تبدع الشعوب دائماً أساليب غنائها لتعبر عن ثقافتها وما تحلم به، أو تودع في غنائها حكاياتها. وغالباً ما يشكل الغناء مصدراً من مصادر البحوث الأنثربولوجية والاجتماعية. وقد تختفي، مع تقلبات الزمن، أشكالٌ غنائية تبعاً للظروف الاجتماعية والسياسية، ويحكم ذلك شرطُ التطورات الفنية واختلافُ الذوق الفني بما يعني ذلك من تغير في طبيعة الصوت الغنائي ومن يقوم بالغناء.
ومن هذه الألوان الغنائية (الموّال البغداديّ) أو (السَّبعاويّ) في سوريا وهو موّال له جذور في (العراق) حيث يعرف في بغداد باسم (الزّهَيْري). وحفاظاً على نسبه فقد أطلق عليه في سوريا (الموال البغدادي).
سمي (السبعاوي) وهي تسمية مشتقّة من شكل الموّال المكوّن من (7) أجزاء (أشطر) أي على الشكل الآتي:
أ |
أ |
أ |
ب |
ب |
ب |
أ |
حيث تشترك القوافي (أ) مع بعضها كما تشترك القوافي (ب) في مجموعة ثانية مع بعضها. وكما سنرى فإن أشهر ما يميز الموال البغدادي (وسنعتمد هذه التسمية) هو أن مجموعة القوافي (أ) يجب أن تحقق الجناس التام (الجناس اشتراكُ لفظين في حروفهما جميعها مع اختلاف المعنى). بينما تحقق المجموعة (ب) جناساً آخر تاماً كذلك. ولنقرأ هذا المثال:
مغرَمْ جمالك بأيّام الصّبا عنّا |
|
يبكي ألمْ شخصَكْ لهُ عنّا |
يا حاكماً بالحسن لأْهلِ الهوى عنّا |
|
وافي لَمنْ دوم يتلي لَكْ حديثْ وصُوَرْ |
اعرضْ وقلّي كفى فكرَكْ يصوّر صوَرْ |
|
حنّا المحابيب وخلقنا بأجمَلْ صُوَرْ |
والبشتكي من هوانا يقتِصِرْ عنَّا |
(يتلي لك: يتلو لك – حنا الحبايب: والبشتكي: الذي يشتكي) .
ولكن الجناس في الموال البغدادي يتبع البنية اللغوية المحكية للموال، وليس البنية الفصيحة. فلهذا ليس من القاعدة أن تشترك الألفاظ في الحروف لأن رسمها نحوياً هو على الشكل الذي اتفقت فيه في الموال. لهذا يتبع مؤلف الموال عدداً مما يمكن أن نسميها (خروقات) لابد منها لقاعدة الجناس الفصيحة، ليؤدي الجناس التام في الموال، ومن هذه الخطوات المتبعة كما استطعنا رصدها في عدد كبير من المواويل..
تقنيات الجناس التام في الموال البغدادي
1- يتم اختصار كلمتين في كلمة واحدة ونطقها برشاقة لكي تتناسب مع مثيلاتها من القوافي، وهذه حالة تتكرر كثيراً بشكل لافت للنظر.
قلبي صروف الدّهر أعوام دابلْها |
|
والرّوح مدحِ النّبي قد صار دابلها |
مطعونْ يا ذا ان كنت بستان دابلها |
|
إلْجيَ حمى سيّد الكونين وأجمَلْ بَشَرْ |
عنّك يزول العنا لو سيف عضْمَكْ بشر |
|
هذا شفيع الخلق عنّه المهيمْن بشر |
يمناه تنعشْ وروداً آب دابلها |
فكلمة (دابلها) الثانية هي اختصار (دأباً لها) كثفها المؤلف لتناسب (دابلها) الأولى والثالثة والرابعة.
2- قد يتم حذف أل التعريف من الاسم ليصبح متناسباً مع مثيلاته من القوافي كذلك.
من نور طه وجوه النّيرات اتمورْ |
|
وعلى سَجَنْجَلْ جبينهُ المحصَنَات اتْمور |
ترياق ثغرهُ رُطَبْ فاق الشَّهد وتمورْ |
|
. . . . . .. . . . . . . . الخ |
(وتمور) الثالثة أصلها والتّمور معطوفة على الشّهد ، حذفت (الـ ) منها لتناسب الفعلين (اتمور).
هذا وإن الجناس التام (الكامل) في القاعدة، تكون كلماته سليمة الحروف غير منتقلة من كلمة إلى كلمة ثانية، أي أن الحروف هي التي تؤسس الكلمة بشكل صحيح أما في الموال البغدادي فالجناس حاصل من إخضاع الكلمات لعمليات تحويل كما رأينا.
