مع بلوغ الحرب ضد تنظيم الدولة في سوريا أوجها، زلزلت انفجارات مفاجئة أكبر سد في تلك البلاد، وهو سد مرتفع مؤلف من 18 طبقة أقيم على نهر الفرات ويحتجز خلفه خزاناً للمياه طوله 40 كم تقريباً، يشرف على واد يعيش فيه الآلاف من البشر.
كان سد الطبقة نقطة حيوية استراتيجية، وقد سيطر تنظيم الدولة عليه، غير أن الانفجارات التي وقعت في 26 آذار 2017 أطاحت بعمال السد فغمر الماء كل شيء. ويقول شهود عيان إن إحدى القنابل هدمت خمس طبقات، بعد ذلك انتشرت الحرائق التي لم تعد تنفع معها المعدات الحساسة. وفجأة لم يعد هنالك أي سبيل يمكن لتدفق نهر الفرات القوي أن يمر من خلاله، فبدأ منسوب المياه في الخزان يرتفع، وعندها استخدمت السلطات المحلية مكبرات الصوت لتحذر الناس وتطلب منهم الابتعاد عن مجرى النهر.
أنحى كل من تنظيم الدولة والنظام السوري وروسيا باللائمة على الولايات المتحدة، إلا أن السد كان على القائمة العسكرية الخاصة بالمواقع الممنوع قصفها لدى الولايات المتحدة لكونها تشتمل على مواقع مدنية محمية، وهذا ما دفع قائد الحملة العسكرية الأميركية وقتها، الفريق ستيفان ج. تاونسيند للقول إن المزاعم التي تدعي تورط الولايات المتحدة تعتمد على "تقارير كاذبة"، حيث أكد بعد مرور يومين على تلك التفجيرات أن: "سد الطبقة ليس بهدف بالنسبة للتحالف".
في الحقيقة، قام أعضاء من وحدة العمليات الخاصة السرية الأميركية التي تعرف باسم فرقة العمل 9 بقصف السد باستخدام كبرى القنابل التقليدية الموجودة لدى الترسانة الأميركية، والتي تشمل على الأقل قنبلة BLU-109 المخصصة لقصف المخابئ والمكامن والتي صممت لتدمر المنشآت الإسمنتية السميكة بحسب ما ذكره ضابطان رفيعان سابقان. وقد قامت تلك الفرقة بذلك بالرغم من التقرير العسكري الذي حذر من عدم قصف السد، وذلك لأن الضرر يمكن أن يتسبب بوقوع فيضان قد يقتل آلاف المدنيين.
وبناء على الوضع المحمي للسد، فلا بد أن قرار قصفه صدر من أعلى رتبة في تسلسل القيادة، إلا أن الضابطين السابقين ذكرا أن فرقة العمل استعانت بعملية مختصرة مخصصة للحالات الطارئة، بشكل يسمح لها بشن الهجوم دون تصريح.
بعد ذلك، هرع ثلاثة عمال نحو السد لمنع وقوع الكارثة، إلا أنهم قتلوا بغارات مختلفة شنتها قوات التحالف بحسب ما ذكر عمال آخرون في السد.
وقد ذكر المسؤولان السابقان اللذان تحدثا بشرط عدم الكشف عن اسميهما لأنهما غير مخولين بمناقشة أمور الضربات، أن بعض الضباط الذين أشرفوا على الحرب الجوية اعتبروا ما فعلته فرقة العمل عملاً متهوراً.
غير أن الكشف عن دور فرقة العمل 9 في الهجوم على السد أتى عقب سلسلة من الأمور التي كشفتها صحيفة نيويورك تايمز حول هذا الفريق الذي كان يلتف على الدوام حول عملية الموافقة على القيام بضربة جوية قوية، كما كان يقصف مواقع لتنظيم الدولة في سوريا بشكل يعرض المدنيين للخطر، وقد تكرر ذلك مرات كثيرة.
