تقع قرية كاميني الصغيرة المنعزلة في مقاطعة كالابري جنوبي إيطاليا، ويقيم فيها نحو مئة مهاجر أتوا إليها خلال السنين الماضية، حيث يقيمون ويعملون فيها بفضل تعاونية أقامها أهالي تلك القرية. وبالمقابل فإن وجود المهاجرين في هذه القرية هو الشيء الذي ساعدها على استعادة نشاطها السابق.
قبل أربعين سنة، كانت ساحة قرية كاميني تضج بالحياة وممتلئة بالأهالي الذين كانوا يحبون أن يمضوا أوقاتهم وهم يتحاورون ويثرثرون في أحد بارات القرية الثلاثة. إلا أن القرية تغيرت كثيراً اليوم، إذ على الرغم من أن منظر التلال المشرفة على واد ممتلئ بأشجار الزيتون التي تصل إلى البحر بقي على حاله، إلا أن روح هذه القرية شابها كثير من الحزن. ففي أواخر أيلول، تصبح الشرفة القريبة من قاعة القرية خاوية تقريباً، وكذلك شوارع القرية وأزقتها، وأسفل تلك الشرفة تجد مجموعة من الكلاب الضالة وهي تعوي وتركض وسط أحد الأزقة.
خلال تسعينيات القرن الماضي، رحل معظم أهالي قرية كاميني عنها، ولم يتبق منهم اليوم سوى 800 نسمة يعيشون ضمن جزأين من هذه القرية، الجزء السفلي القريب من البحر والعلوي الذي يربض فوق التلة. وأهم شيء دفع أهالي تلك القرية نحو الهجرة هو قلة فرص العمل فيها، على الرغم من أن تلك القرية تسعى جاهدة لتحتفظ بمكانتها ضمن مجال السياحة، بما أن جمالها يسلب الألباب.
قرية كاميني التي تشرف على واد يضم أشجار زيتون تصل إلى البحر
لم تكن كاميني حالة استثنائية عندما تركها أهلها، لكنها أصبحت كذلك اليوم. حيث بسبب موقعها العالي المشرف على البحر، عادت تلك المدينة لنشاطها بشكل خجول خلال السنوات الماضية، إذ تم افتتاح مطعم وحيد فيها، أما مدرستها الابتدائية التي بقيت مؤلفة من صف واحد طوال عشرين سنة، فقد أصبح فيها أربعة صفوف اليوم، كما تم تركيب جهاز صراف آلي فيها في عام 2020 ما خلق حالة فرح وسعادة بين جميع أهاليها.
وحول ذلك يقول روزاريو زورزولو أحد أهالي القرية: "ارتبطت تلك التغيرات بالمهاجرين"، فقد تعين على ذلك الرجل الذي يبلغ من العمر اليوم 45 عاماً أن يترك قريته عندما كان في العشرينيات من عمره ليبحث عن عمل في مكان آخر. وبعد رجوعه إليها في عام 1999 عقب بضع سنوات أمضاها خارجها، أسس هذا الرجل تعاونية كاميني للتعاون الأوروبي برفقة غيره من أهلها، وكان هدفه منها منع أهلها من الهجرة بحثاً عن فرص اقتصادية في مكان آخر، وذلك عبر خلق فرص عمل داخلها. إلا أن الوضع لم يتغير بشكل فعلي إلا خلال عام 2016، عندما حصلت بلديتها على تعاقد لإقامة سلسلة مشاريع من قبل وزارة الداخلية، وهذه المشاريع تتعلق باستقبال المهاجرين. وقد اشترط أحد المشاريع على تعاونية كاميني حصولها على 35 يورو يومياً عن كل مهاجر وذلك لتغطية احتياجاته اليومية وسكنه.
واليوم، يعيش في هذه القرية نحو 150 مهاجرا أتوا من أفغانستان والمغرب وتونس وليبيا وجنوب السودان وباكستان وبنغلاديش ونيجيريا وسوريا، ما حوّل بلديتها إلى البلدية التي استقبلت أعلى نسبة من المهاجرين مقابل عدد السكان ضمن شبه الجزيرة الإيطالية. بيد أن وجود المهاجرين وحده في تلك القرية دفع لقيام حالة تضامن كبيرة من قبل المنظمات التي أخذت تضخ المال إلى خزينة القرية، وهكذا عملت تلك التعاونية على توظيف 18 لاجئا للعمل ضمن العديد من الورشات بعضها متخصص بصناعة الخزفيات، وأخرى بالنجارة، بالإضافة إلى ورشات الملابس والفنون.
