"اكتب، اكتب" الدعوة إلى فاعلية الفنان:
يخبرنا التاريخ الفني والأدبي، بأن الفن المسرحي استمر في التقديم والكتابة والتمثيل حتى في أحلك مراحل القمع السياسي والرقابة الصارمة أو الاحتلال. وقبل أن نذكر نماذج مسرحية تضمنت نضالاً سياسياً وإنسانياً في ظل رقابة صارمة، تطالعنا تجربة عرض (الآن وهنا) للمخرج (عمر الجباعي)، وهو مقتبس من مسرحية (بينغو، إدوارد بوند). قُدم العرض في فضاء شام محل الفني في دمشق القديمة عام 2012، تمثيل: (هاني الأطرش ومؤيد رومية) اللذين يؤديان شخصيتي الكاتبين التاريخيين المسرحيين الإنكليزيين (بن جونسون وشكسبير)، وقد اختار العرض مقابلة هذين الكاتبين المعروفين بتنافسهما في تاريخ المسرح العالمي، ليدعو أحدهما الآخر إلى العمل: "اكتب، اكتب الآن وهنا". ومن خلال هذه الدعوة التي يوجها (بن جونسون) إلى (شكسبير) يحاول صانع العرض أن يدفع الفنانين والمثقفين إلى الفاعلية والعمل والكتابة في الفترة الصعبة من التجربة السياسية والاجتماعية السورية.
الرموز المسرحية في ظل القمع:
تبدأ المسرحية بحكاية حريق وقع في مطبعة، يؤدي إلى احتراق الطابعات والآلات والأوراق والكتب، في إشارة رمزية إلى العنف في سوريا الذي دمر وأحرق الحياة الفنية والثقافية. سينوغرافياً، نرى خلف الشخصيتين الوحيدتين في مقهى عام، لوحة (الغورنيكا) التي تحمل أيضاً إحالات رمزية، فاللوحة رسمها الفنان الإسباني (بابلو بيكاسو) في العام 1937 يدين فيها قصف مدينة غورنيكا في إقليم الباسك الإسباني، وأصبحت أشهر الأعمال الفنية في التعبير عن موضوع الحرب والظلم والموت. وإن اختيارها خلفية مستمرة على طول المسرحية هو تعبير عن الحال السياسي والاجتماعي الذي تعيشه سوريا، وهي استعمال مكثف للرمز أيضاً. فالعرض لا يصف حال الحرب أو القمع بصورة مباشرة، وخصوصاً أنه يقدم في فضاء عام كالمقهى.
عن حضور الموت:
يناقش الكاتبان، شخصيتي المسرحية، عن حضور الموت: "الموت سهل، الموت صعب" يدور النقاش بينهما حول كثافة حضور الموت من حولهما عبر حكايات متفرقة مات ممثلان أثناء بروفات عرض مسرحي، مات ابن صاحب البيت الذي استأجره شكسبير، ويروي (بن جونسون) حكاية موت ابنه: "أنا لما مات ابني ما قدرت أدفنو، ما لقيت قبر، بعدين دفنتو بقبر بالدين، مع أنو كان بيستاهل أحسن من هيك، الموت سهل، الدفن هو الصعب".
الخيار الإخراجي بتقديم المسرحية على طاولة في مقهى وسط طاولات الجمهور، يعطي للحوارات بين هاتين الشخصيتين التاريخيتين طابع الثرثرات العامة التي تجري في المقاهي ومطاعم مدينة دمشق في تلك الفترة. كأن المخرج يدس العرض بين الزبائن، بين الطاولات ليجعل منه حدثاً عادياً، لكن لينبه إلى تحليل المتلقي على موضوعاته. يُخرج ( بن جونسون) رصاصة من جيبه: "هي حقها 60 ليرة، الموت بستين ليرة، سعر هذه الرصاصة ستين ليرة، فيك تقتل أو تنتحر فيها". الانتحار واحدة من الاحتمالات التي يناقشها الكاتبان، في ظل هذه الأوضاع المفروضة عليهما من العجز والمأساة، يحضر احتمال الانتحار في عقل الفرد أو المواطن، وكذلك في عقل الكتابين المرتبكين أمام سؤال المأساة: "ليش معك رصاصة ؟، عم فكر انتحر".
