تهيمن على المنظومة الاقتصادية السورية المفككة عدة مجموعات وتكتلات اقتصادية ناشئة وأخرى كلاسيكية، وتبعاً لثقل ونفوذ كل تكتل ومدى تغلغله وحظوته لدى نظام الأسد يتم توجيه السياسيات الاقتصادية بالشكل الذي يخدم مصالح هذا التكتل أو ذاك بغض النظر عن الآثار السلبية التي قد تنعكس على مختلف قطاعات العمل ووسائل الإنتاج وعوامله.
ويبدو أن فشل حكومة النظام في التخطيط وإدارة الموارد، وأخيراً خسارتها التحكم في وسائل الإنتاج لصالح بعض التكتلات المتحكمة والمتنفذة قد عززت فرضية التفكك والأداء المصلحي غير المتناغم بين مختلف القطاعات.
حلب مثالاً
في حلب كان ظهور التكتلات الاقتصادية أكثر وضوحاً في النصف الثاني من العام 2020، وأهمها تكتل الصناعيين ومن يلوذ بهم من طبقة رجال الأعمال الحلبيين، وهي الطبقة التقليدية التي كانت وما تزال تمتلك القسم الأكبر من الاستثمارات في المعامل والمصانع والورش في المناطق الصناعية الكبيرة والصغيرة، وهذه الطبقة كانت تشكل حلقة مهمة من دورة الإنتاج (الموارد الطبيعية والمواد الخام والمرافق والبنى التحتية والآلات والأدوات المستخدمة في التصنيع والقوى البشرية العاملة والتسويق) لكنها لم تعد كذلك بعد أن خسرت التحكم في أهم وسائل الإنتاج السابقة واللاحقة لمرحلة التصنيع وذلك لصالح التكتل الصاعد والذي يضم أهم أمراء وتجار الحرب.
خلال النصف الأول من العام 2021 حيزت الهيمنة بالمطلق على المنظومة الاقتصادية في حلب لتكتل "مجموعة القاطرجي الدولية" والتي تضم عشرات التجار ورجال الأعمال المقربين من المجموعة، والذين ينضوون تحت مظلة "غرفة تجارة حلب" والتي تعتبر أحد أهم مكاسب المجموعة منذ بداية العام الحالي.
ويمتلك التكتل المفترض أهم أدوات التحكم في وسائل الإنتاج والتسويق في الوضع الراهن للاقتصاد السوري "المليشياوي"، كالطرق وشركات الحماية والنقل وممرات التهريب والمواد الخام والحواجز والتحويلات المالية والخدمات التسويقية وتنظيم عمليات الاستيراد وتشمل تحديد المواد والأنواع التي يسمح باستيرادها.
وللتكتل المفترض علاقات مميزة مع المنظومتين الأمنية والعسكرية للنظام، ولديه تمثيل واسع في السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (مجلس الشعب)، لذا كان لهذا التكتل النصيب الأكبر من الاستثمارات خلال الأشهر الستة الماضية في الخدمات والسياحة والعقارات وعمليات الاستيراد والتهريب.
وتصدر رجالات التكتل المشهد المحلي سياسياً واقتصادياً، وأضحى مقر غرفة التجارة ومضافة مجموعة القاطرجي أهم المحطات التي يقصدها زوار حلب من حكومة النظام وحزب البعث والوفود الخارجية (الروسية والإيرانية والعراقية).
في ثاني تحرك لها، نظمت القنصلية الإيرانية في حلب بالتعاون مع غرفة التجارة أواخر شهر حزيران الماضي، ملتقى اقتصادياً في فندق شهباء حلب للبحث في سبل الشراكة الاقتصادية ولإعداد بعض المشاريع المتنوعة التي تساهم في توفير الكثير من الاحتياجات لإعادة إنعاش الحياة الاقتصادية.
