أربعةُ أعوامٍ مضت على سيطرة نظام الأسد على مدينة تدمر بريف حمص، بعد معاركِ كرٍ وفرٍ مع "تنظيم الدولة"، تسبّبت في دمار كثير من الأبنية وتضرّر البنية التحتية، ورغم تعهد النظام بإعادة تأهيل المدينة وتفعيل الخدمات فيها، فإن من عاد ما زال يعيش واقعاً مأساوياً، بينما لم يُسمح لمعظم المدنيين بالرجوع إلى بيوتهم حتى الآن.
سيطر "تنظيم الدولة" على مدينة تدمر لأول مرة في أيار 2015، وبقيت في قبضته قرابة العام، إلى أن استعاد النظام سيطرته على المدينة في آذار 2016، ليستعيد التنظيم المدينة مجدداً في كانون الأول من ذلك العام، إلى أن استطاعت قوات النظام الاستيلاء عليها من جديد بشكلٍ نهائي في الثاني من آذار 2017.
المعارك العنيفة والمتتالية التي شهدتها تدمر، تسبّبت في دمارها وخلوها تماماً من الأهالي، لتستغل ميليشيات النظام ذلك وتقوم بسرقة ممتلكات المدنيين وتستولي على بيوتهم، وبقيت المدينة خاليةً من سكانها لأكثر من عامين، حيث تعمّد الأسد عدم السماح للأهالي بالعودة إلى منازلهم بحجة عمله على إزالة الألغام ورفع الأنقاض وإعادة الخدمات للمدينة.
300 عائلة فقط سُمح لها بالعودة
أعلنت محافظة حمص، التابعة لحكومة النظام، السماح لأول دفعة من أهالي تدمر بالعودة إلى بيوتهم في الثامن من حزيران 2019، على أن يبدأ باقي السكان بالعودة لمدينتهم على دفعات، مدّعيةً أن جميع الخدمات الأساسية متوفرة، ويمكن أن تتحسّن أكثر مع عودة الأهالي إلى تدمر.
إلا أن محمد حسن العايد، مدير "شبكة تدمر الإخبارية" وأحد نازحي تدمر، أكد أن الصور والفيديوهات التي نشرها النظام في حزيران 2019 للتأكيد على عودة المدنيين الى بيوتهم، هي مجرد أكاذيب وترويج إعلامي فقط، حيث قام الأسد حينذاك بموافقة روسية، بالسماح لبعض السكان من الموظفين أو العاملين في "حزب البعث" بالدخول إلى تدمر، للمشاركة في الاحتفال بذكرى انتصار الاتحاد السوفييتي على القوات النازية في الحرب العالمية الثانية، وليس من أجل عودة الأهالي الى بيوتهم كما ادّعى إعلام النظام.
وقُدّر عدد سكان تدمر في العام 2011 بنحو 110 آلاف نسمة، لكن بسبب المعارك والقصف وسوء الوضع الأمني على مدار سنوات الثورة، نزح سكانها تدريجياً إلى أن أصبحت المدينة خالية من السكان.
وأوضح العايد لموقع "تلفزيون سوريا"، "رغم سيطرة الأسد على المدينة في آذار 2017 لم يسمح لأحدٍ بالعودة، وحتى حديث مسؤولي النظام عن عودة الأهالي إلى تدمر في 2019 كان مجرد ترويج إعلامي، حيث سُمح للأهالي بالعودة فعلياً في 2020 وبأعدادٍ قليلة جداً، حيث يوجد حالياً في تدمر 300 عائلة فقط، بحسب ما تم رصده عبر التنسيق مع بعض المتعاونين داخل المدينة".
اقرأ أيضاً: تدمر.. الميليشيات الإيرانية تبدأ مجدداً بأعمال التنقيب عن الآثار
وأفادت بعض التسريبات والمواقع الإعلامية في تشرين الثاني 2019، بأن "محافظ حمص طلال البرازي" وبأوامرٍ من النظام وروسيا، اشترط على أهالي مدينة تدمر النازحين، أن لا عودة إلى بيوتهم ما لم ينخرط أبناؤهم في صفوف قوات النظام أو الميليشيات الحليفة، وتأكدت تلك التسريبات لاحقاً، بعد أن تبيّن أن معظم العائلات التي عادت إلى تدمر، لديها أبناء متطوعون في ميليشيات "الدفاع الوطني" والميليشيات الإيرانية، بينما باقي السكان محرومون من العودة، وفق ما ذكر مدير "شبكة تدمر الإخبارية".
