منذ أوائل القرن العشرين كان تعلم الموسيقا عند السوريين هاجسا تارة وحلما تارة أخرى، فالمنتديات والمعاهد الموسيقية التي كانت قد فتحت أبوابها رغم قلتها في عشرينيات القرن الماضي خضعت للتجاذبات السياسية، وبناء على ذلك كانت تغلق من قبل سلطات الانتداب الفرنسي بحجج الحض على سياسة معادية له، ليعاد فتحها حين يعود الهدوء إلى الأجواء.
وفي مرحلة ما بعد الانتداب كانت المعاهد تفتح أبوابها بعد صراعات مريرة في البرلمان ثم يأتي الانقلاب التالي فيعيد إغلاق ما افتتح، ويعود من كان يطالب بالمعاهد الموسيقية إلى نقطة الصفر في استصدار القرارات من جديد وهكذا دواليك.
فخري البارودي.. الموسيقا للنضال
استفاد فخري البارودي من موقعه كمناضل وطني ونائب يمثل البرجوازية الوطنية الدمشقية في البرلمانات السورية المتعاقبة، بتطوير الفنون والآداب لاعتقاده أنها وسيلة مهمة للنضال الوطني ومقاومة الاستعمار والاستبداد بكل أشكاله خارجيا وداخليا. فكان من أهم المشجعين للمواهب الفنية على اختلافها بشكل عام والموسيقية بشكل خاص ويحسب للراحل البارودي أنه أسس بعد عدة تجارب في مجال المنتديات الفنية أول معهد موسيقي أكاديمي يتبع لوزارة المعارف في عام 1947 في مدينة دمشق، وقد كان هذا المعهد خاضعا لنظام تعليمي من أربع سنوات.
انصب الاهتمام في هذا المعهد على تعليم أصول الموسيقا العربية بالشكل الصحيح وقد ضم نخبة من خيرة الأساتذة المختصين من سوريا وفلسطين ولبنان ومصر وتركيا مثل يحيى السعودي مدرس آلة العود من فلسطين ومحمد العقاد مدرس آلة القانون من مصر يساعده عبد الغني شعبان من لبنان وسعيد فرحات مدرس قواعد ونظريات الموسيقا العربية وفايز الأسطواني مدرس الكمان الشرقي من سوريا وشوقي أفزة مدرس لآلة الناي من تركيا، كما أنه أتى بالشيخ عمر البطش من حلب لتعليم فن الموشح، واللافت هنا أيضا إدخال فن "رقص السماح" كمادة إجبارية لطلاب الموسيقا العربية في الوقت الذي بدأ فيه هذا الفن بالانحسار، ودرّس هذه المادة الأستاذ عبد سيقي.
لم يقتصر الموضوع هنا على تعليم الموسيقا العربية بالشكل الأكاديمي بل استقدم للمعهد أساتذة من حملة الشهادات العليا من النمسا، وعملوا على إنشاء قسم للموسيقا الغربية الكلاسيكية بمختلف الآلات الغربية والمواد النظرية والتاريخ.
البارودي وصباح فخري
كان اللافت في النظام التعليمي وقتها إجبار جميع الطلاب بمادة نظريات وقواعد الموسيقا العربية وهنا تكمن الفكرة المهمة، فعندما نريد إنشاء نظام تعليم موسيقي في أي دولة يجب علينا التفكير بشكل جدي في تعريف الطلاب بالمواد الخاصة بحضارتهم بالشكل الصحيح، وقد خرّج المعهد نخبة من أهم الموسيقيين السوريين الذين أرسوا دعائم مهمة في موسيقا القرن العشرين في سوريا، أمثال الراحلين عدنان أبو الشامات وإبراهيم جودت، وعازف القانون أمين خياط وسليم سروة والمغني صباح أبو قوس الذي أتى من حلب إلى دمشق، وعندما سمعه فخري البارودي يغني ساعده ليدرس على نفقته الخاصة، وعندما تخرج في المعهد وبرع في الغناء كناه فخري البارودي باسمه وعرف من تلك الأيام باسم صباح فخري، والذي وافته المنية منذ يومين.
للأسف لم يستمر هذا المعهد في تلك الفترة بسبب التجاذبات والوضع السياسي غير المستقر في سوريا وقتها فأغلق المعهد في عام 1959 ، وحتى ستينات القرن الماضي، ثم أعيد افتتاحه وسمي بالمعهد العربي للموسيقا كان مديره وقتها الموسيقي العراقي الأصل الراحل صلحي الوادي.
تدريس الموسيقا العربية يتراجع
وعلى الرغم من أن صلحي الوادي عمل على افتتاح المعهد العالي للموسيقى في تسعينيات القرن الماضي وأسس الفرقة السيمفونية الوطنية التي كانت على مستوى جيد في الموسيقا الغربية وقامت بالعديد من الحفلات داخل سوريا وبعدة جولات في مختلف دول العالم، إلا أن وضع تدريس الموسيقا العربية لم يكن بالشكل المرجو، فقد كان التركيز قائما على الاهتمام بالموسيقا الكلاسيكية الغربية من ناحية تدريس المواد النظرية والعملية، بينما اقتصر تدريس الموسيقا العربية على العموميات ولم تراعَ خصوصية الموسيقا الأم ولم تتم الاستعانة بالأساتذة المختصين في هذا المجال بحجة عدم حملهم للشهادات العليا، بينما كان الدعم منصبّاً للخبراء الأجانب الذين كانوا يدرسون المواد الغربية.
لكن رغم ذلك تخرج من المعهد مجموعة من ذوي الاختصاصات الشرقية ونجحوا في عملهم، إلا أن هذا كان عبارة عن مجهود شخصي، وللأسف فقد سلكت المعاهد الخاصة السلوك نفسه الذي كان سائدا في المعهد العالي للموسيقا من باب التركيز على تعليم الآلات الغربية وأصبحت نسبة الأماكن التي تدرس الموسيقا العربية أقل بكثير ليعود تعلم الموسيقا العربية بالشكل الصحيح حلما للمهتمين وشبحا للمهووسين بها.