حدّق الثمانيني المحدودب في وجه محدثه بعيني نسر عجوز، ثم قال: نعم إنها الأماكن يا بني، ونحن نكاد نكون من عبدتها؛ إن كنت لا تصدق فانظر إلى هيكلي الخرب، لاحظ تقوس عظامي وشح بصري وتخاذل سمعي. ثمّ بعد لحظة شرود تابع: أنا هنا ظلّ ذلك المكان الذي عشت فيه مرغما، وهزّ رأسه بأسى: هه هه عشت فيه؟ هذه سخرية، أنا لم أعش فيه، بل هو الذي عاش فيّ أبدا، لقد متُّ فيه كل يوم عشرات المرات، خرجت روحي مع روح كل سجين مات على ساعدي، بعد إعادته من حفلة تعذيب جثة مغمسة بدمائها، وقد خلتْ كتلته البشرية المنطوية على ذاتها من أي مظهر من مظاهر الإحساس بزمنها أو بمن حولها، فهي ترمى عادة في زحام غرفة، تعشقت قذارتها وروائحها وصارت إزاحة أي من مرمياتها ونفاياتها، بمن فيهم من دخلوها بشراً وغدوا قطعاً لحمية متفسخة، وقد غدا وجودها ضرورياً، لاستكمال ديكور المكان، بما يتناسب والتعبير عن سلطة الرئيس المتألّه المأزوم، وهو يفرد ساقيه بارتياح، حول عرش انبهاره بالسيادة، وقد أخضعت إليه الآرائك وريش النعام والخدم والحشم وحتى صفير الهواء المتردد في غرف قصره وبهوه السابح بالأنوار والأبهة السلطانية الباذخة.
نظرت إلى محدثي ملاحقا بقية ضوء هارب من كوة عينيه المفتوحتين على الرعب والدهشة والسؤال الوجودي الملح الذي راح يكرره: هل تعتقد أنني أصدق حقيقة وجودي معك في هذه اللحظة الزمنية الزائلة؟ لا أنا مجرد شردة خيال خارج حدود الزمن، زمني الفارغ بلا ماض له ولا حاضر ولا مستقبل، إنه زمن معجون بدم ودخان ورمل وغبار. نفخ محدثي بضجيج عكّر الهدوء، وركل بعصبية بادية علبة تنك فارغة بعيدأً، وبينما راحت عيناه القلقتان، تلاحقان انتماء هاربا من الزمن، من كل زمن، أحسست أنه يقبض بكلتا يديه على الأمكنة بقوة مضاعفة، وكأنه يحاول عبر موقعه ومن خلال الأشياء التافهة المتعلقة بالحياة والكون والطبيعة من حوله، تثبيت وجوده المهتز، من خلال مهملاتها ونفاياتها في فسحته الترابية الفارغة إلا من صخرة منفردة، يتخذها مقعدا لوحدته وسرحاته، كلما أحسّ بحاجته لأن يفرغ سحابة دخان، تنبعث من عراك نفسي داخلي، يخرجه عن طوره، فيؤشر بيديه يمينا وشمالا وفي كل اتجاه، وحين استوضحته ، قال كمن تنبه إلى شروده؛ كان العدو خلف ظهورنا، حين اتجهوا بنا شرقا، قلت يا سيدي إلى أين؟ (العدو خلفنا!). ومنذ ذلك السؤال لم يعد النقيب بيان يتعرّف إلى وجوده البشري؛ بعد أن ألغته سنوات سجنه الطويل قبل نصف قرن.