حتَّى تولد كلمات جديدة تتجانس في الصورة الجديدة المتولدة، ولا يحصل الجناس من أصول الكلمات. نقرأ:
أهل السّمع من حديثكْ يا بني مملوكْ |
|
لَنَّكْ جليل القَدرْ ما هي الوزرْ مملوك |
يا بحر طامي علم أهل الذّكا مملوك |
|
. . . . . . . . . . . الخ . |
فـ (مملوك) الأولى فيها نفي للملل (ما ملوك) والثالثة (ما ملأوك).
من أساليب مؤلف الموال البغدادي في صناعة موّاله
قد يضطر هذا المؤلف إلى الاعتماد على ذائقته الفطرية في اشتقاق مصادر ليس لها قانون في النحو والصرف العربيين لكنها لا تبدو نشازاً وهذا من أجل أن تناسب الأشطر الأخرى:
غيد الفواتن بقُرب الدّار وجْفانا |
|
ومْنِ المْهَا سارقات ألحاظْ وجْفانا |
مدّيت ليهم بساط العزّ وجْفانا |
|
. . . . . . . . . . . الخ . |
(وجفانا الأولى من وجف يجف فهو واجف وهي واجفة وهن واجفات، من الاضطراب وليس في مصادر وجف كلمة وجفانا) وجفانا الثالثة من جفنة بكسر الجيم وهي القصعة. الجمع جفان. والجفان الكريم المضياف. والقصعة والمضياف معنيان يصبان أدبياً في الدلالة نفسها لأنهما يدلان على تقديم الضيافة للضيق. وجفّن له قدم له الطعام بالجفنة).
ومن أساليب الموال، أنه قد يضطر مؤلفه إلى المزج بين اللغة الفصحى والمحكية فتختلط اللغتان معاً، وهذا شائع جداً في الموال، ونظراً لقربه بالأساس من الفصحى، إضافة إلى أن من يتصدى لصناعة الموال عليه أن يكون مطلعاً على اللغة ومترادفاتها.
كما يضطر مؤلف الموال إلى إضافة حرف جر (اللام) في غير موقعه وذلك لأجل استقامة الوزن:
يا من غرامَك طَحَنْ منّي العضم ودْرَا |
|
ارحَمْ لِمَنْ صان حبك بالقَلب ودْرا |
لَخلاف قولَكْ لا أصغي السَّمع ودرا |
|
. . . . . . . . . . الخ |
نرى هنا دخول اللام (حرف الجر) على الاسم الموصول (من) وهذا في اللغة لا يجوز في هذا السياق، فالاسم الموصول هنا في محل نصب مفعول به، ولا يدخل عليه حرف جر. كما دخل حرف الجر اللام على خلاف والمفروض هنا أن يكون على (خلاف قولك)، ولكن الوزن تحكم بالمؤلف فاضطر إلى الترخيص في اللغة.
أما عن وزن الموال البغدادي، فتشير جميع المواويل المدونة والشفاهية والمغناة أنّ وزنه هو البحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) في كل شطر. ونلاحظ أنه يجب أن يلتزم المؤلف بتكرار التفعيلة الأخيرة مثلما وردت في آخر الشطر الأول من الموال، فإذا كانت (فعْلن) التزمها في المجموعة (أ). وقد يغير في المجموعة (ب) إلى تفعيلة (فاعلن) وعندها يجب أن يلتزمها كذلك في مجموعتها. أما إذا جاءت التفعيلة الأخيرة من الشّطر الأول (فاعلن) فيجب التزامها كذلك في مجموعتها.. وهكذا. ويمكن أن تكون المجموعتان من التفعيلة نفسها. لكن ليس من الضروري المطابقة بين المجموعتين في التفعيلة الأخيرة. وقد لاحظنا فقدان التفعيلة (فعِلن) من المواويل البغدادية. وربما كان هذا راجعاً إلى طبيعة القافية المغناة حيث قد يسهل على المغني أن يغني (فاعلن) بسهولة ورشاقة أكثر من (فعِلنْ). وقد يكون السبب شيئاً آخر.
يذكر الباحث عبد الفتاح قلعة جي عدداً من المغنين الحلبيّين غنوا هذا النوع من الموال مثل: (سعيد الحايك – محمد سعيد ريم – أبو عبيد المشهداني). ونذكر نحن (صباح فخري وحسن الحفّار ومحمد خيري) كما نذكر من حمص (أبو مروان الطّشّ – ياسر المظلوم)..
واستفاد المغنون الحديثون من الموّال كتنويع أو تفريد في سياق غنائهم للأغنية، وقد غنى بعضاً من المواويل ذات اللغة السهلة (فيروز – وديع الصافي – إيلي شويري) وغيرهم.
بقي أن نشير إلى أنه نادراً ما تمّ تدوين المواويل البغدادية ككتابة، ويمكن اعتبار الشاعر نظير بطّيخ واحدًا من أبرز من ألّف ودوّن هذه النمط من الموال، إذ ترك عشرات المواويل مكتوبةً.