icon
التغطية الحية

بين الحياد الأدبي وانحيازه في الثورة السورية.. رواية "نزوح مريم" أنموذجاً

2021.10.22 | 10:17 دمشق

nzwh_mrym-_tlfzywn_swrya.png
محمد أسد الخليل
+A
حجم الخط
-A

الحياد في حضرة الوطن خيانة، قد يكون الحياد مقبولاً ومبرّراً في قضايا جزئيّة أو في مواقف وأحداث سياسيّة تحتمل التأويل محدثة آراء ومواقف قد تكون مختلفة ومتباينة إلى حدّ التعارض، قد يكون الحياد مقبولاً من مواطن عاديّ من عوامّ الناس حجبه الجهل أو بعده المكان عن رؤية الواقع والحقيقة، أمّا أن يتخذ الأديب أو الكاتب السوريّ موقفاً حياديّاً حيال قضيّة كبرى كالثورة السوريّة التي أحدثت انقسامات كبرى على مستوى الأفراد وحتّى الدول فهذا موقف عليه عشرات إشارات الاستفهام، وليس من المنطق أن يصدر عن أديب أو مفكّر يعتبر مرآة مجتمعه الفكريّة والثقافيّة.

الأدب مرآة تصوّر الواقع وتعكسه بصدق، والأديب ابن بيئته؛ فهو يصوّر ويرصد ويحلّل ويعاين الأزمات والأحداث والثورات والحروب التي تواجه بلده ومجتمعه، انطلاقاً ممّا تقدّم فالحياديّة والهروب من الواقع إلى الخيال يجعل العمل الأدبيّ يفتقر للمصداقيّة والشفافيّة.

قد يقول قائل وهل من الواجب والمنطق أن يُجمع جميع أبناء البلد على موقف واحد حيال القضايا الكبرى التي تعصف بالبلد؟ الجواب: بالتأكيد لا. فلا يوجد بلد على وجه البسيطة بلد يُجمع أبناؤه على موقف ورأي واحد من القضايا الكبرى، فنحن لا نعيش في مدينة فاضلة، وبالتالي من المفترض والمنطق أن يكون للجميع أفراداً وأحزاباً أو جماعات موقف واضح وصريح تجاه القضايا المصيريّة الكبرى.

وسوريا شأنها شأن العديد من البلدان التي شهدت حروباً وثورات انقسم المجتمع فيها إلى ثلاثة أقسام أساسيّة: مؤيّد للثورة ومدافع عنها، ومؤيّد للنظام وسياساته ضدّ الثورة، وحياديّ يظنّ نفسه أكثر عقلانيّة ويطلب من الناس أن يقفوا على الحياد كونه الخيار الأمثل.

هذا ولمّا كان الأديب والكاتب السوريّ جزءاً من المجتمع فمن الطبيعيّ أن يكون له موقف سياسيّ واضح ممّا يجري في بلده ويترجم هذا الموقف عملاً أدبيّاً يبثّ من خلاله أفكاره ورؤاه وتطلّعاته.

الكثير من الأدباء والمفكّرين والإعلاميّين وقفوا إلى جانب النظام وبرّروا إجرامه ودافعوا عنه وتبنّوا أفكاره من خلال أعمالهم وكتاباتهم، متحمّلين النتائج والتبعات، وبالمقابل هناك قسم آخر من الأدباء وأصحاب الفكر انحاز للثورة وتبنّى مواقفها ودافع عنها وعن مكتسباتها وتحمّل كذلك النتائج والتبعات الناجمة عن ذلك الموقف، وبقي القسم الثالث منهم في الوسط ينتظر ميل الكفّة متخذاً موقف الحياد من حيث الشكل، وكأنّهم تجّار لا يريدون أن تتأثّر تجارتهم جرّاء الموقف السياسيّ الذي يتخذونه.

الرواية، والتي هي نتاجات وانعكاسات الثورة السوريّة أو الحرب السوريّة كما يروق للبعض تسميتها جسّدت موقف الحياد الأدبيّ الذي اتخذه البعض.

