في بداية العام توقعت إحدى العرافات ممن يعملون في تنبؤ الأحداث وفقاً للفلك، بأن هذا العام سيكون عاماً ذهبياً مليئاً بالتحركات الدبلوماسية بالنسبة للنظام السوري، وستمتلئ نشرات الأخبار بجمل من قبيل "ودع واستقبل"، لكننا لم نصدق ذلك بالطبع فقد كنا نحاول تغليب صوت العقل على هذه الترهات.
وإذا كان العقل اليوم لا يتخيل أن ذلك يحدث فعلاً، فليس إلا لأننا لم نواكب الحدث كما يستحق، ولم نفهم حقيقة الألعاب السياسية التي تدور في ما وراء عناوين الأخبار التي تعمل على ذر الرماد في العيون وتعتيم الصورة.
مؤخراً تحركت بعض الدول في محاولة لإعادة التوازن في المنطقة المشتعلة منذ عام 2011، فقررت السعودية مثلاً إنهاء عزلة الأسد وإعادة فتح قنوات التواصل له مع المحيط، وبلغته دعوته إلى القمة العربية التي تعتزم الرياض استضافتها في الشهر الجاري.
قبل ذلك وعلى مدى قرابة خمس سنوات كان من الواضح أن الأمر يسير في هذا الاتجاه، وكانت لدى المعارضين تخوفات من تعويم النظام ومحاولة إعادة تأهيله، غير أن ذلك قوبل بالنفي القاطع من القوى العالمية، مشددين على ضرورة محاسبة النظام على ما فعلت يداه من إجرام بحق الشعب السوري.
على الرغم من أن الضمانات التي تحاول الدول الراعية تقديمها للمعارضين لا تبدو أنها محل ثقة، ولكن ذلك ليس مهماً في الحقيقة إذا ما اجتمع المزاج الدولي على فكرة التطبيع وإعادة العلاقات
مرة كانت الإمارات وأخرى سلطنة عمان ومرات السعودية التي تتداول الأخبار أنها تلعب دور العراب لإعادة الأسد إلى مقعد سوريا في الجامعة العربية، مقابل خطة ادعت أميركا أنها ليست على علاقة بها، مشددة على موقفها من عدم الموافقة على التطبيع مع نظام الأسد، وأكدت أن موقفها من دخول المساعدات الإنسانية بسبب الظروف الحالية لا يغير من شكل العلاقات السياسية.
وعلى الرغم من أن الضمانات التي تحاول الدول الراعية تقديمها للمعارضين لا تبدو أنها محل ثقة، ولكن ذلك ليس مهماً في الحقيقة إذا ما اجتمع المزاج الدولي على فكرة التطبيع وإعادة العلاقات.
الآن يصبح الأمر واقعاً، ويعود النظام السوري لشغل مقعده في جامعة الدول العربية بإجماع وزراء خارجية الدول العربية، بعد أن استضاف الأردن في بداية الأسبوع اجتماعاً لوزراء خارجية سوريا والأردن والسعودية والعراق ومصر، اتفقوا خلاله على "دعم سوريا ومؤسساتها في أي جهود مشروعة لبسط سيطرتها على أراضيها".
جرى تعليق عضوية سوريا إثر قمعها الاحتجاجات التي خرجت لتغيير النظام السوري السياسي ولإحداث نظام ديمقراطي تتداول فيه السلطة، لكن بعد تزايد وتيرة لقاءات المسؤولين في الحكومات العربية مع ممثلين عن النظام السوري بداية بزيارة رئيس النظام السوري لدولة الإمارات، مروراً بزيارة وفد يضم ممثلين عن الحكومات العربية لإعلان التضامن وتقديم واجب التعزية بعد كارثة الزلزال، مروراً بزيارته الأخيرة للقاء سلطان عمان هيثم بن طارق، زاد شك كثيرين بأن وراء الأكمة ما وراءها.
على الرغم من التحركات الكثيفة من أجل إعادة سوريا لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية لكنهم تأخروا في إعلان ذلك رسمياً، وبقي في إطار الشائعات التي من هدفها جس نبض الشارع العربي ومحاولات تهيئة الأجواء.
