هذا هو الجزء الثالث والأخير من مراجعة كتاب تطور المجتمع السوري، لمؤلفه نشوان الأتاسي، وفي الجزء الأول تم الحديث حتى انسحاب الأمير فيصل من سوريا، ودخول قوات الانتداب الفرنسية إلى دمشق، وفي الجزء الثاني تناولنا التاريخ السوري منذ الانتداب حتى مابعد الاستقلال والأحزاب المشكلة.
الانقلابات والوحدة مع مصر
بعد ثلاث سنوات على الاستقلال بدأت الانقلابات السياسية، والتي افتتحها حسني الزعيم المدعوم من الفرنسيين والأميركيين، لم يدم حكمه إلا عدة أشهر، حيث انقلب عليه سامي الحناوي، والذي بدوره انقلب عليه أديب الشيشكلي في ذات السنة ليحكم حتى 1954، حيث عاد الحكم المدني الديمقراطي، الذي استمر حتى بداية عام 1958، حيث تمت الوحدة مع مصر.
كانت الوحدة مع مصر الضربة القاسمة التي تلقتها الديمقراطية الناشئة، ولم تعد سوريا أبداً إلى الديمقراطية إلا فترة بسيطة، بعد الانفصال، وكانت تمهيدية لبدء دكتاتورية العسكر تحت ستار إيديولوجية حزب البعث، الذي مازال قائماً إلى يومنا هذا.
بعد أن استتب الأمر لعبد الناصر قام بتأميم الشركات الخاصة بشكل كامل، كما حل الأحزاب السياسية ونقل كثيرا من الضباط البعثيين إلى مصر، ومنهم أعضاء اللجنة العسكرية الخمسة، محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي وأحمد المير، الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إعادة حزب البعث إلى داخل القوات المسلحة السورية، دون علم قيادة الحزب المدنية.
وكانت هذه اللجنة النواة لما سمي فيما بعد بتنظيم الضباط الأحرار الذي قام بالانقلاب في الثامن من آذار عام 1963.
الفصل الرابع: العصبية، الدعوة، الملك، حزب البعث نموذجاً للدعوة 1963 حتى 2011
يعتبر الأتاسي أنه خلافاً للشائع بأن حزب البعث هو الذي قام بانقلاب آذار، بل قام به ضباط أقاموا حزباً جديداً ألبسوه ذات الاسم، معتمدين على بعض مؤسسيه التاريخيين الذين كانوا جاهزين " للاستعمال" بعد الشلل الذي أصابهم إبان الوحدة مع مصر، " لقد مثلت إعادة التأسيس ضرورة حيوية لهؤلاء الضباط الصغار في اللجنة العسكرية الخماسية. فقد أمن لهم الحزب المعاد التأسيس ما كانوا يفتقدونه من (دعوة) يغلفون بها طموحاتهم إلى السلطة (المُلك) بعد أن تهيأت لهم عبر الولاءات الطائفية والقبلية والعشائرية (العصبية) لتحقيق تلك الطموحات".
حكم أقلوي عبر واجهة
أعضاء اللجنة العسكرية فضلوا البقاء في الظل، مانحين الرتب العسكرية لضباط أقدم من الناصريين والمستقلين، فيما منحوا المناصب المدنية والحزبية للقيادات المؤسسة لحزب البعث، والذين لم يكن لهم دور في الانقلاب، ولا حتى علم به، حسبما يقول الأتاسي، الذي ينقل عن البعثي محمد حيدر في كتابه " البعث والبينونة الكبرى تقسيم مراحل السيطرة للقادة الحقيقين:
مرحلة محمد عمران: من الثامن من آذار 1963 حتى الثالث والعشرين من شباط 1966.
مرحلة صلاح جديد: استمرت حتى 16 من تشرين الثاني 1970.
مرحلة حافظ الأسد: مازالت مستمرة حتى يومنا هذا.
إفشاء سر اللجنة العسكرية
بعد انقلاب آذار تم تسريح نحو 500 ضابط محترف من مختلف الرتب، بحجة أنهم انفصاليون، واستبدلوهم بضباط احتياط من معلمين وموظفين. طبعاً ما إن استتب الأمر للبعثيين حتى بدؤوا بالتآمر على بعضهم، فنشب خلاف بين جديد وعمران، انتهى بالانقلاب على الأخير وطرده، وحينها وقف حافظ الأسد مع جديد الذي رفعه من رتبة مقدم إلى لواء وعينه آمراً لسلاح الجو السوري.