إذ حتى مع التخطيط الحذر، يعتبر ضرب السد بتلك الكمية الكبيرة من المتفجرات والقنابل أمراً خطيراً لا يمكن أن يقبل بتنفيذه كبار القادة الأميركيين، وهذا ما أخبرنا به سكوت ف. موري، وهو كولونيل متقاعد من سلاح الجو، قام بالتخطيط لغارات جوية خلال الحملات التي استهدفت العراق وأفغانستان وكوسوفو، ولهذا يقول: "إن استخدام قنبلة وزنها 2000 رطل لتفجير موقع محظور مثل سد يعتبر أمراً صعباً للغاية، وينبغي ألا يتم من الجو. إذ في أسوأ الأحوال، يمكن لتلك الذخيرة أن تتسبب بتعطل السد".
بعد تلك الغارات، عثر عمال السد على الجزء المشؤوم من الحظ السعيد، حيث وجدوا خمس طبقات تحت برج التحكم بالسد، وإلى جانبها قنبلة أميركية من طراز BLU-109 محترقة لكنها ماتزال سليمة، غير أنها باتت عديمة الفائدة، بيد أنها لو انفجرت لكانت عطلت السد بالكامل برأي خبراء.
ورداً على أسئلة طرحتها صحيفة نيويورك تايمز، اعترفت القيادة الوسطى الأميركية التي أشرفت على الحرب الجوية في سوريا، بإسقاط ثلاث قنابل تزن كل منها 2000 رطل، إلا أنها أنكرت استهدافها للسد أو القيام بأي إجراء ينطوي على تجاوز، إذ ذكر الناطق الرسمي باسم تلك القيادة أن القنابل أصابت البرجين المتصلين بالسد فقط، دون أن تصيب السد بحد ذاته، وبما أن كبار القادة لم يتم إخطارهم مسبقاً بذلك، لذا فإن القيام بضربات محدودة تستهدف البرجين كان ممهوراً بموافقة مسبقة من قبل القيادة.
وفي تصريح له ذكر الضابط بيل أوربان كبير المتحدثين باسم هذه القيادة ما يلي: "أكد التحليل أن الضربات التي استهدفت البرجين المتصلين بالسد من غير المحتمل أن تسبب ضرراً بنيوياً بسد الطبقة نفسه"، وأشار إلى أن السد لم ينهر، ثم أضاف: "لقد أثبت ذلك التحليل دقته... ثم إن المهمة والغارات التي ساعدت على إنجاحها أسهمت في إعادة سيطرة أهالي شمال شرقي سوريا على سد الطبقة الذي بقي سليماً، كما منعت تنظيم الدولة من استخدامه كسلاح، إذ لو ترك لهم المجال ليفعلوا به ذلك، فإن ذلك سيتسبب بالمزيد من المعاناة للشعب السوري بحسب ما ورد في تقييماتنا التي توقعت كل ذلك وقتها".
غير أن المسؤولين السابقين اللذين انخرطا بشكل مباشر في الحرب الجوية في تلك الأثناء، وكذلك شهود العيان السوريين الذين أجرت معهم صحيفة نيويورك تايمز مقابلات، ذكروا أن الوضع كان مزرياً بشكل أكبر بكثير مما وصفته تصريحات الجيش الأميركي أمام العلن.
فقد دُمرت المعدات الحساسة والأساسية وتوقف السد عن العمل بشكل كامل، وارتفع منسوب الخزان بسرعة ليصل إلى 50 قدماً، وأصبح الماء ينساب فوق السد، وذكر مهندسون أن ذلك يعتبر مصيبة بحد ذاته، ثم تطور الوضع بصورة أخطر، لدرجة أن السلطات المسؤولة عن السدود الواقعة في منابع نهر الفرات في تركيا قطعت تدفق الماء عن سوريا لكسب الوقت، وتداعى ألد الأعداء في النزاع الذي امتد على مدار سنوات، وهم تنظيم الدولة والنظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية والولايات المتحدة لوقف إطلاق النار بسبب ظهور حالة طارئة نادرة، وذلك حتى يتمكن المهندسون المدنيون من مسابقة الوقت لتجنب وقوع الكارثة.
