احتفاءً بالشعر العربي في المنفى، أقام السوريون فعاليات شعرية تحت شمس حزيران في بلد لجوئهم، تركيا. جاءت الفعالية الأولى تحت مسمى "ملتقى ترانيم وطن" الشعري في مدينة كهرمان مرعش، شارك فيه 15 شاعراً سورياً وشاعران عربيان، و5 شعراء أتراك انتظمت قصائدهم لترسّخ الهوية والانتماء، بمبادرات فردية خاصة.
وفي كلمتها الافتتاحية للفعالية، قالت مديرة الملتقى الشعري ريما حمود: "نحن هنا اليوم لنثبت أننا شعب ينضح بالمثقفين والأدباء والشعراء والعلماء. وأننا وإن سلبت منا الأرض وأريق منا الدم وضاقت علينا الأرض بما رحبت؛ تبقى قلوبنا نابضة بالأمل، وحروفنا مشتعلة بالرجاء والأدب وأرواحنا تهفو للشعر والجمال برغم كل ما حولنا من سواد".
وما هي إلا أيام قليلة حتى انعقد "مهرجان الشعر العربي" في إسطنبول بدورته الرابعة على مسرح كلية الإلهيات في جامعة "مرمرة"، وبمشاركة أكثر من سبعين شاعراً.
ويقول الشاعر السوري "أنس الدغيم" مدير المهرجان الشعري في إسطنبول في تقديمه للفعالية: "من أجل هذا كنا هنا من أجل عروس مهرها كثير، ورسالة قدرها كبير، من أجل كلمة نريد لها أن تخضر في أرض الحقيقة وأن تنطلق أغصانها وفروعها، وأن تأتي أُكلها كل قصيدة... كيف نصبح نحن ضيوفكم وأنتم من جاء إلينا من بعيد...".
وبذلك حظينا، وخلال شهر واحد فقط، بفعاليتين شعريتين على الأرض ذاتها. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن سبب قيام تلك الفعاليات في دول الاغتراب وبمبادرات فردية من دون وجود مؤسسات رسمية راعية لها. لماذا لا تقام مهرجانات الشعر العربي في بلدان عربيّة؟ وإلى أين وصلت حال الشعر السوري في الشتات؟ وهل هي في حال أفضل منه في بلدان العالم العربي؟
"لسان العرب" في جامعة مرمرة و"ترانيم وطن" في مرعش
لعلّ إقامة هاتين الفعاليتين في شهر واحد تثبت بأن السوريين هم الأكثر نشاطاً وحيوية مقارنة بمعظم المجتمعات العربية، فلو أتيحت لهم منابر لصاغوا تاريخاً ثقافياً جديداً.
لماذا لا يُقام مهرجان للشعر السوري في المدن الحاضنة للشعر العربيّ على اتساعها وانشغالاتها؟ هل ضاقت تلك المدن عن احتواء الصوت السوري الجريح؟
وبالرغم من شح الموارد والإمكانات الضعيفة والعراقيل الدائمة والمتمثّلة في جوانب عديدة تأتي في مقدّمتها القيود المفروضة على سفر السوريين والتي تحدّ من حرية تنقلهم وتجوالهم في البلد نفسه تركيا، نجدهم مصرّين في بلدان الاغتراب واللجوء على تنظيم فعاليّات تتيح لهم اللقاء ببعضهم وبالآخرين من مختلف الثقافات والجنسيّات. يتفاعلون مع عناصر بسيطة لتحريك المياه الراكدة في الأوساط الثقافية العربية، ويُنشئون منارة رغم كل ما يحيط بهم من ظروف قاهرة. ينتصرون للكلمة، وكأن العراقيل والعقبات والضغوط التي تواجههم دليلٌ على الحرية وليس العكس.
وكأنما الحرية لا تعبّر عن نفسها إلا من خلال تجاوزها للعقبات التي تعترض مسارها، فهي تكشف عن نفسها من خلال الظرف ومقاومة الظرف.
شعراء الشتات السوري
لماذا لا يُقام مهرجان للشعر السوري في المدن الحاضنة للشعر العربيّ على اتساعها وانشغالاتها؟ هل ضاقت تلك المدن عن احتواء الصوت السوري الجريح؟ ولماذا لا يكون هناك منبر في كل عام على الأقل لأولئك الذين هُجّروا قسراً من مدنهم؟ أين مدن المغرب العربي ومدن الخليج العربي ومدن الشام ـ غير المنكوبة، بل أين بلد "المليون شاعر"؟ وأين "قاهرة المعز"؟ أين "مدينة الشعراء" و"عاصمة الشعر" و"سوق الشعر" وعاصمة الثقافة العربية...؟
هل باتت هذه المدن كلّها عاجزة عن إيجاد فضاء وحيّز على أرضها للصوت السوريّ الذي ينتمي وإيّاها إلى الأبجديّة ذاتها لتحتضنه أرض قوم يتكلّمون أبجديّة أخرى مختلفة وترحّب به؟
كان الأحرى والأجدى أن يحدث العكس؛ أن يدعو الشعراء العرب إخوتهم السوريين في الشتات، وأن تقدّم المؤسسات المعنية التسهيلات اللازمة للشعراء والمثقّفين السوريين، من خلال مبادرات عربيّة، تحتفل بالشعراء الذين فقدوا أوطانهم.