مع الوقت أصبح الأمر عادياً ولم يعد يسبب ردات فعل عنيفة من الرافضين، وربما بات أمراً مسلماً به وسط الوقائع المحيطة بالحدث السوري، وربما سيتحقق التحول السياسي المنشود بالتدرج بعد أن ابتلع السوريون الصدمة بعد أول زيارة دولية.
لقد أثبت النظام السوري أنه يستطيع أن يرقص على آلام السوريين حتى آخر لحظة، كما استفادت الدول الراعية من فاجعة السوريين بحدوث الزلزال وحجة أولوية الأوضاع الإنسانية الحالية وضرورة التعاون لتسهيل وصول المساعدات للمتضررين، فمهدوا للأسد طريقاً للتسلق على فجائع السوريين واحدة تلو الأخرى من دون أدنى شعور بالذنب.
التسوية السياسية التي يزعمون أنهم يتوقون لتحقيقها من أجل مصلحة السوريين، لم تكن سوى إعادة تأهيل واضحة لنظام ارتكب من الجرائم بحق شعبه أكثر مما ارتكب بهم أعداؤهم جميعاً
من قال إن السياسة فن الممكن، من كان يتخيل أن ما يحدث اليوم قد يصبح ممكناً في يوم من الأيام؟!
فالأحداث اليوم لا يمكن وصفها إلا بأنها ما لم يكن في حسبان عاقل أن يتخيلها، وما أطلقوا عليه بأنه فن الممكن صار واقعاً بفرض القوة وبأساليب احتيالية تفضح كذب العالم المستمر على السوريين، فالتسوية السياسية التي يزعمون أنهم يتوقون لتحقيقها من أجل مصلحة السوريين، لم تكن سوى إعادة تأهيل واضحة لنظام ارتكب من الجرائم بحق شعبه أكثر مما ارتكب بهم أعداؤهم جميعاً، لكنه بقي متشبثاً بعرش ورثه عن والده معتبراً أنه بات حقاً مكتسباً ليس من حق أحد أن ينازعه فيه.
مبررات كثيرة قد يسوقها الداعمون لتثبيت قواعد النظام السوري من جديد، منها الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة أو إعادة توحيد الجغرافيا التي أصبحت ممزقة للحفاظ على وحدة سوريا أو عدم وجود بديل حقيقي يستطيع ملء الفراغ السياسي، أو بهدف حل أزمة اللاجئين، إلا أنها لا يمكن أن تكون سبباً حقيقياً ومقنعاً لجعل الأسد يبدو منتصراً في حربه ضد السوريين.
ربما يفكرون بمنح المعارضة جوائز ترضية ليشاركوا في حكومة يترأسها النظام، وربما سيحاولون خجلين دفع ملف عودة المهجرين كجزء من الحل، لكن ذلك لن يكون سوى إضافة جديدة في مسلسل التطبيع بالتدرج، ولن يعود بالفائدة إلا على النظام الذي لم يتوانَ عن القتل والتهجير ولم يجد من يردعه بل جلب من يعينه.
بالسياسة الممكنة التي لعبها النظام السوري _إذا افترضنا أنه قادرٌ وحده على ذلك ولم يكن مستنداً إلى دعم مستتر_، يبدو أن العالم يلعب ورقة جديدة مدعياً فيها حسن النوايا تجاه السوريين، لكن تعويم الأسد لن تكون تبعاته أن يستمر بابتلاع البلاد مثلما اعتاد منذ عقود فحسب، إنما يعني إفلاته التام من العقاب هو وأعوانه ممن أجرموا بحق السوريين، وإغلاق أي باب لتقديمهم للمحاكمات فيما بعد، وربما يتجاوز ذلك ليثبت صدق ادعائه بأنه كان الرئيس الذي أنقذ سوريا من الإرهاب، وتمتع بالقوة إلى درجة منحه العفو عن أعدائه، وتحقيق المصالحة المجتمعية بين السوريين وتضميد جراحهم وإعادة بناء الدولة التي لا يوجد من يقر بأنه كان سبب انهيارها.