يستلهم عالم الاجتماع العربي (ساري حنفي)، في كتابه الجديد: (علوم الشرع والعلوم الاجتماعية نحو تجاوز القطيعة أليس الصبح بقريب)، الروح النقدية للطاهر بن عاشور رائد الحركة الإصلاحية التونسية في بدايات القرن العشرين، في كتابه المعروف: (أليس الصبح بقريب، التعليم العربي والإسلامي دارسة تاريخية وآراء إصلاحية)، فقد استعار منه العنوان الجزئي: أليس الصبح بقريب، وضمنه في عنوان كتابه الجديد.
وإذا كان (ابن عاشور) قادماً من الحقل الديني، للاستفادة من منهجيات العلوم الاجتماعية في ميدان الدراسات الإسلامية، فإن (حنفي) ينطلق في تفكيك القطيعة المذكورة وتجاوزها من منظور اجتماعي علمي دقيق، يشهد له حضوره العالمي البارز، إضافة إلى اتكائه على تجربة شخصية غنية عاشها المؤلف في صباه مع أسرته المتدينة، وحضور دورس الشيخ سعيد رمضان البوطي، والشيخ ناصر الألباني وغيرهم، ثم التعرف إلى كتب محمد عمارة ومحمد قطب وسيد قطب ومالك بن نبي، فضلاً عن العلاقة الشخصية التي ربطته بالشيخ جودت سعيد في أثناء زياراته المتكررة في ريف دمشق.
يطرح الباحث العديد من الأسئلة الإشكالية التي تتمحور حول طبيعة العلاقة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية وإمكانية استفادة علوم الشرع من مناهج العلوم الاجتماعية المعاصرة
يطرح الباحث العديد من الأسئلة الإشكالية التي تتمحور حول طبيعة العلاقة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية وإمكانية استفادة علوم الشرع من مناهج العلوم الاجتماعية المعاصرة بغية تجاوز القطيعة التاريخية والمعرفية بينهما.
وفي سبيل الإجابة، لا يكتفي (حنفي) بالتعرف إلى تاريخ تحولات التعليم الشرعي منذ ولادته في الجوامع، ثم دخوله المؤسسة الجامعية، وهو التعليم الذي يمكن تصنيف توجهاته الأساسية في ثلاثة اتجاهات منهجية، هي: نزعة تقليدية في مصر وبلاد الشام، ونزعة سلفية في الخليج العربي، وأخرى مقاصدية في بلاد المغرب العربي، ولكن (حنفي) يناقش الإشكاليات النظرية لغايات التعليم الديني هل هي دينية؟ أم هي تربوية وفكرية؟ ولعل الأهم برأينا هو المساءلة النقدية لقضية أسلمة المعرفة كوسيلة للربط بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، وهي الرؤية التي قامت على أساسها ظاهرة مستجدة في العالم العربي وهي مراكز الأبحاث والدراسات المهمومة بالتجديد الديني.
وللتعرف إلى طبييعة القطيعة بصورة عملية بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية وتوصيفها بمنهج علمي دقيق، عقد الباحث خلال خمس سنوات قضاها في إنجاز الكتاب، الكثير من الندوات وورشات العمل، إضافة إلى المقابلات الكثيرة التي أجراها مع الإداريين والأساتذة والطلاب في عدد كبير من الجامعات العربية، لدراسة واقع كليات العلوم الإسلامية في جامعات المشرق العربي (لبنان، سوريا، الأردن، الكويت) ومغربه (المغرب والجزائر)، فضلاً عن دراسته لنماذج اعتبرها الباحث رائدة (قطرية ومغربية وماليزية)، محللاً مناهجها الدراسية وطرائق تدريسها، وناقداً برامجها التدريسية وفلسفتها، وفاحصاً أبحاثها العلمية الصادرة عن مراكزها الأكاديمية، ومقيماً المحتوى المعرفي لدراساتها العليا في رسائل الماجستير والدكتوراه من حيث مناهجها وإشكالياتها البحثية وأطروحاتها الأكاديمية.
يُعيد (حنفي) أسباب هذه القطيعة إلى التراوح بين التأييد المشروط ورفض التداخل المعرفي لدى أصحاب التيار الديني، وأسلوب الرتابة والتقليد والحشو الذي يهيمن على العملية البيداغوجية الدينية، إضافة إلى مخالفة العقل والمنطق واعتمادهم التخصص المفرط الذي يتمترس خلفه المتعصبون، ثم هجرهم لمضامين القرآن، والاتجاه إلى تقديس الأستاذ أو الشيخ المفضي إلى تحقير الذات، ودليله في ذلك، حالة الضعف في أطروحات الماجستير والدكتوراه التي تخلو من من قضايا إشكالية بحثية حقيقية أو مناهج وأدوات علمية، بل تقوم في جوهرها على التقليد والتكرار للتراث وقضاياه، من دون أن ترتبط بقضايا العصر أو مناهجه أو حتى حلوله.