دور الفنان في ظل المأساة:
إن السؤال الأبرز التي تعالجه المسرحية في ظل الأوضاع التي تعيشها دمشق حيث قدم العرض، هو عن دور الفنان بشكل عام في ظل هذه الأحداث، ومن هنا يأتي خيار المخرج بتقديم الحوار بين هذين الكاتبين: "شو عم تكتب هالفترة؟" هو السؤال الأساسي الذي يدور بينهما، في تلك الفترة حيث كان الإنتاج الفني والثقافي السوري يسأل السؤال ذاته، ما الذي يمكن عمله أمام هول الأحداث؟ سؤال انتشر بكثافة في حوارات الفنانين/ات في تلك الفترة: "هل يجب الكتابة الآن أم الانتظار للابتعاد عن الحدث والتأمل حول كيفية الكتابة عنه؟"، تحمل المسرحية عنوان: "الآن هنا"، وكأنها تحمل مقولاً تجاه هذا السؤال، الفاعلية الآن هنا.
أمام حجم المأساة يتسم فعل الكتابة بالعبثية، بالنسبة لـ (بن جونسون) أصبحت الكتابة مهنة وسخة، لا تفعل إلا توسيخ اليدين: "الكتابة توسخ الورق"، لكنه في الوقت نفسه، يحمل رؤية واضحة حول الموضوعات التي يجب الكتابة عنها، فهو يركز على موضوعات الواقع السياسي والاجتماعي من حوله: "بيخطرلي قوم بمشروع مشي من الشمال للجنوب على الرجلين فقط، وحدي، وأكتب عن هالرحلة كتاب". إنها دعوة إلى الكتابة عما يحدث في الواقع: " 4 مرات انسجنت، شو بتعرف عن السجن؟ مكان بلا ضو بلا نفس"، وصحيح أن جريمة (بن جونسون) في المسرحية جريمة شخصية، حيث تهجم على رجل بالقلم وجرحه، إلا أنها تفتح على كل حكايات الاعتقال والتعذيب في سوريا: "تعذيب، تعذيب، كان الواحد يرجع ع الزنزانة ناقصتلو أيد، مقصوص أنفو، مشقوق بطنو".
الكتابة والسيرك فنون ترمز للالتزام:
يقول المخرج (عمر الجباعي): "ينتهي العرض بينما بن جونسون، المنافس الأبرز لشكسبير يدعوه إلى الكتابة، في تلك الفترة هي دعوة إلى الإنتاج في ظل كل ما كان يجري". وإذا كانت الكتابة هي الموضوع الفني الذي تتناوله مسرحية (الآن هنا) في دعوة إلى مناقشة دورها وجدواها وأهميتها وموضوعاتها في ظل العنف والقمع، فإن (فرناندو أرابال)، وفي إطار نص أيضاً أنتج في ظل القمع الفرانكوي في إسبانيا، وأبدع في الرمزية، فقد اختار فناً آخر، وهو فن البهلوان والسيرك كتورية عن الفن الملتزم بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وبموضوع الحرية. وذلك في مسرحيته (الحبل المتهدل أو أغنية القطار الشبح، 1974).
كان (أرابال) في المدرسة الثانوية تحت حكم نظام فرانكو، حين كتب يصف حال الشبيبة الإسبانية: "لقد كان أطفال سنتي 1944 و1945، لا تتجاوز أعمارهم العاشرة أو الحادية عشرة. ومع صغر سنهم فقد جندوا في التشكيلات التابعة أو الموازية للجيش الكتائبي. في هذه التشكيلات تعلموا الهتاف للثورة وللكتائب، وتبادلوا التخاطب بكلمة الرفيق، كما تعلموا كراهية الفن والحقد على الدول الأخرى. على أن أحسن ما تعلموه في فترة تجنيدهم هو مهنة التبليغ والوشاية، حتى إن الواحد منهم كان لا يتورع عن التبليغ عن نفسه"، في ظل هذا النظام من حكم الحزب الواحد، كتب (أرابال) نصوصه المسرحية، التي حملت الرمزية وتقنيات التورية عن النضال والحرية والظلم. ورغم أنه هاجر إلى أميركا اللاتينية إلا أنه استمر يكتب نصوصه المسرحية بهدف أن تعرض للجمهور في مدريد-إسبانيا، ولذلك ابتكر التقنيات التي تمكن نصوصه من أن تصل إلى جمهور بلاده القابع في رقابة مشددة.
