كتابان صدرا خلال الفترة الماضية، يجب أن يتوقف المتابع للشأن السوري عندهما، وأن يضعهما ضمن الأدوات المهمة في سياق الدفاع عن حق السوريين بالحرية، والخلاص من المأساة التي مازالت البلاد تدفع فيها من حيوات ودماء أبنائها.
الكتاب الأول صدر عن منظمة "مع العدالة" غير الربحية حمل عنوان "القائمة السوداء" وجاء في عنوانه الفرعي: "الانتهاكات التي ارتكبها أبرز قيادات النظام السوري وسبل جلبهم إلى العدالة".
المنظمة التي تسعى - بحسب تعريفها لنفسها- إلى" إحقاق مبدأ المساءلة ومنع الإفلات من العقاب لمجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان في المجتمعات التي تعاني من حروب أهلية وكوارث طبيعية أو خرجت للتو منها، مع تركيز خاص على الشرق الأوسط وسوريا"، وصفت كتابها على أنه "سجل للتضحيات التي سطرها السوريون لنيل حريتهم، ويوثق الانتهاكات التي وقعت في حقهم وسبل محاسبة مرتكبي تلك الانتهاكات"!
أما الكتاب الثاني فقد صدر بدوره عن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، وحمل عنوان "الاحتجاز في صيدنايا" وجاء عنوانه الفرعي: "تقرير عن إجراءات وتبعات الاعتقال".
وهذه الرابطة معروفة لدى شرائح واسعة من الجمهور السوري، إذ ارتبط نشاطها بالكشف عن جرائم النظام في السجن الشهير، وقد جاء في سجل مهامها التعريفي أنها "تسعى إلى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة للمعتقلين على خلفية رأيهم أونشاطهم السياسي". إضافة إلى عملها على" الكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسراً في سوريا بشكل عام وسجن صيدنايا بشكل خاص". كما أن في مهام الرابطة أعمال شتى ترتبط بشؤون المعتقلين والمختفين كتوثيق أعدادهم ومناطقهم وتاريخ فقدانهم والجهة المسؤولة عن اعتقالهم. كما يبرز في عملها تواصلها مع أسر المفقودين و"تقديم الدعم المعنوي لهم وإيصال صوتهم ومعاناتهم بشتى السبل والوسائل الممكنة". كما "تعمل الرابطة على شرح قضية المعتقلين والمفقودين أمام الرأي العام المحلي والدولي والتعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية للقيام بتحقيقات حول قضايا المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا"
وتبعاً للأعباء التي حملتها الرابطة، فإن هذا الكتاب يهدف إلى الإجابة عن أسئلة؛ من هم المعتقلون وكيف يتم اعتقالهم؟ وما هي تبعات الاعتقال عليهم أو على عائلاتهم (الآثار الجسدية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية)؟ وما الذي تغيَّرَ بعد الثورة سواء في إجراءات الاعتقال أو تبعاته؟ ويعتمد التقرير على البيانات الواردة من أول 400 حالة (جميعهم رجال) تم توثيقها حتى بداية آذار 2019 .
المنظمتان اللتان أصدرتا الكتابين ونشرتاهما مجاناً أمام جمهور القراء، وضعتا توثيق جوانب من المأساة السورية هدفاً لهما، ويمكن اعتبار الجهد الذي صُب في سبيلهما نموذجاً لما يمكن فعله، بالتوازي مع العمل السياسي والثوري في سبيل إنهاء حكم الديكتاتورية في سوريا، وجر مجرميها إلى المحاكم المختصة، لينالوا ما يستحقون!
هنا يتوقع المرء أن تقابل الجملة الأخيرة بسخرية من قبل جزء كبير من جمهور السوريين الذي فقد ثقته بإمكانية أن تتحقق محاسبة مجرمي نظام الأسديين ذات يوم!