ذكر المهندسون الذين عملوا في السد والذين لم يرغبوا بالكشف عن أسمائهم خوفاً من التعرض للانتقام، أنهم من خلال العمل بسرعة فقط والذي تم جزء كبير منه تحت تهديد السلاح من قبل القوات المتصارعة التي اكتفت بمراقبة ما يجري، تم إنقاذ السد والناس الذين يعيشون حول مجرى النهر.
وذكر المدير السابق للسد: "لا يمكن لأحد أن يتخيل حجم الدمار إن وقع، كما أن أعداد القتلى قد تتجاوز عدد السوريين الذين قتلوا طوال سنوات الحرب".
حصن جاهز
دخلت الولايات المتحدة الحرب ضد تنظيم الدولة في عام 2014 واعتمدت فيها على قواعد خاصة بالاستهداف وذلك لحماية المدنيين والبنية التحتية الأساسية. لذا فإن قصف سد، أو غيره من المواقع المدنية الأساسية الموجودة ضمن قائمة المنشآت الممنوعة من القصف لدى قوات التحالف، يحتاج إلى تدقيق مفصل وموافقة من قبل كبار القادة.
إلا أن تنظيم الدولة سعى لاستغلال تلك القواعد، حيث استخدم المواقع المدنية الممنوعة من القصف كمستودعات للأسلحة، ومراكز للقيادة ومواقع للقتال، وشمل ذلك سد الطبقة.
فكان الحل الذي خرجت به فرقة العمل للتخلص من تلك المشكلة هو نبذ القواعد التي تهدف لحماية المدنيين، وذلك بحسب ما ذكره مجندون سابقون وحاليون في الجيش.
سرعان ما بررت فرقة العمل لجوءها في غالبية ضرباتها لعمليات الدفاع عن النفس بشكل طارئ بمحاولتها إنقاذ الجنود الذين يتعرضون لحالات تهدد حياتهم، حتى وإن لم يتعرض الجنود لأي خطر. وهذا ما أتاح لذلك الفريق استهداف المواقع بشكل سريع، والتي شملت حتى المواقع الممنوعة من القصف والتي لولا ذلك الوضع لبقيت محرمة.
تسببت الغارات السريعة التي استهدفت مواقع مثل المدارس والمساجد والأسواق بقتل الكثير من النساء والأطفال بحسب ما ذكره عساكر سابقون، وبحسب ما ورد في وثائق عسكرية حصلت عليها نيويورك تايمز وذكرت فيها مواقع ضربات التحالف في سوريا.
لعله لا توجد حادثة واحدة تكشف عن اللجوء بشكل وقح لقواعد الدفاع عن النفس والتكاليف المدمرة المحتملة نتيجة لذلك(لاتوجد حادثة أشد وضوحاً) من حادثة قصف سد الطبقة.
فمنذ بداية الحرب، اعتبرت الولايات المتحدة ذلك السد بمثابة مفتاح للنصر، إذ ينتصب هذا البناء ذي التصميم السوفييتي والمؤلف من التراب والإسمنت على بعد 48 كم تقريباً من منابع النهر في عاصمة الخلافة المزعومة لتنظيم الدولة، أي في محافظة الرقة، لذا فإن من يسيطر على السد لا بد أن يسيطر على تلك المدينة.
سيطرت جماعات الثوار على السد في عام 2013، ثم سيطر عليه تنظيم الدولة في أثناء تمدده العنيف في عام 2014. وعلى مدار بضع سنوات أتت بعد ذلك، احتفظت تلك الجماعة المقاتلة بحامية صغيرة لها في برجي السد، حيث تشكل الجدران الإسمنتية السميكة، مع المنظر الشامل حصناً جاهز الصنع.
إلا أن السد بقي جزءاً مهماً من البنية التحتية المدنية، حيث واصل العاملون في السد إنتاج الكهرباء التي تصل لمعظم أرجاء تلك المنطقة، كما استمروا بتنظيم المياه وتوزيعها على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية المروية.
