"تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية"، كتابٌ آخر عن ثورات الربيع العربي، يصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عبر سلسلة "ترجمان".
العنوان الأصل للكتاب: " Enlightenment in the Eve of Revolution: The Egyptian and Syrian Debates"، من تأليف الكاتبة "إليزابيث سوزان كسّاب"، وترجمه عن الإنكليزية "محمود محمد الحرثاني". وتناقش فيه المؤلفة السياقات الفكرية التي تخلّقت فيها أجواء الثورة في كل من مصر وسورية، مستعرضةً الفروق بين خطابات التنوير في السنوات التي سبقت الثورتين، ومقارنةً بين ما يُسمى "التنوير الحكومي" و"التنوير المستقل" في الحالة المصرية وعلاقتهما بالإسلاميين.
جاء الكتاب في 4 فصول موزعة على قسمين، ضمن 280 صفحة بالقطع الوسط. في القسم الأول، الحالة المصرية، تناقش المؤلفة أعمال مفكرين من مشارب مختلفة مثل مراد وهبة، ومحمد عمارة، ومنى أباظة، ونصر حامد أبو زيد، وجابر عصفور، وشريف يونس.
اقرأ أيضاً: "سورية الأخرى".. كيف ضبط النظام الفن المعارض واستفاد منه؟
أما في القسم الثاني، الحالة السورية، فتحتل أعمال أنطون مقدسي، وسعد الله ونّوس، وفيصل دراج، وممدوح عدوان، وبرهان غليون، وطيب تيزيني، مكانة بارزة. وتميّز المؤلفة بين لحظتين في التنوير السوري: اللحظة السيزيفية، واللحظة البروموثية، في تحليل عميق لقضايا لا تكفّ عن البروز كلما خبا أُوَارها أو أُريدَ له أن يخبو.
تنوير مصر في التسعينيات: علماني وحكومي وإسلاموي
يضم القسم الأول، "القاهرة"، فصلين. وفي الفصل الأول، "نقاشات التنوير العلمانية والحكومية والإسلاموية في مصر في تسعينيات القرن العشرين"، تراجع المؤلفة أفكار جابر عصفور من الخطاب العلماني، وأفكار محمد عمارة من الخطاب الإسلامي، فـ "كلاهما يتحدث باسم معسكره، وكل منهما ينسج حججه من فهم متين لتاريخ الأفكار المصري الحديث، وكل منهما راسخٌ القدم في مجاله: الأول في النقد الأدبي، والثاني في الدراسات الإسلامية".
قبل ذلك، تتطرق المؤلفة إلى خطاب للتنوير كان قائمًا في سبعينيات القرن العشرين، فتح بابه مراد وهبة، ولقي سبيله إلى نقاشات التسعينيات من القرن العشرين، "حيث تلاقت اهتماماته الفكرية مع تلك النقاشات، لكنه ظل إلى حدٍّ بعيد مستقلًّا عن المعسكرين. وإذا ما ألقينا نظرة على هذا الخطاب المستقل فسيكتمل تصورنا عن التنوير في مصر أواخر القرن العشرين".
اقرأ أيضاً: "الحكومة العربية في دمشق" جديد المركز العربي عن أهم تجربة سياسية
تجد المؤلفة أن النهضة وطبيعتها وهويتها تشغل حيزًا مركزيًا في خطابات التنوير الثلاثة، فـ "خطاب الدولة وخطاب العلمانيين يريدان استعادة أفكارها وبواعثها التنويرية الأساسية لنصرة حملتهم التنويرية الراهنة. أما الإسلاميون فيريدون الإصرار على طابعها الديني. ويشكل الدين والأصولية الدينية والعلمانية العنوان الرئيس الثاني لنقاشات التنوير المصرية في تسعينيات القرن العشرين. وما تضطلع به الدولة من شأن في تعريف وإدارة حيز الدين وحيز مشروع التنوير هو العنوان الرئيس الثالث".
