لا يمكن لأحد "ربما" أن يعبر عن مدى سعادته وفرحته وهو يشاهد حملات التبرع الفلسطينية تنهال بلا توقف لجمع الأموال وإرسالها إلى الشمال السوري وإغاثة المهجرين في خيمهم المتهالكة، وقد أنهكتهم برودة الطقس القارس، وتخاذل المنظمات الدولية والأممية عن إنجادهم وإغاثتهم، كما يمكن لصاحب هذه السطور أن يفعل، وهو المتمتع بكلتا الجنسيتين "شاء أم أبى" وهما: الفلسطينية السورية.
لعل مظهر التضامن الشعبي، وهو تضامن قل نظيره في العالم العربي بين شعبين، هما السوري والفلسطيني، يثير من الشجون لدي، ويسترجع من الذكريات التي رواها لي جدي إبان تهجيره من مدينته "صفد" عام 1948، وكيف استقبلت أسرتنا الكبيرة القادمة على أرجلها عابرة الحدود من فلسطين إلى لبنان، ثم مستقلة وسائط النقل إلى دمشق وحلب، لينتهي المطاف بمعظمها في دمشق، بحكم شبهها بمدينتي صفد، في حين استقر المقام بجدي في مدينة حلب، عاصمة الشمال السوري، وكأنه يلحظ الشبه الجغرافي والدور التاريخي بينها وبين مدينته في فلسطين "صفد" عروس الشمال الفلسطيني.
لم تغب عن ذكرياتي كطفل كيف روى لي جدي تضامن الشعب السوري مع شقيقه الفلسطيني إبان نكبة فلسطين، وكيف فتح له أبواب منازله مستقبلا آلاف المهجرين من أرضهم، وأغاثوه بما وسعت به الحال حينذاك من خيم ومنازل وملابس وغيرها من لوازم أي أسرة خرجت من أرضها حينذاك بالثياب التي ترتديها، حتى طاب له المقام في سوريا وحلب تحديدا، وقرر الارتباط بزوجة سورية وإنشاء أسرته في ربوع سوريا التي كان يعتبرها وطنا آخر ومؤقتا له إلى حين العودة إلى مدينته ومعشوقته "صفد". تلاه والدي "رحمهما الله تعالى" ليعيد التاريخ نفسه بتفاصيل تكاد تكون متفهمة، وهو المولود لأم سورية وأب فلسطيني، ليمنحني وإخوتي ذات الوصف، ونكون في سوريا بهوية مزدوجة "سورية فلسطينية" أو "فلسطينية سورية" لا فرق.
تأتي حملات التبرع الفلسطينية وشغف أهلنا في فلسطين لإغاثة إخوته من المهجرين في سوريا، بعد أيام قلائل من زيارة أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب "سيئ الذكر" والمعروف بخلفيته الأمنية والتنسيقية مع الاحتلال إلى دمشق، عندما التقى بشار الأسد ومسؤولي النظام وصدح حينذاك بلا خجل: إن من المعيب على العرب بقاء سوريا خارج الجامعة العربية! لتشاء الأقدار لي أن "أنفّس" عن غضبي وأعد حلقة كاملة عن أبعاد زيارته وآثارها ومآلاته على العلاقات بين الشعبين السوري والفلسطيني، لأنطلق في إعدادي للحلقة على شاشة تلفزيون سوريا ذاتها، من زاوية الهوية المزدوجة "والتي أعتبرها نعمة قل نظيرها" وهي كوني فلسطينيا سوريا، لأب فلسطيني وأم سورية.
تبارت المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية في إطلاق حملات التبرع، ولا يكاد يمضي يوم دون أن تظهر حملة جديدة تتنافس فيها قرية أو بلدة صغيرة مع شقيقاتها في الداخل الفلسطيني لجمع التبرعات وإرسالها، وتحول واجب إغاثة المهجرين في سوريا إلى نداء وطني وديني وعروبي
لم يكتف الرجوب حينذاك بالتماهي مع مجرم قتل شعبه وهجره ونكل به، وشابه في أفعاله الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة فحسب، بل تحول إلى "بوق" إعلامي للمناداة بإعادته إلى الحظيرة العربية، لحسابات سياسية معروفة، متناسيا أثر ذلك على العلاقات بين الشعبين اللذين يعدان من أكثر الشعوب العربية قربا وتضامنا عبر التاريخ، ولم يعرف التاريخ تقاربا مثيلا للشعبين الفلسطيني والسوري من دون مبالغة.
ما يثير الانتباه والاهتمام والإعجاب في الوقت عينه، كون معظم الحملات الفلسطينية قادمة من مدن في الداخل الفلسطيني لم تحد عن ولائها لأمتها وإخوتها على الرغم من كونهم أقلية ضمن بحر من المستوطنين، والقبضة الأمنية الإسرائيلية أكثر ما تكون مشددة عليهم دون سواهم من بقية المناطق الفلسطينية كغزة والضفة الغربية، وكأن الرسالة واضحة وعالية: نحن إخوتكم ومعكم أيها السوريون! وشعارنا واحد: الموت ولا المذلة!
الأمر الآخر اللافت للاهتمام، مجيء بعض الحملات الفلسطينية من مخيمات الداخل التي تعاني الأمرين في مواجهة الاحتلال، كمخيم شعفاط المقدسي، فأي أموال للتبرعات أزكى من أموال لاجئ فلسطيني صامد على أرضه ولو في خيمة بمخيم على أطراف القدس المحتلة، يرسلها لمهجر مثله في سوريا، وهو يدرك تماما حجم ألم الفراق عن الأهل والغربة عن الوطن مثله؟
لقد تبارت المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية في إطلاق حملات التبرع، ولا يكاد يمضي يوم دون أن تظهر حملة جديدة تتنافس فيها قرية أو بلدة صغيرة مع شقيقاتها في الداخل الفلسطيني لجمع التبرعات وإرسالها، وتحول واجب إغاثة المهجرين في سوريا إلى نداء وطني وديني وعروبي يسعى الكل مهما كان توجهه السياسي أو الديني للقيام به، فكما تهفو قلوب العرب والمسلمين إلى فلسطين لنجدتها، تهفو قلوب الفلسطينيين إلى سوريا اليوم لإغاثتها، وأكرم بها من لهفة تغرم بها القلوب!