وفي آذار من عام 2017، عندما شنت الولايات المتحدة والتحالف الدولي هجومهما لاستعادة المنطقة من تنظيم الدولة، كانت هي والتحالف على علم بأنها يجب أن تسيطر على السد لمنع العدو من تقصد إغراق القوات المتحالفة التي نشرت على مجرى النهر.
كانت فرقة العمل 9 مسؤولة عن الهجوم البري، وكانت تبتكر طرقاً للسيطرة على السد طوال الأشهر التي سبقت تلك الضربة بحسب ما ذكره مسؤول عسكري سابق. ثم طلبت تلك الفرقة إعداد تقرير على يد مهندسين مختصين لدى مكتب موارد الدفاع والبنية التحتية التابع لوكالة استخبارات الدفاع وذلك لتقييم حجم القنابل التي يمكن استخدامها في الهجوم بطريقة آمنة.
وسرعان ما تقدمت تلك الوكالة بتوصية واضحة ورد فيها الآتي: إياكم أن تقصفوا السد.
وفي تقديم يمتد على أربع صفحات، أورد المهندسون –بحسب ما ذكره مسؤولان عسكريان سابقان- أن الأسلحة الصغيرة مثل صواريخ جهنم التي تحمل رؤوساً حربية تزن 20 رطلاً، يمكن أن تستخدم مع الأجزاء الترابية من السد، إلا أنه من الخطر استخدام أي نوع من القنابل أو الصواريخ بصرف النظر عن حجمها ووزنها لضرب البنى الإسمنتية التي تتحكم بتدفق المياه.
كما ذكر المسؤولان السابقان أن التقرير حذر من احتمال تسبب تلك الغارة بتعطل كبير وبفيضان مدمر يمكن أن يقتل الآلاف من البشر. وقد أتت تلك النتائج مماثلة للنتائج الواردة في تقرير للأمم المتحدة صدر في كانون الثاني 2017، وورد فيه إن تسببت الهجمات التي تستهدف السد في تعطله، فلابد أن تغرق التجمعات السكانية التي تعيش على امتداد يزيد عن 160 كم على طول مجرى النهر بالفيضان والماء.
تم استكمال ذلك التقرير العسكري وإرساله إلى فرقة العمل قبل بضعة أسابيع على وقوع الغارة بحسب ما ذكره أحد المسؤولين السابقين. ولكن في الأسبوع الأخير من شهر آذار لعام 2017، قرر فريق إدارة فرقة العمل الذي كان يعمل على الأرض ضرب السد بأي حال من الأحوال، والاستعانة في تلك العملية بأضخم القنابل التقليدية المتوفرة.
قنابل تزن 2000 رطل
لم يتضح السبب الذي حرض فرقة العمل على شن الهجوم في 26 آذار، إذ في ذلك الحين، كانت قوات التحالف التي تترأسها الولايات المتحدة قد سيطرت على الجهة الشمالية للخزان، فيما كان تنظيم الدولة يسيطر على الجهة الجنوبية منه. ولذلك دخل الطرفان في مواجهات امتدت لأسابيع.
وذكر النقيب أوربان أن قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل الولايات المتحدة حاولت أن تسيطر على السد، لكنها أصبحت في مرمى نيران مقاتلي العدو، فتسبب ذلك بوقوع خسائر بشرية جسيمة بين صفوف قسد، وبعد ذلك قام التحالف بقصف السد.
أما عمال السد فقد ذكروا أنهم لم يشاهدوا أي قتال عنيف أو خسائر بشرية فادحة في اليوم الذي سبق قصف السد بالقنابل.
إلا أن الشيء الوحيد الواضح هو أن قادة فرقة العمل 9 وصفوا تلك الضربة بأنها ضربة أتت دفاعاً عن النفس، ما يعني أنهم لم يكونوا بحاجة لطلب الإذن عبر تسلسل القيادة.
