لعبت غوطة دمشق دوراً جوهرياً في الثورة السورية الكبرى في مواجهة الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي، وساهمت بشكل أكثر حضوراً وقوة في مواجهة نظام الأسد وإيران وروسيا في مظاهراتها المدنية عام 2011، أو من خلال الانخراط في العمل العسكري في وجه النظام، قبل أن تنحسر قوة المقاومة الشعبية بعد سنوات من الحصار والقصف الشديد بمختلف أنواع الأسلحة بما ذلك الكيماوي ليتم التهجير بعيداً عن الأرض.
يعد محمد كرد علي من أهم علماء دمشق في القرن العشرين، وذلك من خلال مؤلفاته الكثيرة، وشغله رئاسة مجمع اللغة العربية بدمشق منذ تأسيسه عام 1919 حتى وفاته عام 1956.
ولا شك في أن كتابه "غوطة دمشق" المنشور عام 1949، يعتبر من الكتب الموسوعية التي تحدثت عن الغوطة التي تحيط بأقدم عاصمة في التاريخ، وقد خطه وهو يبلغ من العمر نحو السبعين عاماً.
وتحدث كرد علي في الكتاب عن معايشته لأهل الغوطة وعيشه فيها، بحيث لم يترك جانبًا عن غوطة دمشق إلا تحدث عنه. عائداً إلى تاريخ ما قبل الإسلام وصولاً إلى الحاضر، ونبش في الدوائر وسلط الضوء على الواقع بكل موضوعية. الأرض وما عليها، البشر وأفكارهم ونمط حياتهم، عاداتهم، اعتقاداتهم، سلوكياتهم كلها، وضعها محمد كرد علي تحت الضوء وأعملَ بها منهجه العلمي النقدي البنّاء.
قبل الدخول في تفاصيل الكتاب أوضح أن تاريخ تدوين الكتاب هو أواخر أربعينيات القرن الماضي. وهذا يعني أن متغيرات كثيرة حدثت منذ ذلك التاريخ للآن نحو السبعين عاماً، غيرت من معالم الغوطة بحيث نستغرب أن تنسب بعض المواقع للغوطة وقد أصبحت جزءاً من مدينة دمشق مثل "الجسر الأبيض وباب توما وأبو رمانة وغيرها".
-
ما هي الغوطة؟
تعود تسمية الغوطة إلى كونها أرضا زراعية تكثر فيها الأشجار وجميع أنواع الزراعات. وهي ممتدة لمساحة واسعة على نهر بردى وفروعه كلها التي تأتي عابرة أحياء دمشق.
ويحدها "من الشمال نهر يزيد في حي المهاجرين، وجنوبي حي الأكراد، ثم برزة وحرستا ودوما، وشرقاً المزرعة ومسرابا وبيت سوا، وحمورية وزبدين والمحمدية وبالا والمليحة، وجنوباً خيارة نوفل وقبر الست وحجيرة وعقربا والأشرفية وصحنايا والبويضة، وغرباً صحنايا وداريا والقسم المروي من المزة" .
أغلب سكان الغوطة يعملون في الزراعة، وكان قسم كبير منهم أميين وفقراء، وملكياتهم متفاوتة. كما أن أغلب إنتاجهم يستثمره التجار الدمشقيون إلى درجة أن بعضهم كان يلجأ للاستدانة من التجار مقابل "فائدة"!. وقد يعجزون ولا يستطيعون إيفاء ديونهم. فيتم الحجز على أراضيهم. وبهذا الشكل تم توسيع ملكيات التجار في الغوطة. حيث بنوا على ملكياتهم القصور والبيوت الباذخة.
هذا غير الحكام المتعاقبين وسطوتهم عبر الضرائب على أغلب الإنتاج وحتى على إقطاعات كبيرة من الأراضي. وهكذا لم يكن للفلاحين في الأرض إلا تعبهم ولقمة عيشهم.
ووصلت مساحة الغوطة في ذلك الوقت إلى 30 ألف هكتار، يتبعها إلى الشرق أرض المرج لتصل إلى بحيرة العتيبة بمساحة تصل إلى 500 هكتار.
ووصل معدل أمطار الغوطة نحو 225 ملم سنوياً، فيما كانت حرارتها متوسطة لا تتجاوز العشرينات في الربيع والخريف، وقد تصبح تحت الصفر بدرجات في الشتاء وتصل إلى حدود الأربعين درجة في الصيف. ترتفع عن سطح البحر نحو 700 م.
-
كم بلغ عدد سكان الغوطة عام 1949؟
وبلغ سكانها في ذلك التاريخ نحو 100 ألف نسمة، في الوقت التي كان يقدر عدد سكان دمشق بـ 300 ألف نسمة، ووصل عدد قراها إلى 300 قرية، وقدرت بساتينها بالآلاف.
ويزرع سكان الغوطة جميع أنواع الحبوب، وكذلك الأشجار المثمرة، كما تعتمد على الري من مياه نهر بردى وفروعه المتعددة. حيث يتم تقاسم مياه النهر وفق جدول معين مدروس ومضبوط بدقة. وكانت طرائق الزراعة بمعظمها تقليدياً وهناك بعض الصناعات المرتبطة بالزراعات مثل صناعة "قمر الدين" الناتج عن المشمش إلى جانب المربيات والمجففات والمكسرات.
ويقطن الغوطة منذ سنوات الفتح المسلمون وفيهم من جميع المذاهب الشافعية والمالكية والأحناف والحنابلة. وهناك عدد قليل من المسيحيين.