الكاتب والناقد الفلسطيني- السوري محمود أبو حامد، يطرح عبر إحدى مقالاته في موقع تلفزيون سوريا، أمثلة عديدة عن روايات صدرت خلال العقد الأخير ليسلط الضوء من خلالها على الحالة التي نحن بصددها. فيشير أبو حامد إلى رواية "مديح الكراهية" لـ خالد خليفة التي يتنبّأ فيها الأخير بوقوع الحرب في سوريا وقيل إنّها تحكي أحداث الثورة السوريّة بكلّ تفصيلاتها وبالتحديد كما جرى في عام 2013 محمّلاً تصريحاً أو تلميحاً كلّ الأطراف في سوريا مسؤوليّة الصراع الدائر.

ومن خلال تناول "أبو حامد" لروايات "أوراق برلين" لنهاد سيريس و"تانغو الغرام" لشادية الأتاسي و"قومي يا مريم" لرباب هلال، نستخلص أن تلك الروايات تناولت الأحداث السوريّة -كما يبدو- بأسلوب رماديّ غامض مغلّف بحياديّة مفضوحة حاولت أن تحمّل جميع الأطراف مسؤوليّة ما جرى ويجري، حياديّة تأبى الكثير من الكلمات والعبارات والمصطلحات إلّا أن تعبّر عن انحياز لطرف دون آخر.

"نزوح مريم"    

رواية "نزوح مريم" للكاتب السوريّ محمود حسن الجاسم والتي صدرت لأوّل مرّة عام 2015 عن دار التنوير للطباعة والنشر ودخلت القائمة الطويلة للرواية العربيّة لعام 2016 "جائزة بوكر العربيّة"، حاول فيها الكاتب أن يقدّم لنا أنموذجاً من الأدب المحايد إن صحّت تسميته بذلك، إلّا أنّ الكثير من العبارات والمصطلحات والكلمات التي وردت في الرواية تؤكّد أنّ الكاتب لم يكن حياديّاً بالمطلق، وإنّما كان منحازاً للنظام الحاكم.

حاول الكاتب من خلال سرد الأحداث أن يرسم لنا صورة سوريا ماقبل الحرب وما بعدها، ولكنّه لم يفصّل في تصوير المراحل التي مرّت بها سورية عموماً ومدينة الرقّة بشكل خاصّ.

ولأنّ الرواية أشبه ما تكون بعمل توثيقيّ كان لابدّ من الإشارة إلى أنّ مرحلة بدايات الثورة في مدينة الرقّة تختلف كلّيّاً عن مرحلة سيطرة داعش على تلك المدينة فيما بعد.

الرواية تحكي مأساة عائلة سوريّة كانت تعيش في مدينة الرقّة السوريّة عايشت أحداث الثورة السوريّة فيها بين عامي 2012 و2014 عائلة عانت آلام الفقد والخوف والنزوح.

العائلة مكوّنة من الأمّ المسيحيّة ابنة مدينة محردة "سارة طوني جبّور" التي جمعتها قصّة حبّ شيّقة واستثنائيّة بزوجها المسلم ابن مدينة الرقّة المهندس "هاشم سعيد الحسين" الذي كان يعمل مديراً لمزرعة النجاة الواقعة بين مدينتي حلب والرقّة، تلك المزرعة التي حلّت عليها سارة معلّمة للغة الإنكليزيّة في مدرستها عام 2004 ثمّ تكون ابنتها مريم والتي يتصدّر اسمها غلاف الرواية ثمرة قصّة الحبّ تلك.

يروي الكاتب أحداث الرواية على لسان بطلتها سارة والتي بدورها تروي لابنتها مريم أحداث الثورة ومعاناة عائلتها من بدايات اندلاعها متسلسلة في تطوّر الأحداث وتسارعها، تلك الأحداث التي أجبرت سارة على النزوح برفقة مريم إلى بلدتها محردة بعد اعتقال زوجها هاشم من قبل الثوّار أو المسلّحين كما تسمّيهم سارة، وكذلك بعد اختفاء بشير شقيق زوجها، بشير البعثيّ العتيق وأمين شعبة لحزب البعث، وكذلك موت والدة زوجها خديجة.

لم تكن الأوضاع في مدينة محردة الخاضعة لسيطرة النظام والتي نزحت إليها سارة بأفضل من تلك الأوضاع التي عايشتها في مدينة الرقّة المحرّرة بل كانت أكثر سوءاً بعد وفاة والدها، الأمر الذي جعل الحياة في عينها أكثر قتامة وجعلها تفكّر بالهجرة خارج سوريا سالكة طريق دمشق إلى لبنان ثمّ إلى تركيا، وبعد محاولة فاشلة مليئة بالمخاطر عبر قوارب الموت لم تنجح سارة وبرفقة مريم بالهجرة إلى أوروبّا لينتهي بها المطاف في مخيّمات النزوح في تركيا، ثمّ تموت سارة بعد معاناة مع المرض تاركة مريم التي التقت مع والدها  الهارب من سجون تنظيم "الدولة" في مشهد يمتزج فيه الحزن بالفرح والأمل بالتشاؤم.