إثر ذلك أفشى عمران خطط اللجنة العسكرية، رغم أنه كان قد أقسم في مصر على إبقاء موضوعها طي الكتمان. وجرى كذلك تصفية وإقالة الضباط الدروز في اللجنة العسكرية.
البعث والقضاء على الطبقة البرجوازية
بدأ حزب البعث بالعمل على الاستيلاء على الأراضي عبر ما بات يعرف بقانون الإصلاح الزراعي، وتأميم المزيد من الشركات الخاصة، كنوع من الانتقام والثأرية، "إن حكم الثامن من آذار بطبيعة تكوينه الطائفي العسكري هو حكم معادٍ للبرجوازية السورية المتمركزة في المدن، والتي شكلت الطبقة الوسطى عمودها الفقري في تراتبية السلم الاجتماعي، وقد كانت هذه الطبقة متفردة باتساعها في سوريا بالنسبة للمجتمعات العربية الأخرى".
الأتاسي أشار إلى أن هذه الطبقة كان لها الدور في النضال ضد الاستعمار، " إن سياسة البعث في تحطيم البرجوازية الوطنية قد سددت طعنة نجلاء للنهضة السورية على مختلف المستويات، وأساءت لاقتصادها بصورة بالغة".
كذلك تم إبعاد الإسماعيليين بعد انتحار عبد الكريم الجندي، خوفاً من الاعتقال والإذلال على يد رفاق الدرب!
أوراق اعتماد
لتبقى الساحة لصلاح جديد وحافظ الأسد، جديد الذي كان قد استقال من الجيش، كي يتفرغ لقيادة الحزب القومية، حيث استطاع حافظ بنقل كل الضباط المؤيدين له، وبالتالي لم يعد له قوة داخل الجيش، وعندما اجتمع في شهر تشرين الأول المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر لحزب البعث، وفيه تم تحميل وزير الدفاع حافظ الأسد ورئيس أركانه مسؤولية سقوط الجولان، انقلب عليهم حافظ وأودعهم السجون. يقول الكاتب إن حافظ الأسد قد قدم أوراق اعتماده للغرب خلال حرب الستة أيام (نكسة حزيران)، وأيضاً عبر المساعدة بإخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن، بعد هزيمتها هناك، موضحاً أن انقلاب حافظ الأسد قد أنهى النظام الموالي للسوفييت، ليتم بعد ذلك إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط على أن تكون لصالح نفوذ الولايات المتحدة، إثر اتفاق أميركي سوفييتي، تم عقب قمة جمعت قيادة القطبين في مدينة غلاسبورو الأميركية.
الانفتاح على ما تبقى من البرجوازية
بعد سيطرة الأسد على مقاليد الحكم قام بإعادة تأسيس حزب البعث الذي كان موالياً لجديد من الصفر، وجرى تدجين الحياة السياسية بمساعدة السوفييت من خلال ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية التي ضمت الأحزاب الشيوعية والقومية.
في هذه المرحلة قام الأسد بالانفتاح على البرجوازية التجارية الدمشقية، انفتاحاً ترتبت عليه صلات اجتماعية، دون أن يكون له أي آثار على صعيد الانفتاح السياسي، وتم تخفيف القيود الاقتصادية التي فرضها صلاح جديد، كما تم الانفتاح على السعودية ودول الخليج العربي، التي لطالما وصفها نظام البعث بالرجعية، " وهكذا تألفت معادلة غير مسبوقة في السياسة العربية، قوامها الجمع بين صداقة موسكو الشيوعية والرياض الإسلامية، في إطار سعي الأسد للإمساك بأكبر قدر ممكن من الأوراق".
بطل التحرير!
الأسد سعى تحويل نفسه لقائد تاريخي عبر الجولان الذي خسره، فتحالف مع السادات في مصر وبالمال السعودي خاض حرباً ضد إسرائيل لم يربحها، ولكنه سمى نفسه في نهايتها بطل التحرير، "وجاءت نتيجتها لصالح إسرائيل التي احتلت مزيداً من الأرض واقتربت أكثر من دمشق، ولكن برعاية وزير الخارجية الأميركي هنري كسنجر أمكن التوصل إلى اتفاق لفصل القوات في الجولان، أعاد إلى سوريا بعضاً من أراضيها المحتلة في القنيطرة".