صراع روسي إيراني على تدمر
وتشهد مدينة تدمر صراعاً قوياً بين روسيا وإيران لبسط نفوذهما عليها، كونها تتمتع بموقعٍ استراتيجي مهم، فهي تقع وسط سوريا وتربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، إضافةً إلى غناها بالثروات النفطية والمعدنية والغاز والفوسفات.
وقال مصدر من داخل تدمر، فضّل عدم ذكر اسمه لأسبابٍ أمنية، إن "روسيا هي صاحبة النفوذ الأقوى في تدمر، وتسعى لتثبيت نفوذها هناك طعماً بالثروات النفطية والفوسفات، لكنها تشهد منافسةً قويةً من إيران التي تحاول زيادة سطوتها من خلال تعزيز الميليشيات والمقار الأمنية، وجلب عوائل المقاتلين ونشر الحُسينيات، بينما يعد وجود النظام في المدينة شكلياً".
وتعتمد موسكو لبسط هيمنتها في تدمر، على عددٍ من الجنرالات والجنود (قرابة 300 عنصر)، من ضمنهم مرتزقة يعملون لصالح شركة "فاغنر" الأمنية، بغية القيام بمراقبة أنشطة النظام والإيرانيين هناك، وحراسة منشآت الموارد الطبيعية القريبة من تدمر، بينما تعتمد إيران على ميليشيات "أبو الفضل العباس"، و"حزب الله"، و"لواء زينبيون"، و"فاطميون"، و"عصائب أهل الحق"، وميليشيات أخرى صغيرة.
وأضاف المصدر لموقع "تلفزيون سوريا"، أنه "بات هناك ظهور علني للإيرانيين والأفغانيين في تدمر، ويعملون على نشر التشيّع في المدينة، التي يعتبر سكانها من الطائفة السنية بالكامل، حيث قامت طهران بإعادة ترميم مقام "بهاء الدين الصوفي"، الموجود في بساتين تدمر وتحويله إلى حُسينية، ونفس الأمر فعلته مع مقام "محمد بن علي الحنفية"، الموجود في منطقة جبلية على طريق تدمر- آراك".
اقرأ أيضاً: تدمر.. منازل للبيع بأرخص الأسعار هرباً من الميليشيات الإيرانية
وأوضح المصدر "قامت إيران قبل أيام بطرد 20 عائلة موجودة في حي الجمعية الغربية، حيث تسعى طهران إلى تحويل ذلك الحي لمربعٍ أمني، نظراً لموقعه الاستراتيجي فهو قريب من فرع 221، والمنطقة الأثرية، كما قامت الميليشيات الإيرانية بالاستيلاء على بعض منازل الأهالي في حي الجمعية الشمالية وإعطائها لعوائل المقاتلين".
وشهدت تدمر كذلك اعتقالاتٍ طالت بعض النازحين الذين عادوا للمدينة رغم إبرامهم للتسوية، حيث يتم اعتقال كل من لم ينتسب إلى قوات النظام والميليشيات الرديفة، أو عليه أي شُبهات أمنية.
وتعرضت جميع بيوت تدمر للسرقة والنهب من قبل ميليشيات النظام وإيران، حيث انتشرت كثير من الفيديوهات والصور التي توثق قيامها بعمليات التعفيش، إضافةً إلى إحراق بعض المنازل انتقاماً من الأهالي.
وفي ظل سوء الوضع الأمني، رفض معظم أهالي تدمر، بما فيهم بعض الموالين للنظام، العودة للمدينة، خوفاً من الاعتقال، إضافةً إلى انعدام مقومات الحياة ودمار منازلهم، أو استيلاء الميليشيات عليها.
ويتوزع أغلب نازحي تدمر في شمال غربي سوريا، ولا سيما في مدينة الباب بريف حلب، وبلدتي كلّي وحزانو بريف إدلب، وفي مخيم الركبان الحدودي مع الأردن، بينما توجد عدة عائلات في مناطق سيطرة النظام، وكذلك في تركيا وبعض دول اللجوء.
الخدمات للنظام وحلفائه فقط
أعلن مسؤولو النظام عودة الخدمات إلى المدينة بعد عامين من السيطرة عليها، لكن الواقع بدا مغايراً، فعلى صعيد الكهرباء ذكرت وسائل إعلام النظام حينئذ، أن ورشات الصيانة أعادت تأهيل خط التوتر العالي الممتد من التيفور حتى تدمر بمسافة 72 كيلومتراً، وأعادت الكهرباء إلى المدينة.