وخلال الملتقى قال مهدي عباس رئيس المكتب الاقتصادي الإيراني في القنصلية الإيرانية بحلب أن "هناك تعاوناً من خلال الزيارات وتفعيل التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة بين الطرفين، وهناك 44 تاجراً إيرانياً من أغلب الاختصاصات في إعادة الإعمار والبناء و في مجال الأغذية والصناعات الكيميائية قصدوا حلب كونها عاصمة الاقتصاد وثقلها للبحث والعمل في مجال تطور وتبادل الخبرات والتجارب وتطوير التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة بين الطرفين".
الصدام بين تكتل الصناعة وتكتل التجارة
بدأ الصدام بين كتلة "تجار القاطرجي" وكتلة الصناعيين التقليدية مبكراً بعد أن فتحت كتلة التجار المهيمنين على السوق وعمليات الاستيراد ومعابر التهريب الباب على مصراعيه لدخول السلع والبضائع التركية والإيرانية والصينية، وإغراق السوق بمنتجات منافسة لتلك المنتجة محلياً من ناحية فارق الأسعار والجودة.
وتصدر فريق المدافعين عن كتلة الصناعيين رئيس "غرفة صناعة حلب" فارس شهابي، والذي اتهم التجار بالعداء للقطاع الصناعي والعمل على إجهاض المساعي الهادفة إلى ترميم وإعادة إحياء القطاع المتضرر، وتكرر إطلاق "شهابي" على التجار المتعاونين مع الحواجز وميليشيات النظام المتحكمة بممرات التهريب وصف "دواعش" الداخل، زاعماً في كل مرة انتعاش القطاع الصناعي في حلب وعودة معظم منشآته إلى العمل، وهي مزاعم في معظمها مخادعة ولا تشبه الواقع الحالي للقطاع المنهك.
وفي آخر هجوم له على مستوردي الأقمشة الأجنبية ومهربيها من تجار حلب ودمشق، قال "شهابي" في فيس بوك: "للأصوات الشاذة التي بدأت تعلو مؤخراً مطالبة بالسماح باستيراد الاقمشة الأجنبية والتي ينتجها أكثر من ألف معمل في حلب فقط، لن نسمح لكم أبداً بضرب صناعة النسيج الوطنية العريقة في عقر دارها عبر إدخال مخلفات وتصافي المصانع التركية الرخيصة، ونذكركم بحملة الدفاع عن صناعة النسيج التي قمنا بها عام 2017 ومستعدون لإعادتها مجدداً وبزخم أقوى هذه المرة".
وأضاف "حتى أقمشة الشال والإشارب والتي يعيش من إنتاجها مئات العمال لم تسلم منهم ومن فسادهم، اليوم مصانعها مهددة بالتوقف بسبب شبه تاجر فاسد مصمم على إدخال أقمشة رخيصة من الخارج تحت أعين الجمارك وكسر أسعارها لإغلاق كل المصانع الوطنية، أحد المصانع الوطنية المهددة بالإغلاق فيه 80 عامل ومن أجل أن تزداد أرباح محل تهريب صغير فيه عامل أو اثنين".
قال الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر لموقع "تلفزيون سوريا" إنه "مما لا شكّ به أن الاقتصاد السوري لن ينتعش ما لم يتم تغيير طبيعة التفكير لدى صناع القرار، والانتقال من التفكير كميليشيا إلى التفكير بعقلية الدولة والمؤسسات، فالقطاع الصناعي عموماً، والنسيجي على وجه الخصوص، يعاني من موت سريرِي في ظل حكومة النظام، فالطلب في أدنى مستوياته نتيجة تراجع مستوى الدخل والمعيشة، والعرض هو الآخر متدن بسبب غلاء الأقطان وانخفاض المساحات المزروعة بالقطن، ناهيك عن صعوبات الاستيراد، إضافة إلى ذلك فإن التكاليف التي يتكبَّدها المُنْتِجون القلائل تزيد من تكلفة الصناعة مما يؤثر سلباً على قدرتها التنافسية، وهذه التكاليف تتمثل بإتاوات الحواجز والأجهزة الأمنية، وغيرها".
