تغلغل أم استيطان إيراني في سوريا؟

2021.12.13 | 05:10 دمشق

2018-07-10t141108z_834418068_rc1a1ca65b70_rtrmadp_3_mideast-crisis-syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يتوقف النظام الإيراني عن تنفيذ مخططاته التوسعية في سوريا بالرغم من الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لمواقع وجود قواته وميليشياته الطائفية المتعددة الجنسيات، ومن التنافس على مناطق النفوذ في الجغرافيا السورية مع النظام الروسي، فضلاً عما يشاع عن وجود تفاهمات روسية إسرائيلية، وعن ذرائع الأنظمة العربية المطبّعة مع نظام الأسد، التي تتحدث عن أن هرولتها نحو التطبيع معه تصبّ في سياق محاولتها إبعاد هذا النظام عن المحور الإيراني، وإعادته إلى الحضن العربي الفارغ من كل شيء سوى الاستبداد وقمع الشعوب.

وليس جديداً التغلغل الإيراني المتعدد الوجوه في سوريا، والذي يدخل في إطار مشروع الهيمنة الفارسية على بلدان المشرق العربي، بل يمتد إلى سنوات عديدة، وخاصة بعد اندلاع الثورة السورية، لكن وتيرة التغلغل وسبل توطيده ازدادت في الآونة الأخيرة، وتجسدت في تجدد عمليات التغيير الديموغرافي والهندسة الاجتماعية، كما نشطت بشكل حثيث حركة التشيّع في مختلف مناطق سوريا، وبدت تلك العمليات واضحة للعيان في معظم مدن وأرياف محافظات حلب وحمص وحماة وتدمر ودير الزور ودرعا والسويداء والقنيطرة.

ولم يكتف النظام الإيراني بتعزيز حضوره العسكري داخل الأراضي السورية عبر إرسال ضباط وعناصر من الحرس الثوري وميليشيات فيلق القدس وسواهما، بل قام باستقدام ميليشيات شيعية لبنانية وعراقية وأفغانية وغيرها، إلى جانب الميليشيات الشيعية التي قام بتشكيلها وتدريبها وتمويلها في سوريا، وبزجها جميعاً في الحرب الدائرة منذ سنوات دفاعاً عن نظام الأسد، ثم سعى إلى توسيع عمليات النفوذ الاجتماعي وتثبيته في سوريا، عبر تحويله وجوده العسكري والميليشياوي إلى تغلغل اجتماعي واستيطاني، حيث قامت شبكاته العاملة في سوريا بتنفيذ مخططات توطين عديدة، وهي تسعى في أيامنا هذه إلى استكمال إحداث "ضاحية جنوبية" في منطقة "السيدة زينب" في جنوبي دمشق، على غرار الضاحية الجنوبية في بيروت المحتلة إيرانياً بواسطة ذراعها في لبنان حزب الله، الذي يعتبر رئيسه حسن نصر الله أن لبنان جزء من إيران.

وبناء على ذلك، تجري عمليات شراء العقارات والأراضي في محيط مدينة دمشق الجنوبي، وتمتد إلى المناطق والبلدات القريبة من مطارها الدولي، حيث شملت عمليات الشراء مختلف البلدات والمناطق الواقعة على جانبي طريق المطار، إلى جانب تأسيس جمعيات خيرية ومؤسسات اجتماعية في مدينة دمشق وريفها، وتجري عمليات مشابهة في مختلف مدن ومناطق سوريا، بالإضافة إلى أن عمليات التخريب المجتمعي باتت تستهدف الجيل الناشئ، حيث تقوم مجمعات ومراكز ثقافية وتعليمية في غرس الرؤية الإيرانية للتعاليم الشيعية في عقول الأطفال السوريين، كما تقوم بتقديم دورات لتعلم اللغة الفارسية، وإرسال وفود إيرانية لإلقاء محاضرات ودورات حول المذهب الشيعي.

كما أن الحرس الثوري الإيراني يتولى أعمال متنوعة في المناطق الشرقية والجنوبية، مثل تشكيل لجان إغاثية توزّع مساعدات على عائلات عناصره وعائلات الميليشيات، وبعض الفقراء المسجلين في قوائمها، وفتح مستوصفات مجانية، ويقوم بعدد من الأنشطة الاقتصادية مثل تشغيل آبار النفط في البادية، وحراسة أعمال وخطوط التهريب عبر الحدود مع العراق وسوى ذلك.