لم يقم حتى الآن مهرجان للشعراء المغتربين السوريين تحديداً، ونحن نتوقّع سلفاً حجم المشاركة السورية للذين ليس لديهم حقّ الإقامة الدائمة لدى بعض الدول العربية والذين يُعاملون فيها كالأجانب، ليلجأ الشعراء السوريون إلى منصّات ثقافية افتراضية وواقعية تستند إلى جهود فردية كبدائل عن المؤسسات الثقافية، وليلقي الشاعر السوريّ أحمال قصيدته على أرض لا تتحدث لغته. فهل تعاتب العربية نفسها تصحيفاً لمطلع قصيدة "العربية تعاتب أبناءها" للشاعر حافظ إبراهيم
"أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ فَهَل سَأَلوا (الترك) عَن صَدَفاتي"؟
شعراء مغتربون يتعرضون لشتّى صنوف التضييق والقهر من ويلات إخراج أذون السفر، والقرارات المستجدة للإقامات وتحديث البيانات، وصولاً إلى الوضع المعيشي الذي بات همّاً يؤرّق السوريين من غلاء معيشة وأجور السكن وتضييق سبل العيش، وليس أخيراً خطاب الكراهية والتحريض ضدّهم، والذي راح يتفشى في الآونة الأخيرة. وعلى قدراتهم البسيطة وأوضاعهم المزرية يرفع أولئك الشعراء خيمة للشعر العربيّ في إسطنبول وفي ولاية كهرمان مرعش، ويدعون إخوتهم العرب إليها.
قصائد المنفى السورية
حملت قصائد الشعراء السوريين في المنفى هموم الوطن والحرب والحرية، وما يجمعها بقصائد الشعراء العرب الضيوف؛ أنّها تقترب من الهمّ الوطني الكبير، ليلتقي الاغتراب النفسي مع الاغتراب المكاني، وكأنه جمع لشتات الذات العربية المتشظّية التي كان يحكمها طريقٌ إجباري واحد، يتمثل في نهج عام قائم على القهرية والفرض والهيمنة من قبل الفئات السائدة المتحكّمة بمراكز صناعة الثقافة العربية.
وإذا كنا ننشد مشروعاً ثقافياً موحداً وحسب؛ فإن الوحدة قائمة ولا تزال في إيقاع الثقافة العربية، لهذا تكون مخرجات الفعاليات التي تنظمها مؤسسات الدولة باهتة ونمطية، وتوازي العمل السياسي للدولة، بل تكون ظلها الباهت على الأرض، لهذا تلتئم الفروع في بلاد أجنبية، لربما سبق السوريون إخوانهم في القبض على جمرة الحرية المتقدة، ليحملوا مشعل الشعر العربي في بلدان المغترب، ولربما تتوحّد تلك الفروع وتلتئم في أصل واحد يمكّننا من الحديث عن تيار شعري قادم من الشتات؛ يعكس حالة الاغتراب السوري بوصفها جزءاً من حالة اغتراب الشعر العربي التي يصدق فيها قول الشاعر امرئ القيس:
"أجارتنا إنّا غريبانِ ها هنا وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ"
إنّ ما يدعونا للتفاؤل بفعاليّاتٍ كهذه تقام في بلاد المهجر؛ أنها ستؤتي ثمارها على المدى القريب، خصوصاً في بلد يعاني فيه السوريون ما أسلفناه، بالإضافة إلى تهميش أصواتهم، واتهامات تُوجّه أحياناً لثقافتهم وهويتهم الحضارية من قبل بعض العنصريين الذين يمتهنون خطاب الكراهية. وقد أطلق أحد المحاضرين المشاركين في مهرجان إسطنبول بعض التساؤلات المشروعة، والتي تدور في خلد كثيرٍ منّا: "ما الجدوى من إقامة هذه الفعاليات في الشتات ونحن مهجّرون؟ ما قيمة هذا الشعر في زمن ضاعت فيه الأوطان والحقوق؟ أليس الحديث عن الشعر ضرباً من الترف؟"، واستشهد بقول الشاعر محمد مهدي الجواهري:
"أكلما عصفت بالشعب عاصفة هوجاء نستصرخ القرطاس والقلما
هل أنقذ الشام كتاب بما كتبوا أو شاعر صان بغداد بما نظما"
ليأتي الرد في الأمسية ذاتها على لسان إحدى المشاركات الضيوف "سليمة رميسة آججك"، وهي طالبة وشاعرة تركية معجبة بالثقافة العربية والشعر العربي، إذ قدمت قصيدة للترحيب بالضيوف وتشيد فيها بالعلاقات القائمة على الأخوّة والمحبة التي تجمع بين العرب والأتراك:
"أنا تركيةٌ والعرْب آلِي ولولا الصّيد ما صدنا اللآلي
أنا تركيةٌ من آل طيبٍ جدودي سطّروا سِفر المعالي
وطير العزِّ لا يسمو سماءً بلا جنحين من طيب الخصال
لنا في تربنا تبرٌ عتيقٌ تضمّخ من دما عربٍ رجال
إذا رمنا شروق المجد فينا بقوس العرب نرمي لا نبالي
هم الأهل الكرام ونحن منهم كروح البدر في قلب الليالي
قِرانا يا ضيوف القلب حبٌّ لكم في دوحه واف الظلال"
إنّها حناجر السوريين في المنفى التي تصدح في بلاد الشتات رغم القهر والحزن والأسى. ورغم الفاجعة الكبرى التي حلّت بهم، ورغم كل المآسي، ما يزالون أبناء الثورة الفتية، وحاملي رسالتها الحضارية المؤثرة والفاعلة في العالم.
وتلك القصائد والأشعار التي صدحوا بها، ما هي إلا صيحة تحاول جمع شمل المعنيين في الأدب والثقافة العربية، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من هويتها ووجودها.