لكن أبو حسين من سكان تدمر، أكد أن الكهرباء لم تصل سوى إلى المقار العسكرية والأمنية التي يوجد فيها الروس وميليشيات النظام وإيران ومنازل العوائل المرتبطة بها، ولا سيما حي الجمعية الغربية الذي يعد مركزاً للوجود الإيراني ويقع ضمنه فرع 221، إضافةً إلى الحي الشمالي وحي الساحة العامة، كما أن باقي الخدمات متوفرة في تلك المناطق فقط".
وأضاف أبو حسين في حديثه لموقع "تلفزيون سوريا"، أن الأهالي "يقومون بتوفير الكهرباء عبر المولدات، كما أن المياه غير متوفرة، ويقومون بشرائها من الصهاريج، ولا يوجد في المدينة سوى فرن آلي فقط ويتعرّض للأعطال بشكلٍ متكرر، ولا يسد حاجة السكان، كما أن بعض عناصر الميليشيات يقومون بتجارة الخبز وبيعه للبدو، حيث تُباع الربطة بـ 500 -1000 ليرة سورية، وهو ما يؤدي إلى انخفاض الكميات وحدوث ازدحام على الفرن".
اقرأ أيضاً: ميليشيا فاطميون تشن حملة دهم واعتقالات في تدمر
وفي تدمر 12 مدرسة مدمرة، ومدرستان فقط قيد الخدمة، (أذينة، وهدى شعراوي) إحداها ابتدائية والأخرى إعدادية، بينما لا توجد مدرسة ثانوية، ويعد مستوى الكادر التدريسي منخفضاً للغاية، لدرجة أنه لم ينجح أي طالب من دفعة التعليم الأساسي (التاسع) في العام الماضي.
ويوجد في تدمر مشفى وحيد، يقتصر على تقديم بعض الإسعافات الأولية، بينما لا يمكن إجراء العمليات الجراحية والتحاليل المخبرية، بسبب نقص الأطباء والتجهيزات الطبية، وبالتالي يضطر الأهالي للتوجه إلى مدينة حمص لتلقي العلاج.
وأدى القصف العنيف الذي طال تدمر إلى دمارها بنسبة 75 %، وأعلن النظام عن مشروع ترميم لبعض البيوت والأحياء في المدينة، إضافةً إلى صيانة شبكات الهاتف والصرف الصحي، لكن أبو حسين أكد أن عمليات الترميم طالت المقار الأمنية وبعض المؤسسات الحكومية فقط، بينما كان ترميم المنازل على نفقة أصحابها حصراً.
الآثار بقبضة الإيرانيين
تعد مدينة تدمر من أهم المدن الأثرية في سوريا، ومدرجة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، إلا أن تلك الآثار العريقة تعرّضت للتدمير الكلي أو الجزئي بسبب القصف والمعارك، إضافةً إلى سرقة بعضها من قبل ميليشيات النظام وإيران و"تنظيم الدولة".
اقرأ أيضاً.. روسيا تنقّب وتنقل آثاراً من مواقع أثرية في تدمر
وقال مدير "شبكة تدمر الإخبارية" محمد حسن العايد، لموقع "تلفزيون سوريا"، إن "قوات النظام هي أول من قصف المنطقة الأثرية في تدمر ولاسيما معبد بل، إضافةً إلى تعرضها للقصف لاحقاً من قبل تنظيم الدولة، وبعد السيطرة الأخيرة للأسد على تدمر، بدأت ميليشيات إيران بالحفريات للتنقيب عن الآثار لسرقتها وبيعها، عبر الاعتماد على مجموعة من الخبراء الذين يعملون لصالحها، على مرأى من قوات النظام، وبالتالي باتت الآثار تحت قبضة إيران، بينما تنشغل روسيا بالبحث عن الفوسفات".
وتسبّبت أعمال الحفر التي قامت بها الميليشيات الإيرانية، بتخريب العديد من المعالم الأثرية، وخلال فترة سيطرة "تنظيم الدولة"، أقدم على سحق مومياوات كانت محفوظة داخل آثار المدينة، التي نقل النظام معظمها إلى دمشق، قبل سيطرة التنظيم عليها.
اقرأ أيضاً: عن فيلم "تدمر" لـ لقمان سليم، ونبوءة الحياة والموت