الدخول إلى لبنان
بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ودخول الجيش السوري لنصرة اليمين المسيحي المؤيد لإسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، والسيطرة على لبنان، تم ابتداع نظام جديد للفساد، حيث يقوم المسؤولون السوريون بمساعدة تجار لبنانيين بشراء البضائع اللازمة لحاجة سوريا، ثم يتم عبر عناصر الجيش السوري تهريبها إلى الداخل السوري، فضلاً عن الفساد الذي سرعان ما انتشر في دولة البعث، وأصبح المال العام متاحاً للسرقة، دون حسيب " وبسبب الفساد المتأصل ظهرت الفوارق الطبقية بأبشع صورها في سوريا، منذ نهاية السبعينيات، بدلاً من محو هذه الفوارق الطبقية، والذي كان أحد أبرز أهداف الانقلابات المتعاقبة!".
مرض حافظ
رفعت الأسد الفاسد لم يكن له فقط تأثيره السيئ على الاقتصاد، بل كذلك على العملية التعليمية، حيث تبوأ منصب رئيس مكتب التعليم العالي في القيادة القطرية لحزب البعث، والتي ألزم الجامعات بمقتضاها بسياسة الاستيعاب التي تعني قبول كل الطلاب البعثيين، دون النظر الى معدلات القبول.
بعد مرض حافظ الأسد عام 1983، ومحاولة أخيه رفعت وراثته، إلا أن الأخ الكبير قد قام بعد المرض، ونفى أخاه رفعت عام 85 بعد أن أعطاه 200 مليون دولار، تم طلبها من ليبيا، حيث كانت خزينة البلد حينها فارغة!
نجاح السياسة الخارجية
وانطلاقاً من ذلك بدأ حافظ الأسد بحصد ثمرة نجاحاته الاستراتيجية خارجياً، عبر تثبيت الوجود السوري في لبنان، وإنهاء المقاومة الفلسطينية المؤيدة لعرفات هناك، وأصبح الغرب يتودد للأسد من أجل إطلاق سراح الرهائن الغربيين في المختطفين في الضاحية الجنوبية لبيروت.
الأزمات الغذائية
وفي عقد الثمانينات انخفضت أسعار النفط فتوقفت المنح والهبات والمساعدات الخليجية لسوريا، فظهرت خواء الاقتصاد السوري، وأنه لم يكن يعتمد على عوامل ذاتية من صناعة وتجارة وزراعة، بعد أن جرى تحطيم أسس تلك العوامل خلال فترة الستينيات، وبدأت سلسلة الأزمات الغذائية ونقص المواد الأساسية يقض مضجع المواطن السوري، إلا أن معظم هذه المواد كان يدخل من لبنان تهريبا!، كما أن المحاباة والمحسوبية والطائفية والعشائرية ومنظومة الفساد والإفساد أدت إلى توظيف أعداد هائلة من أقرباء رجال السلطة وأتباعها في بيروقراطية الدولة، وفي القطاع العام الذي نشأ عن المصادرات والتأميمات، دون أن تكون للموظفين أية خلفية تعليمية أو إدارية.
اغتيال الحريري
بعد موت حافظ وتوريث السلطة لابنه، وعد بشار بالانفتاح السياسي، الذي لم يدم طويلاً وسرعان ما جرى زج المعارضين في السجون، وتم عقب الغزو الأميركي للعراق استيلاد وطنية سورية، قائمة على تخويف السوريين من مصير مشابه للعراق، والتخويف من لبنانيي 14 آذار الذين عملوا على إخراج الجيش السوري من بلدهم، واعتدوا على العمال السوريين في لبنان، وعقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، عانى النظام شبه عزلة دولية وعربية دامت عدة سنوات، إلا أن الانفتاح عليه لم يأتِ إلا من بوابة فرنسا. فيما كان حزب الله يسيطر على لبنان بقوة السلاح بعد ما بات يعرف بأحداث أيار، " بيد أن الانتصارات السورية بقيت خارجية واستمرت تقيم على داخل مفرغ ومجوف".
نظام السوق الاجتماعي
تبنى حزب البعث في مؤتمره العاشر عام 2005 التحول إلى نظام السوق الاجتماعي، فحلت نسبة تضخم عالية مكان الركود الاقتصادي، وأدى هذا التحول إلى اتساع حجم التداخل بين السوق السورية، والأسواق العالمية، ولكن في ظل غياب خطة لتحصين اقتصاد البلاد في مواجهة الآثار الناجمة عن انفتاح غير مدروس، وضع خلّف جيشاً من العاطلين عن العمل وصلت نسبته إلى عشرين بالمئة من الشعب السوري.
وضع اقتصادي وطبي وتعليمي سيئ، يضاف له استبداد سياسي وطائفية، كل هذا تبدو معه الثورة نتيجة طبيعية.