عندما أمر فلاديمير بوتين قواته بالتوغل في أوكرانيا في 24 شباط 2022، لم تكن تلك ضربة مسبقة لطموحات كييف البعيدة بالوصول إلى حلف شمال الأطلسي، كما لم يكن يهدف من خلال ذلك لتبوؤ موقع في التاريخ إلى جانب بطرس الأكبر، بل أتى كل ذلك ليتجنب مصير الرئيس البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكو.
فقد وصل كل من بوتين ولوكاشينكو إلى السلطة بعد الفوز بانتخابات وصفت بأنها حرة ونزيهة لا أكثر ولا أقل، ولكن كليهما سرعان ما عملا على ضمان عدم وصول أحد إلى السلطة بعدهما. وعلى الرغم من الترسانة النووية التي يتمتع بها بوتين، فضلاً عن الغاز السيبيري لديه، وحق النقض في مجلس الأمن الدولي، وقدرته على الزج بقواته الجوية في أماكن قصية مثل سوريا، ومكانته كشخصية يقدسها المهمشون من اليمين واليسار على حد سواء في مختلف أرجاء العالم، إلا أن الطرق التي اتبعها الرئيسان الروسي والبيلاروسي للبقاء في سدة الرئاسة مدى الحياة اعتمدت على الاستئثار بالسلطة في الداخل، وهذا ما يتشابهان فيه حد التطابق.
القرم تغير كل شيء
في آب 2020، بعد مرور 26 عاماً من الحكم الديكتاتوري، انقلب البيلاروسيون أخيراً على الحاكم المستبد العجوز الفاسد الذي يحن لأيام الاتحاد السوفييتي. كان بوتين في تلك الأثناء قد عين رئيساً بالوكالة للاتحاد الروسي عشية رأس السنة لعام 1999 وكان يسعى جاهداً لمنع الشعب الروسي من إبداء حالة السخط نفسها على حاكمهم المستبد.
الرئيسان الروسي والبيلاروسي في آب 2020
عند عودة بوتين لتصدر الكرملين في عام 2012 بعد أربع سنوات أمضاها كرئيس للوزراء لدى قائد الأركان ديمتري ميدفيدف الذي لم يكن أكثر من صفر على الشمال، عانى هذا الرجل الذي يمتلك ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم من مشكلة، إذ على الرغم من فوزه بالانتخابات بنسبة 64.35% على مجموعة مختارة بعناية من مرشحي المعارضة الصوريين، كانت معظم الدوائر الانتخابية التابعة له تستعد لحياة في روسيا بلا بوتين.
في تشرين الأول من هذا العام، أي بعد مرور سبعة أشهر على ثالث فوز لبوتين في الانتخابات، بدأت وكالة مستقلة تقوم باستطلاعات للرأي وتعرف باسم Levada Center بطرح سؤال على الشعب الروسي وهو هل يرغب هذا الشعب ببقاء رئيس دولته الأبدي في منصبه حتى بعد عام 2024، أي بعد انتهاء ولايتين متتابعتين له.
على الرغم من أن الموافقة على شخصه بقيت عند حدود 67%، إلا أن 34% فقط ممن أجريت معهم استطلاعات للرأي تمنوا بأن يبقى بوتين لولاية خامسة في الكرملين. ولدى طرح السؤال المتعلق بعام 2024 مرة أخرى في تشرين الأول عام 2013، تراجعت نسبة من أجابوا عليه بنعم لتصبح أقل من 33%.
لكن بعد ذلك غيرت القرم كل شيء. إذ في أواخر شباط 2014، وعقب الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش ودفعته للهرب من كييف وطلب اللجوء في روسيا، صارت القوات الخاصة الروسية ترتدي بزات عسكرية خالية من أي رتبة، وبدؤوا بالظهور في شوارع شبه جزيرة القرم الأوكرانية. وبعد استفتاء نظم على عجل واعتبر حراً ونزيهاً وشرعياً من قبل دول غير تلك الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الغربية، رحب الكرملين بمراسم التوقيع على "جمهورية القرم" في 18 آذار لتصبح عضواً رسمياً في الاتحاد الفيدرالي الروسي.
عندما نشر مركز Levada السؤال حول عام 2024 مرة أخرى في شهر تشرين الثاني من ذلك العام، أعلن 58% من الشعب الروسي فجأة عن رغبته ببقاء بوتين في منصبه لمدة تتجاوز ولايته الرابعة.
وخلال السنوات التي أعقبت ذلك، حتى بعد فرض عقوبات اقتصادية غربية وارتفاع أسعار النفط ما أدى لهبوط سعر صرف الروبل الروسي إلى النصف، استمرت نسبة الروس الذين أعربوا عن رغبتهم ببقاء بوتين في السلطة لما بعد عام 2024 بالارتفاع، حيث وصلت إلى 67% في آب من عام 2017.
ولكن بعد فوز بوتين رسمياً بولاية رابعة في عام 2018، بدأ تأثير القرم بالانحسار. إذ على الرغم من تغيير الاتحاد الروسي لدستوره في تموز 2020 بما يتيح للرئيس الحالي البقاء رسمياً في السلطة لولايتين أخريين، أعلن 47% فقط من الروس حتى أيلول 2021 عن رغبتهم بممارسة بوتين لهذا الخيار عند إعادة انتخابه من جديد في عام 2024.