روزاريو زورزولو أحد مؤسسي تعاونية كاميني وهو يحيي الجميع
وهكذا بوسعك أن تشاهد نساءً محجبات يسرن برفقة أطفالهن في شوارع تلك القرية، ويلقين التحية على العجائز الطليان الذين من عادتهم أن يجلسوا على عتبات بيوتهم. ولذلك يراقب روزاريو من يأتي ومن يذهب، فيحيي الجميع أو يربت على ظهره وهو يقول بكل فخر واعتزاز: "لقد خلقنا شكلاً من أشكال الاقتصاد الدائري، بما أن معظم الأشخاص الذين أقابلهم هنا موظفون لدي".
لاجئة سورية.. "أول عربية" في قرية كاميني
تصف أمل أحمد عقلة نفسها بأنها "أول عربية" في قرية كاميني، حيث وصلت هذه المرأة البالغة من العمر 43 عاماً وهي أم لخمسة أولاد في عام 2016 بعدما فرت من دمشق في عام 2013 وهربت إلى لبنان. وبعد ثلاث سنوات أمضتها في المعاناة لأنها بقيت بلا عمل هناك، تمكنت من الاستفادة من برنامج إعادة التوطين الذي تقدمه مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، لتبدأ حياة جديدة في إيطاليا، وتحديداً في قرية كاميني، وذلك بعدما خسرت شقيقها ووالدتها في حادثة تفجير واحدة وقعت في سوريا.
أمل أحمد عقلة وهي تغزل السجاد والحقائب على نول
تشرح أمل ما جرى فتقول: "كان الوضع صعباً في البداية، خاصة بسبب حاجز اللغة"، بعد ذلك، تعلمت الأمور الأساسية باللغة الإيطالية إلى جانب طريقة الغزل على النول، فصارت تغزل السجاد والحقائب في ورشة صغيرة أقيمت في أحد أزقة القرية الضيقة، ليباع ما تنتجه في متجر مجاور للورشة. إلا أنه من النادر أن يقف مشتر في ذلك المتجر، ومع ذلك تحصل أمل عقلة على نحو 500 يورو بالشهر وذلك من خلال تعاونية كاميني، فإلى جانب استفادتها من المعونة التي تقدمها الدولة الإيطالية، تتلقى تعاونية كاميني تبرعات تصلها من منظمات عديدة.
ويعلق روزاريو على ذلك بقوله: "إن الهدف من ذلك هو أن يمارس الناس نشاطاً معيناً، أي إنه علاج من خلال الفن".
تبدو أمل وكأنها في عالم آخر في أثناء غزلها على النول، فقد مضت ست سنوات على وصولها، لكنها ماتزال تحس بنفسها ضائعة وتائهة في تلك القرية الصغيرة المنعزلة، تقول: "الناس هنا لطفاء ويرحبون بنا، وعقليتهم تشبه عقلية العرب إذ تربطهم علاقة قوية بعائلاتهم ويعيش الكبار في السن مع أولادهم وأحفادهم... كما أنني لا أشعر بالقلق على ابنتي حال خروجها في المساء داخل هذه القرية، بل أحس بالأمان هنا، لكني مشتاقة لسوريا". تفكر هذه المرأة بمستقبلها هنا، داخل قرية لا يمكنها أن تقدم شيئاً لأولادها الذين تتراوح أعمارهم ما بين 9 إلى 21 عاماً، ولهذا تقول: "لا بد أن يتعين عليهم مغادرة القرية من أجل الدراسة، لذا فإن مصيري يتوقف على المكان الذي سيرحلون إليه، وذلك لأنهم يشتكون طوال الوقت في كاميني، ويشعرون بالضجر، إذ يتذمرون مثلاً من عدم ذهابنا إلى البحر كثيراً على الرغم من قربه منا، وذلك لأن الرحلة إلى هناك تستغرق منا وقتاً طويلاً بالحافلة".