وفي تقرير عسكري تم الحصول عليه بموجب دعوى قضائية تم البت فيها بناء على قانون حرية المعلومات، يتبين لنا أن قادة تلك الفرقة أجروا اتصالاتهم مع طائرة قاذفة من نوع ب-52 كان تحوم فوق الرؤوس حينئذ وطلبوا منها أن تشن غارة فورية على ثلاثة أهداف. بيد أن ذلك التقرير لم يورد أي شيء حول وجود قوات معادية تقوم بإطلاق النار ولا عن أي إصابات كبيرة، بل ورد فيه أن قادة الفرقة طلبوا القيام بتلك الغارات لوجود "منطقة برية محظورة".
وقد ذكر المسؤولان السابقان أن الطلب -بناء على هذا السبب- يوحي بأن قوات التحالف لم تكن في خطر التعرض لاجتياح مباغت من قبل العدو، لذا فإن هدف فرقة العمل على الأرجح هو تدمير مواقع للمقاتلين موجودة في هذين البرجين عبر ضربة استباقية.
بيد أن شن هذا النوع من الضربات العسكرية بناء على قواعد الدفاع عن النفس يمثل ابتعاداً صارخاً عن الطريقة التي من المفترض أن تتم الحرب الجوية بموجبها، بحسب رأي هذين المسؤولين.
بعد مرور بضعة أسابيع على ذلك، أي عندما قررت الولايات المتحدة تعطيل نظام القنوات بالقرب من الرقة، كان لا بد لتلك الغارات أن تحصل على موافقة من قبل المجلس العسكري الذي يتولى أمور الاستهداف بموجب ما وصفه أحد المسؤولين السابقين بالعملية "المفصلة بشكل كامل".
غير أن كل ذلك لم يتم بالنسبة للغارة التي استهدفت السد حسب قوله.
يرى مسؤول رفيع في وزارة الدفاع أن فرقة العمل تجاوزت السلطة الممنوحة لها عندما قصفت دون إبلاغ كبار القادة، وذكر أن تلك الضربات نفذت "ضمن توجهات مصدّق عليها" حددها القائد العسكري للحملة ضد تنظيم الدولة، أي الجنرال تاونسيند. وبسبب ذلك، يقول الجنرال إنه "لا حاجة لإبلاغ القائد العسكري سلفاً" بذلك.
في البداية، كان من المقرر لقنابل ب-52 التي تم إسقاطها أن تنفجر في الجو فوق الأهداف وذلك منعاً لتدمير تلك البنى، بحسب ما ذكره مسؤول عسكري رفيع المستوى، ولكن عندما فشلت فرقة العمل في طرد مقاتلي العدو، استدعت تلك الفرقة الطائرة القاذفة وطلبت منها إسقاط ثلاث قنابل تزن كل واحدة منها 2000 رطل، وكان بينها قنبلة واحدة على الأقل تستخدم لدك المخابئ والمكامن، وقد قررت الفرقة لتلك القنابل أن تنفجر بمجرد أن ترتطم بالسطح الإسمنتي.
كما استهدفت فرقة العمل البرجين بالمدفعية الثقيلة.
وبعد مرور أيام على ذلك، هرب مقاتلو تنظيم الدولة، ودمروا محركات السد التي لم تكن تعمل خلال عملية انسحابهم بحسب ما ذكره مهندسون.
تظهر صور الأقمار الصناعية التي التقطت بعد وقوع تلك الهجمة ظهور فجوات كبيرة في سطح كلا البرجين، إلى جانب ظهور فوهة في السطح الإسمنتي للسد بجانب البوابات الرئيسية، واشتعال نار في أحد أبنية محطة الطاقة. إلا أن الأخطر من كل ذلك رغم عدم وضوحه في تلك الصور، هو الدمار الذي حدث في الداخل.
هدنة غير معهودة
كان هنالك عاملان في السد في ذلك اليوم، أحدهما مهندس كهربائي يتذكر بأن مواقع مقاتلي تنظيم الدولة في البرج الشمالي كانت كعادتها في ذلك اليوم، أي لم يكن هنالك أي قتال دائر عندما توجه العمال إلى السد لتشغيل منظومة التبريد.