وأضاف: "هنا لا بد من التأكيد على أن غياب السلطة المركزية في حكومة النظام، والتحول إلى سلطة رجال الحرب سبب لنشوء دول داخل الدولة، وفي ظل هكذا ظروف ستتقهقر الصناعَة والزراعة والتجارة، فميليشيات أمراء الحرب تهتم بالكسب الآني ولا تعير اهتماماً لمستقبل الصناعة ولا لمستقبل الدولة لذلك فإن أي حديث عن انتعاش الاقتصاد وأجنحته الصناعية والزراعية والتجارية يبقى حلماً غير قابل للتحقيق في ظل الظروف الأمنية والسياسية السائدة"
"فارس شهابي" يكذب
"فارس شهابي" ومعه فريق من رجال الأعمال الصناعيين في حلب كانوا وما زالوا في مقدمة داعمي نظام الأسد في حربه على الثورة السورية منذ انطلاقتها في العام 2011، وبقي للشهابي وآخرين في طبقة الصناعيين الأثرياء نفوذ وحظوة لدى النظام حتى نهاية العام 2016.
وكان للشهابي مقعد في مجلس الشعب في الفترة التي كانت الأحياء الشرقية بحلب تحت سيطرة المعارضة السورية، لكن الحال تغير بعد خروج المعارضة وظهور "القاطرجي" أمير حرب الأكثر لمعاناً وثروة من "شهابي" ومجموعته، والذي يؤدي خدمات أعظم للنظام، وكانت مكافأته أن أقر له النظام بسلطة واسعة في حلب ليبني فيها مملكته الخاصة، والتي وطن فيها القسم الأكبر من ثروته واستثماراته.
لاحقاً، خسر شهابي في الدورة الأخيرة مقعده في مجلس الشعب بينما برزت أسماء جديدة محتلة المقاعد التي تمثل حلب، أمثال حسام قاطرجي وعمر الحسن ممثل "لواء الباقر" المدعوم من إيران وأسماء أخرى تمثل ميليشيات محلية وعشائرية مقربة جداً من النظام.
وبرغم خسارته لنفوذه، واصل "شهابي" دعمه للنظام وترويجه لمزاعم مخادعة بخصوص تعافي القطاعات الإنتاجية في حلب بعد خروج المعارضة، أي من العام 2017 وما بعد، وتكرر ظهوره في عدد من المعامل والمناطق الصناعية متحدثاً عن عودة المعامل والمنشآت إلى العمل، لكن مزاعمه غالباً ما كانت كاذبة ولا تعكس حقيقة الوضع الراهن لأكثر القطاعات الاقتصادية تضرراً في حلب، لا بسبب الدمار الذي لحق بها كما يزعم "شهابي" إنما بسبب سياسات النظام وضغطه على القطاع الذي بدا مقصوداً إلى حد كبير.
يطرب "شهابي" عادة لمقولات المعلقين على تصريحاته التي لا يملك سواها في صفحته بموقع فيس بوك كتلك التي تقول "أنت يجب أن تكون رئيساً للوزراء أو على الأقل وزيراً للصناعة" و "بأمثالك يمكن أن تعود سوريا لتألقها وازدهارها".
يقول الباحث يحيى السيد عمر إن "الترويج للتعافي الاقتصادي مِن قِبل الشهابي وغيره لا يتعدى الدعم السياسي الفارغ للنظام، إضافة لمحاولة إثبات نفسه كأحد رجال الدولة القادرين على إحداث فرق في الواقع الاقتصادي، وربما هذا الأمر يكون لأهداف شخصية كتحقيق مكاسب سياسية في المرحلة القادمة".