ولكن لابأس ببعض ردود الأفعال المتوقعة، وغير المتوقعة أو المأمولة بعد كل هذا الجهد، فهذه السخرية ليست صميمية، بل هي عابرة ويمكن أن تمر طالما أنها مبنية على حالة الخذلان التي يعيشها السوريون تجاه العالم كله، ولكن لا بأس بتذكير من يسخرون من الجهد التوثيقي، الذي لا يقابل بخطوات محاسبة على أرض الواقع ببعض النقاط المهمة في هذا السياق؛ إذ كيف يمكن لحقوق الضحايا أن تبقى وأن تظل شاخصة أمام المجتمع السوري المحلي، وكذلك النخب السورية كلها، وكذلك أمام المجتمع الدولي ولا سيما المنظمات الدولية العاملة في هذا الشأن، إذا لم يقم أبناء القضية السورية بالعمل على ترسيخها والعمل مراراً وتكراراً على التذكير بوجود مجرمين قاموا بجرائمهم (وهذا ما يفعله الكتاب الأول) دون أن يتم جرهم إلى القضاء المحلي أو الدولي لمحاسبتهم على ما فعلوه؟
كيف يمكن بناء القضايا الجنائية ضد هؤلاء المجرمين إذا لم يتم الاشتغال على واقع الضحايا أنفسهم
وكيف يمكن بناء القضايا الجنائية ضد هؤلاء المجرمين إذا لم يتم الاشتغال على واقع الضحايا أنفسهم، وعلى تبعات ما عايشوه أثناء تجارب الاعتقال وما بعده (كما يفعل الكتاب الثاني) وتوثيق شهاداتهم، أمام الجمهور أولاً وأمام المؤسسات الدولية، العاملة على هذا الشأن و الداعمة للمنظمات السورية المحلية؟
وبالإضافة لما سبق، فإن متابعة التجارب السابقة المماثلة للمأساة السورية، توضح كيف أن الشغل الدؤوب على وضع الملفات القانونية، هو أول الخطوات في سبيل إبقاء القضية قائمة في مواجهة محاولات الدول الداعمة للنظام وعلى رأسها روسيا إسقاط الملف الحقوقي القانوني ضد رأس النظام ورجالاته، عبر بناء ملف قانوني حقوقي مضاد يتهم شخصيات سورية مدنية وعسكرية معارضة، وكذلك منظمات مدنية كالدفاع المدني (القبعات البيضاء) بارتكاب جرائم ما تجعلهم على قدم المساواة مع مجرمي النظام، ما سيؤدي في النهاية وفي سياق التسوية النهائية للأزمة السورية، إلى وضع جرائم النظام في كفة مقابلة لكفة "جرائم" المعارضة! فيتم إسقاط الأولى مقابل إسقاط الثانية، وهكذا تذهب حقوق الضحايا، أدراج الرياح، كما جرى في بنود إنهاء حروب داخلية شتى حيث يتم إصدار عفو عام عن الجرائم المرتكبة في زمن الحرب الأهلية يضطر فيها أولياء الدم إلى إسقاط حقوقهم مقابل السلام!
هنا وضمن السياق ذاته، لا بد من فرملة مسعى النظام المافيوزي الروسي، ومعه دول أخرى كالصين وإيران وكذلك بعض الأنظمة العربية لتعويم نظام الأسد، والدفع إلى إعادة العلاقات معه، وأظن أن أكثر ما يفيد هنا هو التركيز على ملفه الحقوقي الأسود، وعلى كشف جرائمه واحدة واحدة، وفضح أسماء مرتكبيها، وربط سياق الأفعال الإجرامية بما يقابلها على كل المستويات، في سبيل إسقاط فكرة لطالما سوقها مؤيدو النظام، تقول إن النظام سيئ بجانب منه ولكنه جيد بجانب آخر، فهو سيئ في مجال الحريات ولكنه جيد في دعمه للمنظمات التحررية ومواجهة إسرائيل والإمبريالية..!
إن عملاً متماسكاً بآليات ربط استقصائية متمكنة، لا بد سيوضح وبعيدا عن الجدل البيزنطي مع هؤلاء، أن حقوق الضحايا والجرائم المرتكبة بحقهم لا علاقة لها بسمو أو انحطاط الأهداف المسوغة لها، إننا نحتاج إلى توسيع العمل التوثيقي وترسيخه، إذ لا يمكن أن نقنع أي أحد بعدالة قضية ما من خلال الشعارات، ويمكن بكل تأكيد إقناع أي هيئة حقوقية بعدالة قضية متماسكة، مبنية على أدلة وشهادات! عن جرائم حرب وحشية ارتكبت بحق مئات آلاف الضحايا، وما زالت مستمرة!