كان كمن تنبه من خيبة على حقيقة صادمة. وبقدرة روح، تستضيء بما خمد من شعلتها المتلاشية، عاد يلازمه منولوج عميق، تُستحضر فيه الأحداث بفوضى عجيبة وبلا أي ترتيب قريبها وبعيدها، وتتزاحم الأمكنة في خطرات فكره المتفلت من كل قيد: هذه هي دار أمك بعد سبعة عشر عاما من الغياب!. أمه الشبح المتلاشي في شعلة ضوء السراج الذي داومت على إيقاده ليلا، كي يهتدي الغائب بضوئه إلى حيث، ظلت تتردد من خلاله ضحكات طفولته وظلال تحركاته متلازمة مع نشيج صامت وشهقات فراق.. إنها دار أمك.. أبوك تركها وغادر قبل غيابك.. بينما ظلت أمك روحاً تتلبس الفراغ والأخيلة.. إنها هنا لم تزل تلمّع صورك وتزيل ما علاها من براز الذباب وفي داخلها يقين لا يقاوم، أنك أنت الوحيد في الزحام، الذي يصغي لنجواها بانتباه، حين يسرقها الحديث وهي تعيد ترتيب الصور متدرجة، مبتدئة ببيان الطفل ثم الفتى ثم الشاب الذي اختطف يعيدا، قبل أن تعيد تعليقها إلى حائط مدروز بالذكريات اللاهثة.
تدمر المدينة الخالدة
تنهد صاحبي وقال: تدمر التاريخ الذي هزم الزمن.. العمالقة الذين كسروا الآباطرة.. تدمر الخالدة، من صيّركِ اسما للرعب ومكانا للغياب خلف وحشة الموت والمنفى؟ هكذا يفعل المهجوسون المرعوبون من موت داخلي، يزحف في حواسهم.. إنها أحاسيس الدكتاتور ومشاعره المنهوبة في صراع مع موت ذاتي، يتمادي في هيكله النخر، وبسببه وانتقاما منه، كان يجب أن يموت الكثيرون بيده وأن تموت الأمكنة وتغدو الأوابد الخالدات (تدمر وصديانا) فضاء غلّ، يضيق وأماكن غياب، وانتفاء وجود، لمن لا يدينون لسلطة المأفون بالولاء، وقد زودتهم الحرية بطاقة على تحديه وقهره، عبر قهرهم لموت أراده لهم.
وأنت يا تدمر يا مدينة الأبدية، خرافة أنك خالدة، بينما حافظ ذاهب إلى الموت، وخرافة أن توءمك بعلبك تمور بمهرجاناتها، ويصدح المتنبي في فضاءاتها الرحبة وبين أوابدها وفي مسرحك هناك كنت، تحتفين بعملاق الشعر العربي، بينما كانت أختك التوءم تدمر تودع مقيماً، خرج من الموت إلى ما يشبه الحياة.
وسألت نفسي: ما سر العداء بين الدكتاتور والأسماء؟ من هنا، خرج بيان قبل ربع قرن، يجر بقايا كيان رجل منهك، تسانده شعلة روح شحيحة، لم تزل تدله على ما ضاع منه وتذكره أنه ترك هناك أُمّاً شبحا في دار حجرية بهت بازلتها وسيصلها ليلا على غير هدى يطرق الباب متوجساً، فينفتح باب متهالك، ويا للمفاجاة: بييييان.. ويهوي شبح الأم النحيل، بعد ان تقاوى على الموت سبعة عشر عاما ، يهوي ويظل روحها المشتت يجوس في جنبات الدار عبر ذلك الشيخ التدمري الذي رفضت أن تحرره من أمومتها...
الآن عاد روحها يناديه من جديد
يا أيها الثمانيني المتثبث بزمام نفس يتلاشى وميضها، قل: هنا خلف هذا الباب كنت يا أمي تترقبين، كان قلبك يخفق بشدة ويخزك، كلما التقطت أذنك إيقاع خطوة، تقترب من بابك الغارق في صمته المديد على ذلك الطريق الريفي الترابي.. وأخيراً وبعد سنوات من الترقب والانتظار، أخذت الخطوات تتقارب ويتلاحق إيقاعها المنهك، ثم توقف الإيقاع أمام بابك الغارق في ظلال صمته المغالب ضوء سراج شحيح.. أنا بيان يا أمي.. أنا بيان الذي انتظرته سبعة عشر عاما بقلق وخوف وأمل وكان حضوره أقوى في وجدانك من عتمة الغياب.. أنا بيان يا أمي.
في لحظة عودة بيان، غابت أمه وحلّ هو في هذا الفراغ الموحش الذي كان داراً لأم، ظلت تترقب ابنها وحين اطمأنت لعودته، شهدته لحظة وغابت أبداً.