تشكل أعمال المخرج "وائل علي" سلسلة من التنويعات على ثلاثية: المسرح، الذاكرة، الحكاية. في عرضيه "عنوان مؤقت، 2017" و"تحت سماء واطئة، 2021" يحضر السؤال عن دور المسرح في زمن الحرب. تلك الحرب الأهلية اللبنانية في العرض الأول والحرب السورية في عرضه الحالي. ويبقى المميز الأبرز في تجربته المسرحية هي الاشتغال على موضوعات الذاكرة والحكاية، الحاضرة في مجمل عروضه.
الذاكرة المستحيلة السرد:
ينشغل المخرج في الأسئلة المتعلقة بكيفية رواية الذاكرة. يبرهن في عرضه "ما عم أتذكر، 2014" على انتقائية الذاكرة، عملها المستمر على التأويل وبالتالي على التغيير في الحقائق. الذاكرة المحكومة بالسرد تتسم بعدم الثبات، بالدوران، بالتفكك وإعادة البناء باستمرار، وذلك عبر العمل المسرحي على ذاكرة معتقل سياسي في سوريا يروي تجربته من سنوات الثمانينات. التقنيات المسرحية يوظفها العمل لاستعراض الذاكرة، الرواية الشفهية، الوثائق المكتوبة، السرد بصيغة التحقيق، فيديوهات مصورة سابقاً للشاهد تقارن بين ما رواه سابقاً وبين ما رواه الآن وهنا على المسرح.
تحضر الذاكرة أيضاً بمعنى التاريخ، من شهادة المعتقل تروي سوريا من الثمانينات وحتى الراهن، وفي "تحت سماء واطئة" يحضر أيضاً التاريخ من تأسيس سوريا بعد الانتداب الفرنسي وصولاً إلى التقسيم السياسي الذي تعيشه البلاد اليوم. أما في "عنوان مؤقت" فالتاريخ اللبناني هو الذاكرة التي تنسل من شريط كاسيت مسجل للتراسل بين العائلات اللبنانية، والذي كان يستعمل كرسائل بريدية في تلك الفترة.
المقولة المستخلصة من هذه التجربة المسرحية حول الذاكرة، هي حتمية التداخل بين الذاكرة الجمعية والذاكرة الفردية. في "تحت سماء واطئة" تعجز الشخصيات عن رواية حكاياتها الذاتية دون التداخل مع الذاكرة السياسية، وكذلك ما أن يشرع السرد في التاريخ الموثق حتى تنسل منه حكايات الأفراد. حكاية الممثلة ناندا محمد رحلة تنقل بين ذاكرة مدن متعددة دمشق، بيروت، بغداد، القاهرة، باريس. وحكاية الممثل شريف أندورا رحلة تنقل بين ثقافات مختلفة العربية، الفرنسية.
محاولات في سرد الحكاية:
كيف تروى الحكاية؟ من أين تبدأ وأين تنتهي؟ تشكل عروض المخرج محاولات في سرد الحكاية. منذ الجملة الافتتاحية في "تحت سماء واطئة" يشرك المؤديان الجمهور بالسؤال عن كيف تسرد الحكاية السورية أو أية حكاية أخرى، من السؤال تتوالد الحكايات، التي ما تلبث أن تبدأ، حتى تتفكك ويعاد تركيبها مجدداً، ثم يتم رويها بطريقة دائرية أو بنيوية أو زمنية. لم تقتصر مقولة المخرج على حكايات السير الذاتية؛ المعتقل السياسي، الممثلة المسرحية، المخرج الوثائقي، فقد قدم في العام 2016 قراءات مسرحية لسيرة الظاهر بيبرس. لقد عالج المخرج الحكاية الشفهية الذاتية كما عالج الحكاية المكتوبة من التراث الأدبي، فامتد سؤال الحكاية التراثية إلى أفق التأويل. يقول عبد الرحمن في عرض "ما عم أتذكر": "لا أعرف من أين أبدأ حكايتي، لا أعتقد أن هناك تفصيلاً أكثر أهمية يمكن البدء به أو الحنين إليه على الأقل".