ولأنّ أغلب أحداث الرواية مليئة بالألم والمعاناة والخوف والرعب فقد كان الكاتب بين الفينة والأخرى يعود بالقارئ إلى عام 2004 ليسرد أحداث قصّة الحبّ والعشق المفعمة بالأمل والسعادة التي جمعت سارة بزوجها هاشم، وكأنّه بذلك يجعل القارئ يستريح قليلاّ مستمتعاً بأحاديث العشق والغرام ليتابع في سرد أحداث النزوح المؤلمة ثانية.

إنّ الغائص بين سطور الرواية والمدقّق في عباراتها والمصطلحات الواردة فيها يدرك أنّ الكاتب لم يكن حياديّاً كما يفترض أن تكون الحياديّة وإنّما يلمس وبشكل واضح انحياز الكاتب للجلّاد

حاول الكاتب جاهداّ أن يكون حياديّاً حيال أحداث الثورة محمّلاً النظام والثوّار مسؤوليّة الصراع وتطوّر الأحداث؛ ففي الصفحة الأولى من الرواية تطالعنا الجُمل التالية:

"هذه الرواية من خيال الكاتب، وأيّ تشابه بين عالمها وعالم الواقع من أشخاص أو أحداث أو أماكن، فإنّما هو من قبيل المصادفة وبعيد عن القصّة".

السؤال الذي يخطر بالبال وبإلحاح: ما الذي يجعل كاتباً سوريّاً يهرب من الواقع ليكتب رواية متخيّلة بأشخاصها وأماكنها وأحداثها على حدّ قوله مع العلم بأنّ هناك الآلاف وربّما مئات الآلاف من القصص الواقعيّة والحقيقيّة عايشها أغلب السوريّين في ظلّ الثورة؟

إنّ الغائص بين سطور الرواية والمدقّق في عباراتها والمصطلحات الواردة فيها يدرك أنّ الكاتب لم يكن حياديّاً كما يفترض أن تكون الحياديّة وإنّما يلمس وبشكل واضح انحياز الكاتب للجلّاد وتحميل الجزء الأكبر من المسؤوليّة على عاتق الضحيّة.

لماذا "مريم"؟

استعان الكاتب بمصطلح غربيّ وهو "التناص"، أي استلهام فكرة ما وإسقاطها على الواقع المعاش، فكما أنّ مريم في النصّ القرآنيّ قد نزحت وتركت أهلها واتخذت مكاناً بعيداً نجد تطبيق الفكرة ذاتها في الرواية؛ فـ (مريم ووالدتها سارة) اتخذتا مكاناً خارج بلدهما الأصليّ سوريا.

لماذا مريم؟ لأنّ الكاتب -على ما يبدو- أراد أن يوحي بأنّ الصراع في سوريا هو صراع دينيّ وطائفيّ ومذهبيّ.

"جائحة المظاهرات"

في الفصل الأوّل من الرواية وتحت عنوان "عود الخيزران" يسرد الكاتب بدايات المظاهرات والحراك الثوريّ في مدينة الرقّة فيقول وعلى لسان بطلة الرواية سارة: "وجائحة الاحتجاجات والتظاهرات انتشرت في الهواء كالطاعون". ثم: "البلاء وصل إلى الرقّة .."!

والجائحة لغةً: المصيبة التي تحلّ بالرجل في ماله فتجتاحه كلّه.

ولذا فإنّ وصف المظاهرات والاحتجاجات بالجائحة والبلاء لا يمكن أن يصدر عن كاتب محايد وإنّما هو تعبير واضح عن عدم تأييد الكاتب للثورة، بل هو تبنّ لموقف النظام المعادي للثورة، وصفٌ لا يمكن أن يتماهى مع أدنى مواصفات الحياديّة الأدبيّة.