ويلتقي المسعى الإيراني مع ما يقوم به نظام الأسد من تغيير مصائر سكان مدينة دمشق وعمرانها، عبر التدمير الواسع النطاق لأحياء بأكملها، وخاصة تلك التي شهدت حراكاً احتجاجياً ضده خلال الثورة السورية، لذلك عمد إلى تهجير سكان المجتمعات المحلية المناهضة له قسرياً، إضافة إلى طرح وتنفيذ مشاريع يُراد منها إعادة تشكيل علاقة مدينة دمشق مع النسيج العمراني والسكاني لضواحيها، تحت مسمى إعادة التنظيم، وبغية الاستيلاء على حقوق السوريين الذين هجرهم قسرياً من أماكن عيشهم وسكناهم.

يلتقي المسعى الإيراني مع ما يقوم به نظام الأسد من تغيير مصائر سكان مدينة دمشق وعمرانها، عبر التدمير الواسع النطاق لأحياء بأكملها، وخاصة تلك التي شهدت حراكاً احتجاجياً ضده خلال الثورة السورية

غير أن النظام الإيراني يريد من تعزيز تغلغله الاستيطاني، وتوطيد نفوذه في سوريا تحقيق أهداف عديدة، أولها، توفير البيئة الاجتماعية الحاضنة من أجل تأمين خطوط التواصل والإمداد بين أذرع شبكته الأخطبوطية، الممثلة بالميليشيات والقوى السياسية التابعة لها في كل من العراق ولبنان، وتوفير القدرة على مدها بالأسلحة والذخائر والمال وسوى ذلك، والذي يتم عبر تأمين الطريق التي تبدأ من إيران وتمرّ بالأراضي العراقية لتصل إلى لبنان عبر الأراضي سوريا. وثانيها، تعزيز العمق الاستراتيجي لهذا الطريق عبر توسيع نطاق مناطق النفوذ على جانبيه، وثالثها، تعزيز الوجود الإيراني بالقرب من الحدود الإسرائيلية والأردنية، ورابعها، الاستعداد لإشغال الفراغ التي سيخلفه الانسحاب الأميركي المحتمل من سوريا.

وتحقيقاً لمساعيه التوسعية في سوريا، لم يلتزم النظام الإيراني بالتفاهمات التي أبرمها مع النظام الروسي عام 2018، حول إبعاد القوات الإيرانية والميليشيات مسافة 85 كم من كل المناطق القريبة من الحدود مع إسرائيل، وذلك بعد رعاية النظام الروسي للتسويات التي فرضت على فصائل المنطقة الجنوبية من سوريا، وجرت بموافقة نظام الأسد، وحظيت بدعم الولايات المتحدة والأردن، إذ تشير تقارير ميدانية إلى أن القوات الإيرانية وميليشياتها زادت من نقاط تمركزها في هذه المنطقة، ووصل عددها إلى ما يقارب تسعين نقطة تمركز، فيما لم يكن عددها يتعدى الأربعين نقطة في عام 2018.

ويستفيد النظام الإيراني، من أجل زيادة تمدده وتغلغله في سوريا، من أدوات ووسائل متعددة، مستغلاً عمليات التهجير القسرية الواسعة التي أدت إلى تهجير وتشريد ملايين السوريين من أماكن عيشهم وسكنهم، وسماح نظام الأسد له بالتصرف في أملاك النازحين والمهجرين، لذلك لا يجد نظام الملالي صعوبة في توطين أفراد وعائلات ميليشياته بدلاً منهم، إلى جانب استغلاله الانهيار الاقتصادي والمعيشي للسوريين داخل مناطق سيطرة النظام، وحجم الدمار في البنى التحتية في مختلف المدن والبلدات والقرى السورية، نتيجة الحرب الشاملة التي يخوضها نظام الأسد وحليفه الروسي والإيراني ضد غالبية السوريين.

ولا شك في أن الأمر لم يعد يقتصر على التغلغل الإيراني في سوريا، بل يتعداه إلى نهج استيطاني إيراني فيها، لذلك يُعتبر النظام الإيراني من أخطر القوى الأجنبية الفاعلة في القضية السورية وأشدها تأثيراً على النسيج الاجتماعي السوري وتماسكه، كونه يعمل على تثبيت وتوطيد نفوذه في سوريا، من خلال إتباع نهج التغيير الديموغرافي والمجتمعي في المناطق التي تسيطر عليها قواته والميليشيات التابعة له، وتوطين أفرادها وأسرهم فيها، بالتنسيق مع نظام الأسد، الذي يعوّل على أن يتحول المستوطنون الجدد إلى جزء من كتلة طائفية متراصة وموالية، تطبيقاً لما قاله بشار الأسد من أن سوريا ليست لمن يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها، أي أنها باتت في معياريته ليست للسوريين، بل له ولمن يدافع عن بقائه في السلطة إلى الأبد.