يظهر للمؤلفة أن المثقفين المصريين غير الإسلامويين يراهنون على دفاع الدولة عن الحريات ضد التحدي الإسلاموي الشامل، ومن ناحية أخرى يشتكون من سياسات الدولة الأوتوقراطية ورأفتها "الموسمية" تجاه الإسلامويين. كما ينتقد المثقفون المصريون الحجم المتضخم للدولة، بينما يخشون عليها من الاضمحلال تحت تأثير الإسلامويين.
التنوير المصري: تفكيك نقدي
تقول المؤلفة في الفصل الثاني، "تفكيك بعض النقاد المصريين لنقاشات التنوير المصري في تسعينيات القرن العشرين عند نهاية الألفية"، إن خطابَي التنوير الحكومي والإسلاموي تعرّضَا لهجوم حادّ من جهات عدة، مناقِشةً ثلاث هجمات؛ أولاها من الباحثة في علم الاجتماع منى أباظة، وثانيتها من الباحث في الدراسات الإسلامية نصر حامد أبو زيد، وثالثتها من المؤرخ شريف يونس.
وبحسبها، استهجن هؤلاء المفكرون الثلاثة ما تعرض له التنوير من امتهان يتصف بالنفاق والسطحية، بل إنه يتصف بالسخرية المُرّة. وقد حللوا الخلفية التاريخية الاجتماعية للمثقفين المنخرطين في كلتا الحملتين، "ورأوا أن كلا الخطابين مُداجٍ لأن أنصار كلٍّ منهما في الواقع كانوا محافظين مذعنين لا شأن لهم، ثمّ إنهم ليسوا إزاء أفكار التنوير التحررية. أضف إلى ذلك اعتقادهم أن كلا الخطابين سطحي أُنتج على عجل ليواجه الخطر الإسلاموي من دون تحليل جادّ للواقع الذي أسفر عن هذا الخطر، ومن دون إفاضة في التصورات النظرية لأفكار التنوير.
أخيرًا، بين أولئك المفكرون أن الخطابين استخدما استخدامًا هزليًا في لعبة سلطة، كان الغرض منها القفز على السلطة أو التلاعب بها، وليس نشر قيم التنوير.
اقرأ أيضاً: "تطور سوريا السياسي في ظل الانتداب".. كتاب إدمون رباط بالعربية
ترى المؤلفة أنّ فشل التنويريين العلمانيين في الدفاع عن الحرية والعلمانية "ليس بسبب افتقارهم إلى الشجاعة والالتزام، إنما بسبب شكوكهم بشأن قدرة تلك القيم على التناغم مع رغبات الناس الذين هم في أعينهم محافظون ومتدينون حتى النخاع ولا تعنيهم أفكار الحرية ويميلون ميلًا لتلقي الأفكار الإسلاموية. وبهذا يجد التنويريون أنفسهم مُحاصرين من جهة معسكر إسلاموي يطرد عدوانه ومن جهة جمهور يسيء فهمهم ويعجز عن تقدير مثلهم التنويرية".
النقاشات السورية: اللحظة السيزيفية
يشتمل القسم الثاني من الكتاب، "دمشق"، على فصلين. وتقول المؤلفة في الفصل الثالث، "نقاشات التنوير في سوريا في تسعينيات القرن العشرين: اللحظة السيزيفية"، إن الإسلام السياسي في خطابات التنوير السوري لم يكن الخصم الرئيس، كما هو الحال في التجربة المصرية، "إنما كان استبداد الدولة السورية وفسادها ووحشيتها. فقد تعرض الإسلامويون في سوريا للاضطهاد والاعتقال والاغتيال قبل بدء النقاشات بعقد من الزمان؛ وأعلن الإسلام السياسي جريمة وإلى حدٍّ بعيد اختفى من المشهد السوري".