مسرح الحرية في ظل الحكم القمعي:
مسرحية آرابال بعنوان (وقيدوا الورود) تروي حكاية وزير يبني قداسته مستعيناً بالخطاب الديني، يتعاون مع نظام القمع والظلم الذي يسود كل السجون، والحكاية تتناول التعاون بين الديكتاتوريات السياسية والدينية في التحكم بالشعوب. أما مسرحيته (إلى اللقاء يا جميلة) تتناول الطبقة المثقفة في تعاونها مع السلطات، وترسم للثقافة صورة كاريكاتورية على أنها جهاز لترسيخ التسلط الطبقي. في مسرحيته (الحبل المتهدل أو أغنية القطار الشبح) يرمز الفنان البهلوان إلى معنى الحرية، يقول البهلوان: "الحديث عني ممنوع، والإشارة إلى ما أفعله ممنوعة. على أن الحديث المباح عني هو الوشاية بي".
البهلوان الفنان رمز الحرية:
بالإضافة إلى كل التقاطعات السابقة مع الواقع السوري، فإن أبرزها هو ذلك الذي يمكن مقارنته بين مدريد في النص ودمشق في الراهن اليوم. تقع أحداث مسرحية (أرابال) في مدريد، التي توصف في النص بأنها المدينة الشبح، التي فقدت جميع سكانها على مدى عشرين عاماً، يقع الحدث قرب واحد من أحد مناجم الفحم. يستغرق النص في وصف المدينة، مما يثير صوراً من العاصمة السورية اليوم: "الكل غادرها، وبين عشية وضحاها عادت قاحلة، تلاشى هباء كل مجدها".
كما أن (الآن وهنا- عمر الجباعي) هي حوار يجري بين كاتبين، فإن مسرحية (أغنية القطار الشبح، آرابال) هي أيضاً في مجملها حوار بين بهلوانيين، لاعبي خفة في سيرك، الكهل والشاب. البهلوان في هذه المسرحية هو رمز للفنان وللرؤية وللدعوة إلى العمل: "لكي تكون بهلواناً لا بد لك من عينين تنفذان إلى اللا مدى، بحيث يكون الكون حبيس طرف هذا الحبل. هنا يبدو البهلوان كما لو كان حمامة تخطو فوق برعم. ولكن حين يسقط من فوق الحبل، يصبح عبارة عن حصان لا حوافر له ولا أجنحة. إلى العمل أيها الكسالى". هكذا، يمتلئ الحوار بين البهلوانيين بإشارات عن سعي الفنان إلى الحرية: عصفور فوق برعم، وعن كارثة إخفاقه فيتحول إلى: حصان بلا حوافر.
الفنانون/ات بين الصمت والمنفى:
يصف آرابال مدريد، بما يذكر بواقع دمشق الراهن. لكن رحيل السكان عن المدينة في ظل اليأس من التغيير، يفجر مواهبهم في بلدان اللجوء: "كل الذين لم يجيدوا الرسم، رحلوا فأغرقوا الأرض بلوحاتهم. الذين لم يحسنوا الكتابة، ذهبوا فتحولت مسوداتهم إلى قصائد، والذين لم يستطيعوا أن يعيشوا ولا أن يشتغلوا، تخطوا الحدود آملين العثور على الكرامة والمجد". ولم يبق في المدينة إلا البهلوان: "فر كل الناس، إلا أنا. أنا الوحيد الذي بقي فيها. أنا الراقص على الحبل لكن الخرائط لا تعير أدنى اهتمام لوجودي وحيداً في هذه المدينة". ويحلم البهلوان (ثارسيس) بأن يصبح رمزاً للحرية والشجاعة وعدم رهبة الموت: "أراني منذ الآن في سماء مدريد، حركة المرور متوقفة. الناس جميعاً ينظرون إلى أعلى، ويتساءل الكل كم هو أحمق هذا الذي يتجرأ على مغازلة الموت بهذا الشكل، ولماذا؟ وسيقول الجميع يجب أن نكون أحراراً مثله".