وبعد مرور ساعات، ضربت سلسلة من القنابل المروعة تلك المواقع فدمرتها، وامتلأت غرفة العمال بالدخان، واستطاع المهندس أن يلوذ بالفرار من باب كان يقفل عادة لكن القصف تركه مفتوحاً فرأى من خلاله ضوء الشمس.
غير أن الدم جمد في عروق المهندس عندما شاهد أجنحة طائرة ب-52 الأميركية الواسعة وهي تحلق في كبد السماء الصافية الزرقاء.
ومخافة أن يتم استهدافه بالخطأ ظناً بأنه مقاتل تابع لتنظيم الدولة، عاد المهندس أدراجه إلى البرج الذي كان الدخان يتصاعد منه. كانت الغارة قد خلفت كوة مسننة بين طبقات المبنى أخذ النور يتسرب منها. نظر المهندس إلى الأعلى فرأى النار تخرج من غرفة التحكم الرئيسية التي ضربتها الغارة الجوية.
ومن هنا بدأ تسلسل الكوارث، إذ تسبب الدمار الذي أصاب غرفة التحكم بتعطيل مضخات المياه، فأحاطت المياه بالمعدات الكهربائية ولكنها لم تصل لدرجة غمرها وقتها. ولكن مع عدم توفر الطاقة اللازمة لتشغيل الآلات الأساسية، لا يمكن للمياه أن تمر عبر السد، فأصبح منسوب المياه في الخزان أعلى. كانت هنالك رافعة بوسعها أن ترفع بوابة الطوارئ عند حدوث فيضان، إلا أن هذه البوابة كانت قد دمرت أيضاً خلال القتال.
بيد أن المهندس كان يعلم أنهم إن استطاعوا إيجاد وسيلة لتشغيل الرافعة، عندها سيكون بوسعهم فتح بوابات الفيضان.
اختبأ المهندس في الداخل إلى أن شاهد طائرة ب-52 تحلق بعيداً، ثم عثر على دراجة نارية، وبالرغم من أنه لم يسبق له أن قاد دراجة نارية من قبل، إلا أنه أسرع بها قدر استطاعته ليصل إلى بيت مدير السد، وهناك شرح له ما جرى.
قام المهندسون الموجودون في مناطق تنظيم الدولة بالاتصال بزملائهم السابقين لدى النظام الذين اتصلوا من فورهم بحلفائهم في الجيش الروسي وطلبوا منهم المساعدة.
وبعد مرور بضع ساعات على وقوع الضربة، بدأ هاتف خاص في مكتب مخصص للتواصل المباشر بين الولايات المتحدة وروسيا يرن في مركز العمليات المزدحم في قطر، وعندما أجاب أحد ضباط التحالف على الهاتف، حذر أحد الضباط الروس الذين كانوا على الخط من تسبب الغارات الأميركية بأضرار جسيمة للسد ولهذا لم يعد هنالك أي وقت يمكن للمرء أن يضيعه، وذلك بحسب ما ذكره أحد المسؤولين لدى التحالف الدولي.
وبعد مرور أقل من 24 ساعة على الغارات، قامت القوات السورية التي تدعمها أميركا ومسؤولون روس وسوريون بالتنسيق مع تنظيم الدولة بوقف العمليات القتالية. كما تم تشكيل فريق مكون من 16 عاملا، بعضهم من تنظيم الدولة، وبعضهم من النظام السوري، وبعضهم من الأميركيين وجرى نقله إلى الموقع بحسب ما ذكره ذلك المهندس الذي كان عضواً في ذلك الفريق.
أخذ أفراد ذلك الفريق يعملون بشراسة مع ارتفاع منسوب المياه، إلا أن حالة الشك والتوتر كانت في أوجها، لدرجة دفعت المقاتلين في بعض المواقف لإطلاق النار في الهواء. ثم نجح ذلك الفريق بإصلاح الرافعة التي تمكنت في نهاية المطاف من فتح بوابات الفيضان وإنقاذ السد.
