في بدايات التدخلات الإيرانية في المنطقة، وقبل أن يتأسس فيلق القدس، الذي أنيطت به العمليات الخارجية الإيرانية، وَشَت كثير من التحركات، بأن هناك نواة مشروع للتدخّل في دول المحيط.
حينها، ناقش بعض المهتمين الأمر دون الشعور بأية مخاطر محدقة، خصوصاً بعد بدء الحرب العراقية الإيرانية. لكن ما إن انتهت الحرب، حتى بدأ الجميع يتلمّس الخطر بشكل جدّي. أدرك الكثيرون أن إيران الفارسية في عهد الشاه، التي اكتفت بدور إقليمي رسمه الغرب، والتزمت به، قد انتهت. وأن إيران الشيعية التي ألهتها الحرب عن برامجها الإقليمية إلى حدٍّ ما، قد باشرت دوراً جديداً، على الجميع أخذه بالحسبان.
تابعتُ في الفترة الأخيرة سلسلةً ينشرها الموقع الرسمي لمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية، حول تاريخ فيلق القدس، بصفته القوة الإيرانية لنظام الملالي لترجمة أحلام السيطرة على أرض الواقع. وجدتُ معلومات تفصيلية عن العمليات التي نفذها الفيلق في عموم المنطقة. من لبنان إلى العراق ودول الخليج العربي، وصولاً إلى تركيا وباكستان. عمليات اغتيال وتفجيرات، اختطاف وتعذيب، وصولاً إلى اعتماد وكلاء في معظم تلك البلدان، ودعمهم بالمال والتدريب والسلاح. مع خطط للعمل في معظم بلدان الإقليم.
كان لدى الحرس الثوري، حتى قبل تأسيس فيلق القدس مطلع التسعينيات، مخططات وأشخاص مسؤولون عن متابعة معظم الدول المجاورة، مع محاولة تحديد للجماعات المعارضة التي يمكن التعامل معها، وخطط لتأسيس جماعات موالية اعتماداً على تغذية الولاء الطائفي.
تصوروا، كانت هناك خطط للجزائر ومصر والسودان وكامل دول الخليج تقريباً، وللعراق ولبنان! وحدها سوريا لم يظهر اسمها بين تلك الدول! لم يكن صعب عليّ التخمين بأن وجود حافظ الأسد على رأس السلطة، وهو من دعم إيران خلال حربها مع العراق، كان كافياً بدون أية خطط ليكون لإيران موطئ قدم مهم في سوريا.
لم يسعفني الوقت لأتأكد من صحة جميع المعلومات والتفاصيل الواردة في السلسلة، بسبب غزارتها وقد توزعت على 33 حلقة، آخرها نشر وأنا أكتب هذه المادة. وبالطبع تبقى هناك الخشية من المصداقية، عندما لا تأتي المعلومات من جهة بحثية محايدة، وإنما من طرف سياسي معارض، حتى لو كان ذا صدقية عالية. ولكن بالتأكيد كان هناك الكثير من الأحداث التي أعلم عنها بعض الشيء من قبل، وجاءت السلسلة لتزودني بالتفاصيل الدقيقة عنها.
الخميني وملاليه، قد خططوا منذ اليوم الأول لانتصار الثورة، وربما قبل ذلك، لمشاريع السيطرة على المنطقة.
من تلك الأحداث تفجيرات السفارة الأميركية ومقار القوات الفرنسية والأميركية في بيروت، والتي دأب الإيرانيون على إنكار دورهم المباشر فيها لأسباب قانونية، بينما لوحوا بها مراراً، لتأكيد قوتهم وقدرتهم على الوصول إلى أهدافهم، وإيلام أعدائهم. يقول محسن رفيق دوست وزير الحرس الثوري عام 1991 في تصريح لصحيفة "رسالت" الإيرانية الحكومية: "بنجاح الثورة الإيرانية في لبنان، تشعر أميركا بلكمتنا على جسدها الدنيء، وتعلم أن تلك المواد المتفجرة التي أرسلتْ أربعمئة ضابط وجندي ورتبة إلى الجحيم دفعة واحدة، ممزوجة بعقيدتنا".