تولد الحكايات على المسرح من أغراض، أغراض الذاكرة. شريط كاسيت من الحرب الأهلية في "ما عم أتذكر". أما في "تحت سماء واطئة" فيبدأ السرد من كتاب فرنسي بعنوان: "على طرقات سوريا، بعد تسع سنوات من الوصاية"، الصادر عام 1928، وتنسل الحكايات من دفتر الممثل شريف أندورا الذي يسجل عليه مفردات العربية التي يتعلمها، ومن الصور الفوتوغرافية لجدة الممثلة ناندا محمد. في مجموعتها القصصية "بين نهرين" تبين الكاتبة سماح حكواتي علاقة الإنسان السوري مع الأغراض في رحلة الهجرة والنزوح القسري واللجوء. تتركز الذاكرة بالأغراض، الأشياء تختزن التاريخ لأنها حاملة للحكايات. وفي تحت "سماء واطئة" تحل الأغراض مكان الإنسان، فيوزع الممثلان الأغراض على المسرح في محاولة لرسم خريطة توزع أقاربهم وأصدقائهم على خريطة مدن العالم، كل غرض يعبر عن إنسان ومدينة.
المسرح في رواية التاريخ:
اهتم مسرح الكاتب الإيرلندي برايان فرييل بالسؤال المتعلق بالذاكرة والتاريخ، في نصه بعنوان "صناعة التاريخ، 1988" نتابع حكاية مؤرخ رافق المناضل الإيرلندي هيو أونيل في رحلة تحرر إيرلندا، تعالج المسرحية التداخل بين التأويل الذي يرغبه المؤرخ، وبين الحدث الحقيقي الجاري مع الخيبات والانكسارات، وبين ما يجب أن يبقى في ذاكرة الأجيال. يقول هيو أونيل للمؤرخ: "أنت تكتب عن بطل، وأنا لست إلا إنسانا يائسا وضعيفا"، فيقول المؤرخ: "الأجيال تحب البطولة". وفي مسرحيته "ترجمات، 1990" يلتقط حكاية تغيير أسماء شوارع مدينة إيرلندية من اللاتينية إلى الإنكليزية ليبرهن كيف تفرض الذاكرة عبر الثقافة ويفرض تغير التاريخ على الشعوب بالقوة. تتجاور في مسرح "وائل علي" تلك الحكايات الهامشية مع الأحداث التاريخية، الحكايات الأكثر ذاتية وحميمية مع الذاكرة الجمعية. في "ما عم أتذكر" يروي المعتقل السياسي حكاية صناعة العود في السجن، يغرق في التفاصيل عن صنع صندوق العود بالخبز المعجون، ثم صناعة المفاتيح بأعجوبة.
حكايات الممثلين/ات الذاتية:
يميز مسرح لويجي بيرانديللو بين الدور والشخصية المسرحية. لكن السرد في "تحت سماء واطئة" يمتد أيضاً إلى حكايات الممثلين والممثلات المشاركة. في "ما عم أتذكر" تصبح حكاية الممثل أيهم الأغا الذاتية جزءاً من السرد الذي يروي رحلة خروجه من سوريا في ظل العنف، وفي "عنوان مؤقت" تروي الممثلة كريستيل خضر حكاية رحلة عائلتها الطويلة مع الهجرة منذ العام 1915، متنقلين بين مدينة وأخرى وبلد وآخر، ما يجعل من سيرة ترحلهم مثالاً عن الهجرة في بلاد الشام خلال قرن، رحلة هجرة أخرى ترويها الممثلة ناندا محمد عن عائلتها المتنقلة بين دمشق وبغداد، ومن بعدها رحلة هجرتها من سوريا إلى مصر وفرنسا. أما حكاية الممثل الفرنسي شريف أندورا فهي عن بحث الابن في أصول أبيه السورية، ما يدفعه إلى تعلم اللغة العربية، لكن النبرة الساخرة التي كان الأب يمارسها على محاولات شريف تعلم اللغة، منعته من أن يخبر أبيه عن دفتر مفرداته العربية حتى مماته.
يكرر المخرج تعاونه مع المصممة السينوغرافيا بيسان الشريف، في مسرح تكون أغراضه جزءاً من السرد، تبتكر خشبة دقيق في حمل مقولة العمل، تنحو ما أمكن باتجاه فتح الأفق بين الخشبة والجمهور، مع الاحتفاظ بإمكانية تحويل العوالم المسرحية إلى الحميمية الفنية في أية لحظة. هو مسرح متعدد الوسائط في "ما عم أتذكر" شرائط الفيديو التي تعرض على المسرح تشكل مقارنة بين الماضي والآن. في "عنوان مؤقت" يلعب الشريط السمعي طويلاً على علاقة الجمهور بالتاريخ. وفي "تحت سماء واطئة" تستعرض صور فوتوغرافية من أيام الاستقلال الأولى في سوريا، يوجه الممثل الكاميرا إلى الجمهور، كاميرا على المسرح يتبادلها الممثلان، يصبح الخروج والدخول من الكادر لعبة الانتقال من حكاية إلى حكاية.