربية، وهو ما يجعل تسعير النفط بغير الدولار يواجه صعوبات جمَّة، بالإضافة إلى أن واشنطن لن تقف عاجزة أو متفرجة على سحب أوراق سيطرتها على الاقتصاد العالمي، فهي لديها أسلوبها في الدفاع عن مصالحها ومصالح الغرب، بمثل ما أدارت الأزمة في تجارتها مع الصين وضوابط تنظيمها، فالغرب لديه التقنية والتكتيك وفن التعامل مع الأزمات الاستراتيجية، وما يتعلق بالنفط، خاصة بعدما تجاوز أزمة قرار "أوبك بلس" بتخفيض الإنتاج على وقع الحرب في أوكرانيا، وحاجة أوروبا للطاقة، بحيث تمَّ تفريغ كل قرارات "أوبك بلس" من مضمونها، وفي كل عام تمتلئ خزانات النفط والغاز الأوروبية بالطاقة دونما عناء.
وعليه، فإن تشابك المصالح وتعقُّد العلاقات الدولية الاقتصادية ونظام التحويل المالي الدولي، يعطي أطراف الصراع مساحة تعاون وتبادل المنافع والخدمات، حيث إن قضية تراجع أو انتهاء عصر البترودولار، يتوقف على الإرادات السياسية لتجمع "بريكس" وقدرته على تحمُّل تبعات هذه الخطوة. فالتناقض في المصالح يحكم دول البريكس القديمة منها والحديثة في دخول هذا النادي، فالهند لا تتجرأ على استفزاز واشنطن بما يتعلق بالمصالح الاستراتيجية، ولن تسمح بخلق منصة واسعة لهيمنة الصين، كذلك روسيا التي تواجه عزلة دولية وعقوبات اقتصادية على وقع اشتداد المنافسة الاقتصادية بين بكين وواشنطن.
الرؤية الإيرانية لتسويات النزاع لدول المنطقة في سوريا ولبنان والعراق واليمن، تختلف عن السعودية في نظرتها ورؤيتها للحل في لبنان أو سوريا بشكل جذري
وحتى المِلفات المتعلِّقة بأزمات الشرق الأوسط، فالرؤية الإيرانية لتسويات النزاع لدول المنطقة في سوريا ولبنان والعراق واليمن، تختلف عن السعودية في نظرتها ورؤيتها للحل في لبنان أو سوريا بشكل جذري، وكذلك رؤية طهران للحل في سوريا يختلف عن رؤية موسكو فيها وعن رؤية الرياض. وإلاَّ لماذا لم تقم موسكو وطهران بفرض تسوية في سوريا وإعادة الإعمار في هذا البلد المنهك والمهجر شعبه؟ ويطرح السؤال نفسه عن العراق ولبنان واليمن، بمعنى، هل هذه الدول الوازنة في تكتل "بريكس" قادرة على طرح الحلول في بلدان متعثرة هشَّمتها الحروب الأهلية بسبب التدخل الإيراني الذي فخَّخها وجعل من شعوبها أرقاماً في دفاتر حسابات الروسي والإيراني لقاء تسويات في مقايضة الغرب؟
أما بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، فأي تسوية تبقى معادلتها صفراً لا يمكن إنجازها بعيداً عن واشنطن، ناهيك عن تضارب المواقف بشأن التسوية حتى بين دول تحالف البريكس، وهذه قضية مهمة إذا ما أراد العالم البحث عن مستقبل الشعوب في التنمية دون الهيمنة الأميركية والغربية.. فلكل ذلك حسابات أبعد وأخطر ممَّا كُتِب في قمة جوهانسبورغ وممَّا حُبِّر في دفاترها.
أخيراً، تكمن أهمية الدولار كعملة احتياط رئيسية في حجم اقتصاد الولايات المتحدة في التجارة الدولية، وحجم انفتاح الأسواق المالية وقبول العملة عالمياً، كذلك الاستقرار السياسي للدولة المصدرة للعملة، وقوة الاقتصاد، وتكامل وعمق أسواقها المالية، وجودة الديون السيادية، ووجود نظام قانوني موثوق للدولة، كما يستفيد الدولار من السلع الأساسية كالنفط المسعر بالعملة الأميركية.
ورغم هبوط حصة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، لا توجد بدائل عنه. وبحسب وكالة "موديز إنيفستورز سيرفيس"، فإن هيمنة الدولار ستستمر لعقود مقبلة، حتى في حال ظهور نظام لسلة عملات، فإن الدولار الأميركي سيقوده. فالأدوات الفاعلة في البريكس غير قادرة، والقادر غير مقتنع بمعاداة الغرب وأميركا، وهو ممسوك مالياً واقتصادياً، حيث لم تتوفر بعد لدى هذه الدول، القدرة العالية في الناتج المحلي القومي الإجمالي لدولها، ولا القدرة الشرائية للمواطن الفرد لديها في ناتجه المحلي الإجمالي.. فقيمة الناتج المحلي الإجمالي لكل دول البريكس، قد لا يتجاوز مثيله لدى واشنطن البالغ 26 ألف مليار دولار سنوياً..