أكثر ما شدَّ انتباهي هي تلك الاقتباسات التي حفلت بها السلسلة، نقلاً عن مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى، كانوا يعترفون خلالها بنوايا إيران للعب دور تستحقه في المنطقة، بحكم تاريخها العظيم، الذي يبيح لها، التحرك خارج الحدود. فلإيران الإسلامية، ومن منظور ديني، دور لا يجب أن تحده الحدود الجغرافية. وهذا ما يلقي على عاتقها نشر فكرة الثورة (الخمينية) إلى خارج البلاد.
في مقابلة مع صحيفة "رسالت" صيف عام 1989، يشرح علي لاريجاني بتكثيف ودون مواربة، فكرة الدور الإيراني: "المصدر الأول لاستراتيجيتنا القادمة، هو موقعنا في العالم الإسلامي. وهذا يعني أن الجمهورية لا ينبغي أن تكون محدودة بحدودها الجغرافية. ليست إيران مجرد واحدة من بين العديد من الدول الإسلامية. اليوم، نرى أن هناك ظلماً في تقسيم العالم إلى دول جغرافية. هل يجب أن نقبل هذه الحدود؟ لتجنب المشكلات، نعم نقبل. لكن مسؤوليتنا الإسلامية لن تزول. هذه المسؤولية تتجاوز الحدود".
كلمات لاريجاني، الذي لعب على الدوام أدواراً متقدمة في النظام، والتي جاءت قبل 35 عاماً، لا تترك مجالاً للشك بأن الخميني وملاليه، قد خططوا منذ اليوم الأول لانتصار الثورة، وربما قبل ذلك، لمشاريع السيطرة على المنطقة، تحت ظلال الدين والعقيدة. ونرى ذلك واضحاً عندما يختم لاريجاني فكرته بالقول "لدينا مكانة كبيرة. لا يمكن لأي دولة أن تقود العالم الإسلامي سوى إيران. إنها فرصتنا التاريخية".
لا بدَّ من التذكير به، ليكفَّ المخدوعون (والخادعون) عن رؤية إيران، ذات المشروع الإمبريالي، كنصير للمستضعفين، ومدافعة عن قضية فلسطين والفلسطينيين، وما إلى غير ذلك من هذا الهراء. أعتقد أنني سأعود للملف لاحقاً، فهو يستحقّ.
في شباط/فبراير 2022، بمناسبة الذكرى السنوية لتأسيس فيلق القدس، قدمت وكالة أنباء الجمهورية الإيرانية، نبذة عن تاريخ إنشائه. مما جاء فيها "لم يكن تشكيل فيلق القدس في أوائل التسعينيات التجربة الأولى لإنشاء منظمة تعمل خارج الحدود ضمن الحرس الثوري الإيراني، بل منذ بدايات انتصار الثورة الإسلامية، تم إنشاء وحدة "حركات التحرير" ضمن الحرس الثوري. كانت المسؤولة عن التواصل مع الحركات والجماعات المقاتلة في الدول الأخرى، بهدف دعم المضطهدين في العالم"!
لم يكن ما ذكرته الوكالة الإيرانية مستغرباً، ففي واقع الحال، بدأ العمل على تلك الملفات منذ الأيام الأولى لوصول خميني للسلطة. قبل أن يختلف مع السلطة ويُعزل من كامل مناصبه، ذكر الملا حسين منتظري نائب آية الله الخميني لصحيفة "بامداد" عام 1980، أنه أرسل رسالة للخميني جاء فيها "في هذه الأيام، يزورنا إخواننا العراقيون بشكل مستمر، ويطلبون قيادة خميني للثورة في العراق، كما قاد ثورة إيران"! طبعاً نتذكر أنه، خلال الحرب العراقية الإيرانية، حارب "فيلق بدر" الذي تشكَّل من المعارضة العراقية "الشيعية" بقيادة محمد باقر الحكيم، على الجبهات الإيرانية وفي ظل القيادة العسكرية الإيرانية.
قد يجد البعض أن هذا النوع من المرور على ذاك التاريخ أصبح نافلاً بعد أن تبين المشروع الإيراني، وأفصح عن نفسه في كل محطة. بالنسبة لي، كان لا بدَّ من التذكير به، ليكفَّ المخدوعون (والخادعون) عن رؤية إيران، ذات المشروع الإمبريالي، كنصير للمستضعفين، ومدافعة عن قضية فلسطين والفلسطينيين، وما إلى غير ذلك من هذا الهراء. أعتقد أنني سأعود للملف لاحقاً، فهو يستحقّ.