غارة أخرى
رفضت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل الولايات المتحدة التقارير التي تتحدث عن أضرار جسيمة ووصفتها بأنها مجرد دعاية، حيث ذكرت الناطقة الرسمية باسم تلك القوات أن التحالف لم يضرب السد سوى "بأسلحة خفيفة، حتى لا يسبب أي أضرار".
وبعد مرور فترة قصيرة على ذلك، أنكر الجنرال تاونسيند استهداف السد وقال: "عندما تستهدف الغارات مواقع عسكرية موجودة على السد أو بالقرب منه، فإننا نستخدم ذخائر لا تتسبب بإحداث فوهات وذلك منعاً لوقوع أضرار غير ضرورية في المنشأة".
ولكن خلال الأيام التي أعقبت الغارة، شاهد ضباط يشتغلون بالحرب الجوية لدى التحالف صوراً لتنظيم الدولة تظهر قنبلة غير منفجرة مخصصة لتدمير المخابئ والمكامن، فحاولوا أن يعرفوا ما الذي حدث بالفعل بحسب ما ذكره أحد المسؤولين. إذ من المفترض أن يتم رفع تقرير عن كل غارة جوية أميركية إلى مركز العمليات على الفور، إلا أن فرقة العمل 9 لم ترفع أي تقرير حول الغارات التي استهدفت السد، مما صعب عمليات تعقب ما جرى بحسب ما ذكره أحد المسؤولين السابقين إذ قام بالبحث في تلك السجلات، وذكر أنه يمكن لفريق أن يرتب تسلسل الأمور التي قامت بها فرقة العمل إلا أن ذلك لا يمكن أن يتم قبل مراجعة سجلات طائرات ب-52.
وفي مركز العمليات الجوية، أحس مسؤولون رفيعو المستوى بصدمة كبيرة عندما عرفوا كيف تجاوز هؤلاء القادة السريون تلك الضمانات وكيف استخدموا أسلحة ثقيلة في تلك العملية بحسب ما ذكره أحد المسؤولين السابقين قام بمراجعة تلك العملية.
كما لم يتخذ أي إجراء تأديبي بحق فرقة العمل بحسب ما ذكره مسؤولون، ولهذا واصلت تلك الفرقة السرية ضرب الأهداف عبر الاستعانة بالتبريرات ذاتها القائمة على مبدأ الدفاع عن النفس والتي سبق لها أن استخدمتها عندما قصفت السد.
وفي الوقت الذي مايزال فيه السد قيد الإصلاح، أرسلت فرقة العمل طائرة مسيرة لتحلق فوق التجمع السكاني الذي يقيم بجوار السد، وعندما أخذت تلك الطائرة تحوم وتدور في الأجواء، أنهى ثلاثة من العمال المدنيين الذين هرعوا لإنقاذ السد عملهم وتكدسوا في شاحنة صغيرة لتعيدهم إلى بيوتهم.
وعلى بعد أكثر من 1.5 كم تقريباً من السد، أصيبت تلك الشاحنة بغارة جوية على يد التحالف بحسب ما ذكره عمال آخرون، قتل فيها مهندس ميكانيكي وأحد الفنيين وأحد العاملين لدى الهلال الأحمر السوري. وقد انتشرت أخبار مقتل هؤلاء الثلاثة بشكل واسع عبر وسائل الإعلام السورية، ولكن بما أن التقارير أوردت مواقع خاطئة لوقوع الضربة، لذا بحث الجيش الأميركي عن آثار تلك الغارات بالقرب من السد، فقرر أن تلك المزاعم "لا يمكن تصديقها"، كما لم يتم الاعتراف بمقتل هؤلاء الثلاثة من المدنيين على المستوى الرسمي.
هذا وقد واصلت الولايات المتحدة ضرب الأهداف، إلى أن استطاع حلفاؤها السيطرة على تلك المنطقة خلال فترة قصيرة.
المصدر: نيويورك تايمز