اقرأ أيضاً: كتاب تنظيم الدولة المكنّى "داعش"
كذلك، كان المجال العام الذي جرى فيه النقاش السوري يخضع لكثير من القيود، أكثر كثيرًا مما تعرض له النقاش المصري، وذلك حصيلة قمع الدولة المنظم لأركان المعارضة وحركاتها من جميع ألوان الطيف السياسي.
ولم تكن حكومة النظام، بخلاف نظيرتها المصرية، تُعنى في ذلك الوقت بخطاب التنوير. وبحكم الرقابة الشديدة في سوريا، فإن أولئك الذين تجاسروا على الكلام لجؤوا في الحقيقة إلى لغة عامة مشيرين إلى المجتمع العربي والدولة العربية والأنظمة العربية.
في تحليل خطابات التنوير السورية، تستكشف المؤلفة مفاهيم ومجازات ووقائع الظلمة والنور في خطابات أحمد برقاوي، وميشيل كيلو، وممدوح عدوان، وبرهان غليون، وعبد الرزاق عيد، وصادق جلال العظم، وطيب تيزيني. وفي ضوء ما ألقاه الباحث الفرنسي المتخصص في علم الاجتماع ميشيل سورا، تبحث عن طبيعة فاعلية النظام السوري في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وتهتمّ برائدَين من رواد التنوير السوري السيزيفيين؛ هما سعد الله ونّوس، وفيصل دراج، ثم تنتهي إلى مناقشة مجلة قضايا وشهادات، بوصفها منتدى للتنوير السوري السيزيفي.
ربيع دمشق: اللحظة البروموثيوية
تعرض المؤلفة في الفصل الرابع (الأخير)، "التنوير وربيع دمشق على منحنى الألفية: اللحظة البروموثيوية"، بإسهاب لتحركات المثقفين السوريين المنخرطين في ربيع دمشق، وتتساءل في النهاية: هل كانت هذه التحركات ساذجة تعوزها اللباقة السياسية ومحكومًا عليها بالفشل منذ البداية؟ وهل كانت تحركات معزولة لنخبة منسلخة عن واقعها ومنعزلة عن الناس؟ ثم هل كانت المخاطر التي ركبتها تلك النخبة حين جهرت بصوتها وتحركت وفقًا لأفكارها بشأن التعبئة المدنية تستحق العناء، بالنظر إلى الثمن المُتوقع؟
بحسب المؤلفة، مهما كانت طبيعة الإجابات عن هذه التساؤلات، "فإن الأحداث بما فيها اندلاع التظاهرات الضخمة في آذار/ مارس 2011 أثبتت أن الأفكار والتحركات والناس الذين انخرطوا في ربيع دمشق لم تكن بمعزلٍ عن مزاج البلاد العام؛ إذ لاح أنها تزامنت مع نذير كاسح بشأن تدهور الأمور سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وناقوس خطر يدق بضرورة الإسراع في معالجة التدهور عقلانيًا وعلنيًا، في ظل اليأس والذلة اللذين ما برحا يتناميان في قطاعات كبيرة من المجتمع. هذه الأفكار، وليس التحركات، كانت حاضرة في كتابات تسعينيات القرن العشرين التي جاء بها السيزيفيون".
تضيف المؤلفة أن الإجابة عن السؤال "أين المثقفون؟"، الذي يظهر عادةً في بداية حركات الاحتجاجات في أنحاء الوطن العربي، تستدعي أن يجيب المرء بالإشارة إلى هذه الكتابات (وأحيانًا التحركات) التي أصدرها مفكرون نقديون عرب على مدار السنين الطويلة من عمر هذه الحركات.
تختم المؤلفة كتابها قائلةً: "لا أحاجج هنا أن الكتابات والأفكار أدت إلى الحركات على نحو سببي، وإنما أشير إلى التشابه بين المخاوف والتوق والمساعي التي عبرت عنها كتابات السيزيفيين، وتحركات البروموثيين، ومطالب المحتجين السوريين".