لم تتغير الاستراتيجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء دولة إسرائيل وزرعها كمشروع غربي متقدم في قلب المنطقة، والهدف هو توفير الحماية له. ترتكز الاستراتيجية على أن هذه المنطقة يجب أن تبقى قائمة على أربع صفائح متوازنة مع ترك هامش تفوقي ومتقدم لإسرائيل، وهي الصفيحة الأولى، أما الصفيحة الثانية فهي تركيا، والثالثة إيران فيما الرابعة هي العالم العربي والذي كان في مرحلة الخمسينيات والستينيات تنافسياً بين مصر من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، وسط استقطاب مضاد بين الجانبين للدول العربية الأخرى. تجد واشنطن أن مصلحتها الاستراتيجية هي في إبقاء هذه الصفائح متوازنة فلا تتغلب إحداها على الأخرى وإن كانت الاهتزازات قائمة ومستمرة. لأن أي اختلال بميزان قوى الصفائح سيضر بالمصلحة الأميركية البعيدة المدى ضمن لعبة الإدارة الأميركية للحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، أو ضمن لعبتها في إدارة النظام العالمي بعد سقوطه.
لذلك وعلى الرغم من تغير في الأنظمة أو طبيعتها أو وجهاتها لا تزال الاستراتيجية الأميركية هي نفسها، فتحفظ الرعاية لإسرائيل التي توفر تفوقها، وتتصاعد حيناً أو تنخفض أحياناً مع الصفائح الأخرى. والأهم أن كل صفيحة من هذه الصفائح لها ما يشغلها من الداخل إما بصراعات سياسية أو بأزمات اقتصادية وعقوبات، كما أن هذه الصفائح الأربع والتي تبحث عن مشاريع أكبر لتوسيع نفوذها تبقى في حالة تنافس وتصارع مع بعضها بعضا، وهذا مشهود أيضاً وسط سياسة أميركية جلية منذ اجتياح العراق والانكفاء في سوريا ما عزز دور إيران ونفوذها وصولاً إلى اليمن.
طهران في الأساس تضع نفسها في الوسط، على طريق التفاوض الدائم مع أميركا، وذات علاقة استراتيجية مع الصين وروسيا والانخراط إلى جانب موسكو في حرب أوكرانيا
تمنع واشنطن أي طرف من الانتصار على الآخر وأن تعزز دوره أو حضوره، وتبقى له مشكلات كثيرة تشغله. فيما لا يخفي الأطراف الأربعة السعي إلى انتزاع حظوة أكبر من واشنطن، كما تحاول أن تفعل إيران دوماً من خلال حلفائها في المنطقة وهو ما يجري حالياً على وقع الحرب على قطاع غزة وتحريك الجبهات الأخرى. واللافت أن كل هذه الأطراف تحاول استمالة أميركا من خلال الذهاب إلى تنويع خياراتها باتجاه الصين وروسيا تعبيراً عن غضب من السياسة الأميركية، ولعل ذلك يدفع واشنطن إلى إعطاء المزيد من المكاسب. إسرائيل قامت بذلك مع الصين ومن خلال الدخول في مباحثات حول شراكة استراتيجية بمشروع الحزام والطريق، جاء ذلك بعد ذهاب أميركا إلى اتفاق نووي مع طهران وعدم الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الإسرائيلية.
طهران في الأساس تضع نفسها في الوسط، على طريق التفاوض الدائم مع أميركا، وذات علاقة استراتيجية مع الصين وروسيا والانخراط إلى جانب موسكو في حرب أوكرانيا. المملكة العربية السعودية لجأت إلى تنويع الخيارات والتحالفات بعد الاتفاق النووي مع إيران وبعد تخلف أميركا عن الالتزام بمقتضيات التحالف إثر الضربات التي وجهها الحوثيون إلى منشآت أرامكو. تركيا العضو الأبرز في الناتو، تحفظ علاقاتها الروسية جيداً، في حين تحتفظ أميركا بعلاقة قوية مع الأكراد وتستمر بدعمهم أيضاً بكل ما يزعج أنقرة ويبقيها على قلق.
ما تريده إيران هو طريق معترف به وبنفوذها عليه إلى البحر الأبيض المتوسط مروراً بأربيل والموصل عبر سوريا وصولاً إلى لبنان
تؤشر هذه الأمثلة البسيطة على المسار الأميركي المعتمدة مع دول المنطقة، وكل واحدة منها حاولت الخروج عن كنف واشنطن تلقت ما يلزم من رسائل أو ضرب تحت الحزام بما في ذلك إسرائيل التي تخوض حرباً تعتبرها وجودية بعد عملية طوفان الأقصى، ولم تجد إلى جانبها لا الصين ولا روسيا بل أميركا وحدها. في المقابل تسعى إيران إلى توسيع إطار الجبهات بدون الذهاب إلى حرب، لعلها تصل الى اتفاق شامل وكبير مع اميركا. ولذلك رفع الإيرانيون قبل فترة شعاراً أبلغوه للأميركيين إما حرب كبرى أو تسوية كبرى وشاملة. يعرف الإيرانيون أن أميركا لا تريد الحرب، فسعوا إلى توسيع هامش تحركاتهم مع حلفائهم إلى البحر الأحمر لتوسيع تطاق التسوية الشاملة.
ما تريده إيران هو طريق معترف به وبنفوذها عليه إلى البحر الأبيض المتوسط مروراً بأربيل والموصل عبر سوريا وصولاً إلى لبنان. وما تريده أيضاً ترسيخ نفوذها في المتوسط انطلاقاً من معيار نفوذها لبنانياً في مجالات ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط والغاز. وما تريده أيضاً هو الربط السياسي بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، لذلك نزل الحوثيون بثقلهم وهم على يقين بأن أميركا لا تريد الحرب، وهي التي منعت قوات التحالف العربي من خوض معركة الحديدة والسيطرة عليها، وهي من منحتهم هذا الدور. إثر هذه التحركات جاء ما كشفه السفير الإيراني في سوريا عن تلقي طهران لعرض أميركي حول التفاوض على اتفاق يشمل المنطقة برمتها.
إثر هذا العرض، وسعياً وراء توفير ظروف التفاوض وتجديدها بعد تعثرها في سلطنة عمان، ومع اشتداد المعارك في قطاع غزة. لجأت طهران إلى توسيع هامش هجماتها وهذه المرة دخلت بشكل مباشر عبر استهداف أربيل وباكستان وهي تعلم أن أميركا لا تريد الحرب، إنما ستستخدم هذا التحرك الإيراني للضغط على إسرائيل والانتقال إلى مرحلة ثالثة من الحرب على غزة والبحث عن اليوم التالي لتجنب حرب إقليمية أصبحت تطل برأسها بفعل الهجمات الإيرانية. ما تريده طهران هو الحصول على اعتراف بنفوذها في العراق، وسوريا، ولبنان واليمن، ومنع أي حل للقضية الفلسطينية في حال سيكون موجوداً بدونها، والأهم أنها تسعى للبحث عن ضمانات اقتصادية وسياسية في دول ترسيخ النفوذ لتجنب الانهيارات والانفجارات بوجهها. كان الله بعون غزة.