داخل مستودع متطرف في حي الفيض جنوبي جبلة -إحدى المناطق المهمشة والفقيرة- تقطن أم خالد مع أطفالها الثلاثة منذ أكثر من عامين دون أي معيل بعد وفاة زوجها. ووسط مشهد لم يكن مألوفا في المدينة الساحلية تجمع المرأة الأربعينية منذ ساعات الصباح الأولى بقايا المواد البلاستيكية و"القراضة" تنتقل من مكان إلى آخر على رجليها دون أي آلية لتجمع نهاية اليوم من الأموال ما يمكن أن يسد رمقها ويشبع أطفالها.
اقرأ أيضاً: قيادات النظام في الساحل.. من الأمن والعسكرة إلى تجارة المسروقات
أم خالد ليست نازحة بل هي من سكان مدينة جبلة، وصل بها حال الفقر لتعيش هذه الأيام، مجبرة وفق ما تؤكد بعد أن تخلى عنها الجميع من جمعيات خيرية وأقارب.
تقول أم خالد في حديث لموقع "تلفزيون سوريا " كنا في زمننا الماضي نسمع عبارة ما حدا بنام جوعان، لكن أنا وأبنائي جربنا هذا الأمر مرارا، في بعض أيام المطر التي لا أستطيع أن أجمع بها شيئا ننام جوعى بالفعل".
أحمد هو طفل في العاشرة من عمره يمثل وجها آخر من البؤس الذي بات يحيط بعائلات كثيرة في الساحل السوري يخفيها ضجيج وصخب المدينة، يقف لساعات طويلة يوميا أمام الفرن ليشتري الخبز لجيرانه مقابل بعض الأموال التي يعين بها أهله. يقف الطفل ذو البنية الضعيفة ليصارع عشرات الرجال يوميا لأكثر من ثماني ساعات لا يتعلم خلالها سوى الدفش والصبر، على أمل يوم يعود فيه لمكانه الطبيعي في مقاعد الدراسة.
اقرأ أيضاً: "الناس تأكل بعضها".. كيف تغير سكان اللاذقية مع تدهور الاقتصاد؟
كثيرة هي القصص التي لا تنتهي لعائلات المدينة الذين عاشوا قبل سنين بمعظمهم في بحبوحة مادية، أو على الأقل لم يكن لأهل الخير أن يتركوا جائعا، إلا أن كثرة الحاجة وانتشار الفقر جعل في كل بيت قصة يكاد يطغى أساها على ما سبقه.
أبو فؤاد أحد تلك القصص الكثيرة، طيلة سنوات اعتاش الرجل الخمسيني على ما يرزق به من البحر عبر قاربه الصغير(الفلوكة)، إلا أن مرضا مفاجئا في ظهره ألم به، وجعل منه سطيح الفراش ليضطر لبيع كل ما يملك في سبيل إطعام أبنائه.
يقول أبو فؤاد:" الشكوى لغير الله مذلة ابني في الثالثة عشرة من عمره يعمل في العتالة، وزوجتي تخرج كل يوم لتنظيف البيوت ومع كل ذلك لا نستطيع اللحاق بمتطلبات الحياة الأسعار تقفز كل يوم، بالكاد نأكل، حتى دوائي لم أعد أشتريه وألغيت فكرة العملية الجراحية التي أنا بحاجة إليها".
انعدام للطبقة الوسطى:
في مدينة اللاذقية بضع كيلو مترات فقط تفصل بين منطقة الزراعة والرمل الجنوبي حيث يبدو المشهد وكأنه صورتين منفصلتين في أماكن متباعدة لكن الحقيقية غير ذلك.
في حي الرمل الجنوبي حيث تتلاصق المنازل وتتوزع بسطات الخضارعلى الأرصفة، يفترش بعض الأطفال والنساء بضائعهم غالبها أشياء بسيطة (خبز، مسبحة، أعمال يدوية أو ماشابه)، حيث تختلط أصوات البائعين، في حين بات مشهد بعض النساء اللواتي يجمعن بقايا الخضر التالفة مشهدا طبيعيا.
اقرأ أيضاً: أسعار المواد الغذائية في سوريا ترتفع والحجة هذه المرة الحرائق
في الضفة المقابلة في حي الزراعة ثمة مشهد مختلف تماما على مساحة واسعة تنتشر الفيلات الضخمة التي تعود لتجار وقادة ميليشيات يعرفهم أهل الساحل تماما، أمام مدخل كل فيلا عدة سيارات فارهة بعضها من موديل العام، في إحداها تظهر سيارة من ماركة "لامبورغيني" الفاخرة، بينما يستبدل مشهد البسطات هنا بمعارض السيارات الفخمة والكافيهات الفاخرة التي تمتلئ أيضا بسكان هذه المنطقة.
يروي مسؤول "لجان التنسيق المحلية" أبو يوسف جبلاوي في حديث لموقع "تلفزيون سوريا" بعض المظاهر التي طرأت على الساحل السوري خلال السنوات الأخيرة على الصعيد الاجتماعي نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية، ومنها انتشار ظاهرة تشرد الأطفال وتسربهم بشكل كبير من المدارس، وارتفاع معدلات السرقة والجريمة وحالات الانتحار، مضيفا الفارق الاجتماعي اتسع بشكل كبير، ومحيت الطبقة الوسطى التي معظمها موظفون وعمال مهن، وأصبحت الطبقة الفقيرة تشكل أكثر من 90% من عامة الأهالي.
إفقار متعمد:
وبينما يعتمد معظم سكان الساحل السوري على الزراعة والوظائف الحكومية والصيد كمهن أساسية في هذه المنطقة، أدت سياسية النظام إلى إفقار هذه الطبقات بشكل أساسي من خلال الإهمال والقرارات الخاطئة.
فمهنة الصيد وفق مصادر محلية تمت محاصرتها بشكل كبير منذ سنوات بحجة التهريب وتم التضييق على العاملين في هذه المهنة من خلال مجموعة من القرارات التي تحدد ساعات عملهم والمسافات التي يسمح لهم بالوصول إليها، كما ساهم الوضع المعيشي المتدهور في تراجع الإقبال على الشراء في حين لم يتوفر لهم أي فرص للتصدير.
اقرأ أيضاً: : الأمم المتحدة: 140 ألف شخص تضرروا بسبب الحرائق في سوريا
بالمقابل لا يبدو وضع الفلاحين أفضل في ظل الارتفاع المستمر لأسعار الأسمدة والمواد الأساسية وعدم ملائمة أسعار المنتجات مع تكاليف الإنتاج.
ومع استمرار ارتفاع الأسعار المستمر والذي وصل خلال الأيام الأخيرة إلى مستويات قياسية بعد طرح فئة الـ 5000 ليرة يؤكد الخبير الاقتصادي معمّر عجيل وهو من أبناء المنطقة أن الساحل السوري ومعه باقي المناطق بات على مشارف مجاعة حقيقية، موضحا: "منذ أشهر طويلة استغنت معظم العائلات عن الكماليات ومواد أساسية مثل اللحوم والفواكه والملابس لتساير الأسعار مع الدخل، لكن الآن ومع هذه الأسعار الجديدة عن ماذا سيستغنون؟ لم يعد لديهم سوى الطعام، الأمور تتعقد بدرجة كبيرة والسواد الأعظم من أهالي الساحل يتجه للمجاعة".