لو تناول حنفي تطور التعليم الشرعي الجامعي في سياقات أخرى، مثل تونس أو تجربة كليات الإلهيات في تركيا، فكان من الممكن للباحث أن يكتفي بنموذج أو اثنين من كل توجه ليتاح له دراسة نماذج أخرى
إذا تأملنا النماذج التي اختارها المؤلف موضوعاً له، فإننا نجدها متشابهة السياق والتوجه تقليدية كانت أم سلفية أم مقاصدية، لذلك عمّم الباحث أسباب القطيعة المذكورة أعلاه على كل هذه النماذج المدروسة، لكن لو تناول تطور التعليم الشرعي الجامعي في سياقات أخرى، مثل تونس (بلد الطاهر بن عاشور الذي انطلق منه الباحث في موضوعه)، أو تجربة كليات الإلهيات في تركيا، وهما النموذجان اللذان عاشا تحت حكم العلمانية الصُلبة لفترة طويلة، وما فرضه ذلك من تطور مختلف لبنية العلم الشرعي وعلاقته بالعلوم الاجتماعية، فكان من الممكن للباحث أن يكتفي بنموذج أو اثنين من كل توجه ليتاح له دراسة نماذج أخرى كالتي ذكرناها، الأمر الذي لم يسمح لنا بالتعرف إلى تجارب أخرى متمايزة السياق والتوجه، وحرمنا بالنتيجة من مقارنة بين الأشكال المختلفة التي -ربما - تعطي نتائج مغايرة لطبيعة القطيعة التي درسها الباحث في نماذجه المختارة.
أركان الربط بين العِلمين
لا يكتفي الكتاب بتوصيف القطيعة وأسبابها بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية المعاصرة، وهو الأمر الذي انصبّ عليه الجهد الأكبر، بل إن الإضافة النوعية - التي لا تقل أهمية عن الأولى – هي محاولة تجاوز هذه القطيعة التاريخية والمعرفية بين الحقلين المذكورين، إذ مكّنت الجهود التي بذلها الباحث في دراسة تعيّنات القطيعة في قطاع التعليم الديني الجامعي المدروس بكل تلويناته (التقليدية والسلفية والمقاصدية) في مشرق العالم العربي ومغربه من التوصل إلى طريقة جديدة لربط علوم الشرع بالعلوم الاجتماعية المعاصرة وتجاوز القطيعة بين المجالين، وتحقيق المصالحة المعاصرة بينهما. إذ يقترح حنفي منهجاً مركباً لتجاوز القطيعة، يقوم على ثلاثة أركان أساسية:
أولها: تبيئة المعرفة وفقاً لطريقة الفصل والوصل القائمة على تحديد الموضوع المبحوث وطبيعته إذا كانت علمية أم دينية، ثم تحليلها حسب طبيعتها المذكورة، وصولاً إلى إنشاء الرابطة بينهما.
وثانيها: المنهجية المقاصدية التي تحكمها الغاية من الشريعة والتوسع فيها.
وثالثها: المقاربة الأخلاقية للدين: التي تجمع بين مصدرين أساسين هما: الفلسفة الأخلاقية والدين، فهي تشتغل على المعضلات الأخلاقية، بحيث تكون مقدمة لتفعيل أحكام فقهية متناسبة مع السياق الزماني والمكاني، هذه المقاربة هي التي ستمسح للدين عن طريق الأخلاق بالتأثير على أحوال شخصية، قضايا سياسية وأعراف وتقاليد اجتماعية.
إذا وضعنا هذه المقاربة الثلاثية الأركان موضع النقد، فسنجدها عامة في رسالتها النظرية إلى أهل التعليم الشرعي الجامعي، فهي لم تميز بين التوجهات الثلاث الأساسية المدروسة (التقليدية والسلفية والمقاصدية)، بل عدّتها نمطاً واحداً في مقاربة تجاوز القطعية المنشود. أما جدواها العملي فلا نتوقع أن تأخذ بها هذه التوجهات الأساسية للتعليم الشرعي الجامعي؛ المدرسة التقليدية لأنها تقليدية، وأيضاً المدرسة السلفية لأنها سلفية، أما المدرسة المقاصدية فهي أصلاً تطبقها - بشكل أو بآخر - انطلاقاً من فلسفتها التعليمية القائمة على الغايات الأخلاقية القصوى للشريعة.
أهمية كتاب ساري حنفي
لا تأتي أهمية كتاب علوم الشرع والعلوم الاجتماعية نحو تجاوز القطيعة أليس الصبح بقريب، فقط من كونه وثيقة نادرة وجديدة لدراسة واقع التعليم الديني في عدد من الجامعات العربية المختلفة السياق والتوجه، وهي الوثيقة التي يمكن أن تكون فاتحة للكثير من الدراسات والأبحاث العلمية المتخصصة، لأنها استكشفت واقع هذه الكليات من زوايا متعددة (المناهج والرسائل الجامعية ومراكز الأبحاث وغيرها)، ولا تأتي أهميته أيضاَ من تناوله لمسألة يلفها الكثير من الحساسية العلمية والاجتماعية والدينية، لأهل الشريعة أو لباحثي العلوم الاجتماعية، بل تأتي من المواقف المتميزة التي خرج بها هذا الكتاب. ومنها: ليس فقط تأكيده على ضرورة إدخال العلوم الاجتماعية في علوم الشرع فحسب، وإنما العكس أيضاً، أي أن تكون علوم الشرع في صُلب الدراسات الاجتماعية وجزءاً من اهتماماتها -كما هي تجربة المؤلف في هذا الكتاب مثلاً - وهذا لا يتحقق إلا بتحصيل علمي مزدوج بين التكوين الشرعي والتكوين في العلوم الاجتماعية، لينهض ببناء ذهنية منفتحة حول الدراسات الاجتماعية والإسلامية، وهي الذهنية التي تعكس شخصية المؤلف العلمية المتسامحة الداعية إلى صبح قريب.