كما تمتاز الغوطة بمنتزهاتها وأجوائها الساحرة وأشجارها الوارفة، بحيث تحولت على مدار العقود السابقة إلى منتزهات لأهل مدينة دمشق يقضون فيها عطلهم الأسبوعية في الربيع والصيف.
-
الغوطة في التاريخ
يغوص "كرد علي" في تاريخ الغوطة، بحيث يعود إلى ما قبل الإسلام، مسلطاً الضوء على كل المتغيرات التي وقعت على غوطة دمشق. فهي جزء من دمشق وما يعنيه ذلك من كون دمشق وبلاد الشام مركز تقاطع صراعات بين الإمبراطوريات الفارسية والرومانية، مع ما يؤدي ذلك إلى حصول قتل وتشريد وخراب في الأراضي والقرى ومآسي في حياة الناس.
وكان أغلب سكان دمشق وغوطتها منذ ما قبل الإسلام عربا مقسمين بين قيسيين ويمانيين، نشبت بعض الصراعات بينهم حتى ما بعد مجيء الحكم الإسلامي إلى دمشق والغوطة بعشرات السنين.
وعندما وصل الفتح الإسلامي إلى دمشق وأطرافها أيام معاوية ومن جاء بعده من الأمويين، وصارت دمشق عاصمة الخلافة، انعكس ذلك على الحياة في الغوطة، حيث تم إقرار استمرار الملكية لأصحاب الأرض وأن يدفعوا العشر خراجاً لبيت مال المسلمين، كما أفتى بها عمر بن الخطاب. وكان ذلك أفضل حال عاشه أهل الغوطة. لكن ذلك لم يدم لهم. حيث تم تغيير التعامل بتغير الحكام والولاة، وزيادة الضرائب واستغلال الفلاحين والاستحواذ على إنتاجهم.
ظهر ذلك بعد نهاية العصر الأموي، في العصر العباسي وبعده المماليك وعصر الأيوبيين وبعده العثمانيين. وفي المراحل التي جاء بها الصليبيون وكذلك هجمات المغول والتتار على أوقات مختلفة. كل ذلك كان له تبعيات سيئة على حياة أهل الغوطة وإنتاج أرضها، وإرهاقها بالضرائب، ومعاقبتهم حتى بالقتل، هذا غير القتل بالحروب الكثيرة التي مرت على الغوطة ودمشق.
وهكذا تم اغتصاب الأرض من أصحابها من قبل الحكام. أو أخذ الأرض مقابل قروض مجحفة أخذها الفلاحون من التجار وتوسعت ملكيات التجار وتحول أهل الغوطة إلى مزارعين بجهدهم ولقمة عيشهم في أرض كانت لهم.
-
حالة قيمية وأخلاقية
وكانت الحياة الاجتماعية وتسيير المصالح في الفترة الماضية معتمدة على القضاة الذين يقررون في الخصومات والحقوق، وكان هناك منابر العلم والعلماء لكنهم ندرة. وكانت الجوامع والزوايا والحلقات الدينية تقوم بمقام المدارس قديماً قبل نشأة المدارس الحديثة التي ترعاها السلطات الحاكمة. وكان هناك دور لتحفيظ القرآن الكريم والحديث النبوي.
كما بدأ التوسع في العصر الحديث اتجاه الغوطة في بناء المعامل ومصالح التجار وعملوا على إدخال التقنية الحديثة على الزراعة لزيادة الإنتاج والمرابح.
كما تحدث محمد كرد علي عن البنية الأخلاقية القيمية عند أهل الغوطة وأنها تستند بعمقها على الإسلام وقيمه، وأن أغلب الناس ملتزمة أخلاقياً في حياتها وعملها. وتؤمن بأنها إن لم تعمل فلن تستطيع العيش. تقوم بما عليها وتنتظر مواسم العطاء من السماء التي تعطي مطرها أو تمنعه.
ينهي محمد كرد علي كتابه بالتحدث تفصيلياً عن مئات القرى الداثرة، وكذلك القصور، وهذا جزء من تأكيد الكاتب على أن هذه البلاد؛ دمشق وغوطتها مرت عليها تغيرات تاريخية كثيرة بحيث تم اندثار البعض وولادة البعض ودوام الكثير من القرى التي أصبحت شبه مدن وحواضر لمئات من السنين.
-
مركزية الثورة السورية في الغوطة
لا يمكن قراءة كتاب غوطة دمشق من دون القفز بالزمن إلى أكثر من نصف قرن، إلى وقتنا الراهن وتاريخنا المعاصر، حيث كانت أحياء المهاجرين والأكراد والجسر الأبيض من الغوطة وهي اليوم من دمشق ومأهولة بالسكان.
وتغيرت القرى الصغيرة إلى مدن كما حل في داريا ودوما وحرستا تضم عشرات الآلاف من السكان الذين قدموا إلى دمشق وريفها حيث مركز البلاد وثقلها السياسي والتجاري.
الغوطة التي وقفت بوجه المستعمر الفرنسي أيام الثورة السورية الكبرى عام 1925، هي ذاتها الغوطة بمدنها كلها سطّرت مع بقية مدن سوريا وبلداتها أعظم المواقف الثورية التي واجهت نظام الأسد المستبد في سوريا في ثورة 2011 وما بعدها. داريا ودوما وحرستا وبرزة والقدم ومعضمية وقطنا كلها كانت تجمعات ثورية سيجلها التاريخ المعاصر واحدة من أعظم بقع العالم في المقاومة والنضال لأجل الحرية.