تمثل شخصية (الدوق) في المسرحية الطبقة المنتفعة، ويدور الحديث معه حول حتمية هجرة الفنانين أو بقائهم، وهو موضوع طال نقاشه أيضاً في الأوساط الثقافية والفنية السورية. خطاب (الدوق) بأن الفنان مكرم في بلده: "ستموت في يوم من الأيام وأخيراً ستتحدث عنك الصحافة، ستروي كل الصحف قصة حياتك بطريقتها الخاصة، وستؤكد أنك كنت أحسن بهلوان في التاريخ". وينصح (الدوق) الفنانين/ات بالبقاء في بلادهم/ن: "أنت ترى ما وصل إليه البهلوانيون الذين مكثوا في إسبانيا. إنهم مشهورون في مدريد معروفون محبوبون متوجون. دون أن يصدر عنهم أي احتجاج. هذا علاوة على أنهم مهيؤون لتقبل فكرة التغيير المحتمل الذي سيحدث في يوم من الأيام. في هذا اليوم، سيكونون أول من يدعي شرف النضال المرير من أجل مناهضة الوضع. سيكونون أول من يدين الأشخاص الذين كافؤوهم وسيتهمونهم بالفساد. وفي ذلك اليوم سيقرون بأن ذلك الكسول الذين لم يحسم فعل شيء غير اختيار الحل البسيط: المنفى".
الموت الممتد بين مدن القمع:
يحضر الموت أيضاً بين مدريد ودمشق، وبشكل رمزي أيضاً، إن القطار المحمل بجثث القتلى من ضحايا عمال المناجم هو رمزية إلى البلد الغارق في الموت: "كان القطار مشحوناً هذه المرة، بدا لي أنه مشحون بالهياكل العظمية والجثث"، هو رمزية لكل الإنسانية الغارقة بالقتل والموت: "ليس مشحوناً بهياكل وجثث عمال المنجم فقط، بل أيضاً ببقايا الهنود الذي قتلهم الغزاة، وبرفات المرتدين الذين أحرقتهم محاكم التفتيش وبهياكل أبناء وأحفاد الفاتحين. ملايين الموتى الذين لم تنقش أسماؤهم على الألواح الرخامية في قوس نصر، ولم تدون في كتاب تاريخ. ملايين الموتى من دون قبور".
يتقاطع النص المسرحي الإسباني مع الحدث السوري حين يعالج ظاهرة أولئك الذين شكلوا ثرواتهم وسلطاتهم من خلال الحرب
يتقاطع النص المسرحي الإسباني مع الحدث السوري حين يعالج ظاهرة أولئك الذين شكلوا ثرواتهم وسلطاتهم من خلال الحرب، وهم ممثلون في المسرحية في شخصية والد (الدوق): "إنه جمع ثروته بفضل ما ارتكبه من جرائم. وبالتدقيق فهو الذي كان يطالب بوجوب صلب المثليين على برج الكاتدرائية"، يقول (الدوق) في وصف هؤلاء: "لا بد من معرفتهم في حياتهم اليومية الحافلة بالتناقضات، لكن القسوة هي نهاية مطافها. رأيتهم يذرفون الدمع تأثراً بعد مشاهدتهم قصة حزينة على شاشة متلفزة، كما رأيتهم يتصدقون على فقير أو يداعبون كلباً أو يقدمون قطعة حلوى إلى طفلة صغيرة، لكنهم يستشرسون حين تهاجم قيمهم الأساسية، يتحولون إلى بشر آليين سفاحين".
بين مدريد ودمشق مقولات الفن الرمزي:
مدريد في المسرحية تشبه دمشق الراهنة، يصفها البهلوان بالمدينة البكماء المفجوعة: "بقيت مدريد خالية من السكان كما لو كانت قلبا لا يتنفس ولا يخفق. ذلك أن خيرة أبنائها إما في السجن وإما في المنفى وإما أصابهم البكم. سأعتلي الحبل من أجلهم، وحدي مثل الفنان الذي يتحدى الأخطار والتهديدات ويقترن بالموت".
وفي نهاية المسرحية يصعد البهلوان على الحبل، الذي علقه على جدران السجن، وتهاجمه الطائرة الحربية، ويواجهها البهلوان متابعاً خطوه فوق الحبل برشاقة لا متناهية، في رمزية إلى الفنان الذي يرغب أن يلهم الحرية لمشاهدي عروضه، وكل سكان مدريد المارّين في شوارعها، لحظة طيرانه وتحليقه إلى السماء، نهاية فانتازية-فوق طبيعية أرادها المؤلف رمزاً مباشراً لإمكانية تحقيق الفنان لأثره الاجتماعي، في أن يطير ليُلهِم فكرة الحرية.