"الوحوش الهائجة"   

تتابع بطلة الرواية سرد أحداث الثورة في أحياء مدينة الرقّة وتصوّر مظاهراتها معبّرة عن خوف ورعب شديدين وهي ترى إحدى المظاهرات السلميّة لشبّان يهتفون للحريّة ووحدة الشعب السوريّ فتصف هؤلاء المتظاهرين بقولها: "يصرخون كالوحوش الهائجة واحد واحد واحد الشعب السوريّ واحد.... رقّاويّة واحنا قدّا هذا الصنم بدنا نهدّه"ص30

ماذا بقي من الحياديّة عندما أصف متظاهرين سلميّين يردّدون هتافات تؤكّد على وحدة الشعب بالوحوش الهائجة؟

"التكبير الدمويّ"

المتابع لأحداث الثورة السوريّة ومراحلها يدرك بأنّ هناك عدة جهات ذات توجّهات دينيّة متعدّدة ومتشدّدة قد ركبت موجة الثورة في البداية ثمّ حاربتها في مراحل لاحقة؛ إلّا أنّ مؤيّدي النظام كانوا يصرّون على إلصاق تهمة التطرّف الدينيّ بالثورة السوريّة.

التكبير الدمويّ قامت به جماعات متطرّفة في مراحل لاحقة عانى منه الثوّار قبل غيرهم، تكبير استخدمه الشعب الثائر بحكم غالبيّته المسلمة ولكنّ كاتب الرواية لم يميّز بين هذا وذاك فيتحدّث عن الثوّار المرابطين على تخوم مدينة محردة  فيقول:

"تأتي الأخبار من ريف حماة، أخبار سيّئة تفرّخ شائعات مرعبة، أصحاب التكبير الدمويّ يحاصرونني، ينخر ضجيجهم كالداء في جسدي ويبعثر قواي"ص183

"وجهة نظر"

"لم أكن مقتنعة بوجهة نظر الطرفين، أتفاءل بالخلاص .."ص 51

بهذه العبارة أراد الكاتب أن يجسّد لنا صورة من صور الحياديّة الأدبيّة. قد يكون مصطلح "وجهة نظر" صالحاً للحديث عن فكرة الثورة كفكرة قبل انطلاقها، ولكن هل يصحّ أن نعتبر قصف النظام بالصواريخ لمدن وأحياء كاملة وقتل الآلاف من البشر وجهة نظر تقبل المحاكمة العقليّة قد نقتنع بها أو نرفضها؟

أليس من السخف وصف ما جرى وما وقع من جرائم بحقّ الشعب السوريّ الثائر بأنّه مجرّد تعارض بين وجهتي نظر مختلفتين؟

"الجلّاد والضحيّة"

عندما نتحدّث عن نظام يمتلك طائرات وصورايخ وبراميل يقابله شعب يدفع القتل عن نفسه بأسلحة بسيطة أجبر على حملها لا يمكن الحديث هنا عن جرائم متبادلة يتساوى فيها الجلّاد والضحيّة.

الكاتب في نزوح مريم ساوى بين الجلّاد والضحيّة من خلال وضعهم في سلّة واحدة هي سلّة القتَلة:

"يا مريم في واقع الحروب يصبح القتل مشروعاً والقتلة في نظر جماعتهم يوصفون بالأبطال، وللأسف كلّ فريق يعتزّ بوجود مثل هؤلاء في صفّه، وإذا قتل أحدهم يتحوّل إلى شهيد تقام له الاحتفالات ويُدوّن اسمه بين الأبطال الشهداء، كلّ فريق يعتبر أنّه ينفّذ حكم الله، والنتيجة فتن وذبح، هذا هو الواقع يا بنتي" ص169

كاتب "نزوح مريم"

محمود حسن الجاسم، كاتب وروائيّ وأستاذ جامعيّ سوريّ من مواليد 1966. عمل أستاذاً جامعيّاً في كلّيّة الآداب والعلم الإنسانيّة في جامعة حلب.

التحق عام 2012 للعمل في كلّيّة الآداب والعلوم في جامعة قطر. له العديد من المؤلّفات الأكاديميّة والروائيّة من بينها: "غفرانك يا أمّي" 2014 "نظرات لا تعرف الحياء" 2015 "نزوح مريم 2015.

حصل على الماجستير في النحو والصرف بعنوان: "التأويل النحويّ حتّى نهاية القرن الثالث الهجريّ" من جامعة حلب عام 1990.