وعلى مقربة من تلك الورشة، تقيم أسرة حاسيد بوكاري التي تنحدر من باكستان، والتي تدير متجراً في تلك القرية منذ عام 2019، حيث يقوم أهل ذلك الشاب البالغ من العمر 17 عاماً بتصنيع الإكسسوارات مثل الحقائب وأكياس الوسائد وعصابات الرأس وغيرها داخل غرفة صغيرة تعج بالبعوض.
متجر أسرة حاسيد بوكاري
يحكي لنا حاسيد بوكاري قصته فيقول: "نقيم هنا منذ سبع سنوات، إلا أننا لا نحس بالاستقرار"، فقد حاولت تلك الأسرة في بداية الأمر أن تبني حياة لنفسها في ليبيا قبل سقوط معمر القذافي. ولكن في عام 2014 قرروا ركوب قارب لعبور البحر المتوسط، وهنا يتابع بوكاري القصة بقوله: "يحب أهلي كاميني إلا أن مشكلتنا تكمن في المواصلات، وذلك لأن والديّ يجب أن يذهبا لمقر الولاية بشكل دوري حتى يجددا إقامتيهما، وعلي أن أصحبهما لأترجم لهما، بيد أن مقر الولاية يبعد كثيراً عنا، ولهذا يفوتني يوم دوام كامل في المدرسة في كل مرة أرافقهما"، ويخبرنا هذا الشاب الذي سيبلغ الثامنة عشرة في شهر كانون الأول المقبل بأن أول شيء سيفعله عندما يبلغ سن الرشد هو العثور على سيارة.
"سيصبح اسم رئيس البلدية محمد في يوم من الأيام"
يجلس رئيس البلدية بينو ألفارانو في ساحة القرية بعدما مشط شعره الأبيض الأملس ولبس سواراً في معصمه، ليحدثنا عن وجهة نظر أخرى، حيث يقول: "لقد منحت التعاونية الأمل وحياة جديدة للناس وخاصة الشباب منهم"، إذ من منظوره يرى بأن المهاجرين الوافدين إلى تلك القرية قد تركوا تأثيراً إيجابياً حتى إن اختلفت الحياة عما كانت عليه في السابق، ولهذا يضيف: "في السابق كان معظم من يجلس في هذه الساحة يتحدث اللغة نفسها، أما الآن، فهنالك أشخاص يجلسون فيها في بعض الأحيان دون أن يتحدثوا اللغة نفسها غالباً"، ويشرح لنا بأنه لا يتحدث العربية، لكنه يتدبر أمور التواصل مع العرب من خلال: "لغة الجسد".
رئيس البلدية بينو ألفارانو
وهنا يضيف روزاريو إلى ما قاله رئيس البلدية بالآتي: "لولا المهاجرون لما رأيتمونا هنا"، إذ يزعم بأن قريته تأثرت بقرية رياتشي القريبة التي تعتبر أمثولة ونموذجاً لاندماج المهاجرين، وذلك بعدما قام رئيس البلدية بفتح أبواب البيوت المهجورة لاستضافتهم.
أما بالنسبة لأي انتقاد يسمعونه، فلا يقيم هذان الرجلان أي وزن لكل ذلك، حيث يعلق بينو ألفارانو على ذلك بكل هدوء فيقول: "يقول البعض بأننا نقدم للمهاجرين أكثر مما نقدم للإيطاليين، إلا أن أغلب الإيطاليين لا يرغبون بالمشاركة والانخراط ضمن تلك الجالية أصلاً، ولهذا لا تقلقني فكرة ضياع ثقافتنا على أية حال، لأن عدد الإيطاليين سيفوق عدد المهاجرين على الدوام، ثم إن الشباب الذين أتوا إلى هنا يتعلمون لغتنا ويتعرفون على ثقافتنا من خلال المدرسة، ولكن من يدري، لعل رئيس البلدية الجديد سيكون منهم في يوم من الأيام، ولعل اسمه سيكون محمد، فما الضير في ذلك؟ بالتأكيد لا يعني ذلك شيئاً بالنسبة لي".
المصدر: Info Migrants