في العام 2018 عاد الكثير من المنشآت الصناعية بحلب وبالأخص تلك المختصة بالنسيج بأنواعه إلى العمل وعاد عدد كبير من الصناعيين من مصر وغيرها من بلدان النزوح، لكنها ما لبثت أن أغلقت أبوابها من جديد وغادر الصناعيين مرة أخرى، وتعتبر الصناعات النسيجية والتريكو من أهم الصناعات في حلب، وكانت خطوط إنتاجها تستوعب أكثر من 30% من القوى العاملة قبل الثورة، وتركزت الكبيرة منها في المدينة الصناعية في الشيخ نجار، والمتوسطة في الليرمون، والصغيرة تركزت بشكل خاص في منطقة العرقوب داخل حلب، لكن قسماً كبيراً من أصحاب المصانع الكبيرة هاجر بين العامين 2012 و2013،
وكانت مصر الوجهة المفضلة لهم لاعتبارات أهمها رخص الأيدي العاملة ووجود المواد الخام الأولية، ومنذ بداية العام 2017 حاول أصحاب معامل النسيج ترميم مصانعهم، وإعادة افتتاحها، ولكنهم اصطدموا بقرار وزارة الاقتصاد بخفض الضريبة الجمركية للمنتجات النسيجية المستوردة إلى النصف، لتصبح منافسة للمنتج المحلي.
وعانت الصناعات النسيجية في الفترة ذاتها من الضرائب والترسيم من قبل حواجز مليشيات النظام، على المواد الأولية والمنتجات المصنعة. إذ كان صاحب المصنع يدفع على حمولة شاحنة واحدة قرابة ألف دولار أميركي، ليُسمَحَ لها بدخول حلب أو الخروج منها. كذلك أثر ارتفاع أسعار الديزل، وانقطاع الكهرباء شبه الدائم، على الصناعات النسيجية ورفع تكلفتها. كما زادت الكلفة بسبب ندرة الأيدي العاملة، نتيجة سوق الشبان المتواصل للخدمة الإلزامية في قوات النظام. ولتهريب البضائع الأجنبية إلى السوق السورية، دور بارز في منافسة المنتجات النسيجية المحلية. كل ذلك أدى إلى إفلاس المئات من المصانع والورش وتوقفها عن العمل.
تفكك المنظومة الاقتصادية
ينعكس الأداء الفاشل لحكومة النظام بمختلف وزاراتها على أداء عموم قطاعات العمل ويكرس تفككها، فالقطاع الزراعي الذي من المفترض أن يشكل الحلقة الأولى في دورة الإنتاج على اعتبار أنه يقدم جزءا لا بأس به من المواد الخام فشل فشلاً ذريعاً خلال الموسم الماضي في تحقيق أي هدف من أهداف خطته السنوية التي أطلق عليها اسم "عام القمح"، والذي كان ضريبته تهميش العديد من المحاصيل التي تمد قطاع الصناعة بالمواد الخام كالشمندر والقطن والذرة والتي حددت لها مساحات محدودة وبعضها ألغي بشكل كامل.
وبدل أن تتصاعد كميات الإنتاج لمحصول القطن على سبيل المثال تزامناً مع الانتصار المزعوم ما بعد العام 2017 والتعافي المخادع للقطاعات الإنتاجية، انخفضت الإنتاجية بشكل هائل، ففي الموسم الزراعي للعام 2019 وصل إلى 50 ألف طن تقريباً، وروج حينها لعودة مهرجان القطن إلى حلب في دورته الـ57 بعد توقفاً دام لثماني سنوات.
لكن المهرجان توقف مرة أخرى في العام 2020، وفي الغالب لن يقام العام الحالي 2021 بسبب تدني الإنتاجية وقلة المساحات المزروعة بعكس الخطة المعلنة حينها في العام 2019، ففي الموسم الزراعي الحالي لا يتجاوز الإنتاج الـ14 ألف طناً، وهي لا تكفي لسد احتياجات معامل النسيج العاملة حالياً من القطن المحلوج والخيوط القطنية، وهو ما تسبب في فتح باب الاستيراد من الخارج.