جندي أوكراني يوقع على راية بلده بالقرب من ساحة الحرية في خيرسون بأوكرانيا – التاريخ 14 تشرين الثاني 2022
مع عدم وضوح طريقة وصول من يمكن أن يخلفه إلى السلطة، احتاج بوتين لفوز كبير، لشيء قادر على تغيير المزاج العام للروس في الداخل حتى يعود لصالحه، إذ من خلال ذلك وحده، تحولت محاولته الفاشلة لقهر أوكرانيا إلى انتصار ساحق بنظر العامة من الروس. وذلك لأن المركز المستقل الذي يجري استطلاعات للرأي عند نشره لسؤال عام 2024 من جديد في أيار 2022، أي بعد مرور ثلاثة أشهر على العملية العسكرية الخاصة التي اعتقد بوتين أنها لن تحتاج لأكثر من ثلاثة أيام لترويض أوكرانيا، ارتفعت نسبة من يؤيدون بقاءه إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، حيث بلغت 72%.
والآن، بعد السيطرة الكاملة على الريف الأوكراني، ألفى الطرفان نفسيهما عالقين في حرب على غرار الحرب العالمية الأولى في الدونباس، إذ ثمة تراشق مرعب بالمدفعية بين الطرفين يجري بشكل يومي، فضلاً عن عدد الضحايا الهائل، والمكاسب التي باتت تحسب بالأمتار لا بالكيلومترات. ولكن بما أن الربيع ما يزال بعيداً، فمن المحتمل لحملة عسكرية أوكرانية، يدعمها تدفق جديد للأسلحة الغربية، أن تعرض سيطرة روسيا على القرم للخطر.
وهذا يدفعنا لطرح السؤال الآتي: هل يمكن لبوتين أن يبقى رئيساً إن خسر شبه جزيرة القرم التي شرعنت وبشكل كبير بقائه في السلطة طوال السنوات الثماني السابقة؟
ورطة الديكتاتور
يتمتع فلاديمير بوتين بسلطة تخوله تزوير الانتخابات، والتلاعب بالدستور، وسرقة مليارات الدولارات، والدفع بالآلاف من الجنود الروس إلى حتفهم، وتسميم خصومه السياسيين، وشيطنة العالم الغربي، مع احتفاظه بنسبة تأييد عالية قد يحسده عليها أي رئيس شرعي منتخب بطريقة ديمقراطية، إذ مايزال الشعب يؤيده بنسبة 79% بحسب البيانات التي نشرها مركز Levada في كانون الأول 2022.
والتفسير لهذا التناقض الظاهري بسيط جداً، وهو أن فلاديمير بوتين مثله مثل بينيتو موسوليني ونيكولا تشاوتشيسكو وصدام حسين ومعمر القذافي وغيرهم الكثير ممن سبقه، ليسوا رؤساء ديمقراطيين، ولذلك تبدو تلك الشخصيات وكأنها لا تقهر إلى أن تقهر في النهاية إما عبر موت سريع أو مريع.
يشير مصطلح الديمقراطية الموجهة الموجودة في بيلاروسيا وكذلك في روسيا إلى توفر كل مظاهر الشرعية السياسية، من أحزاب ومرشحين ومناظرات وحملات انتخابية، وتشويق مصطنع عبر التلفاز أيام الانتخابات، دون وضع من يشغل المنصب في الوقت الراهن في موضع خطر قد يؤدي إلى خسارته لمنصبه.
لذا عبر اتباع هذا النمط، ترشح في كل الانتخابات الأربع التي خاضها بوتين مرشح من الحزب الشيوعي الذي يعرف باسم روسيا المتحدة، والذي حصد تأييداً كبيراً من قبل الفئة الديموغرافية نفسها التي أيدت حركة حزب الشاي الأميركي في مطلع العشرية الثانية من الألفية الثالثة، أي تلك الفئة الأكبر سناً من الناخبين المحافظين بشكل كبير في المدن الصغيرة، ممن لديهم حنين لأيام الحرب الباردة الخوالي.
ثم تأتي خيارات كثيرة غير محببة، بدءاً من كتلة يابلوكو الليبرالية الفاشلة وصولاً إلى الحزب الديمقراطي الليبرالي الفاشستي الجديد في روسيا، والتي أثبتت عدم جاذبيتها وعدم حصولها على ما يكفي من الأصوات لضمان مكانة معترف بها رسمياً ضمن النظام السياسي الروسي، ولكن سمح لها بالمشاركة في الانتخابات طالما بقيت غير فعالة.
حفل أقيم ليلة الانتخابات في روسيا بتاريخ 21 أيلول 2021
بيد أن السبب في عدم ظهور شخصية سياسية روسية نجحت في الاقتراب من حشد غالبية الشعب الروسي خلف حركة مناهضة لبوتين يتلخص في أن أي شخصية قادرة على فعل ذلك إما قد تم استقطابها أو حبسها أو نفيها أو اغتيالها.
شرح ألكساندر كازاكوف وهو مستشار لدى حزب سياسي مسجل رسمياً واسمه: "روسيا فقط: وطنيون من أجل الحقيقة"، كيف يعمل هذا النظام من الداخل، فقال: "بقيت السلطة السياسية في روسيا بيد مركز غير رسمي لصناعة القرار مكلف بمهمات نشر الاستقرار والديمومة والقدرة على التوقع".
وأشار هذا الرجل إلى أن الوضع في روسيا بقي على تلك الحال منذ أن حكمها إيفان الرهيب في القرن السادس عشر، حيث قال: "بقي الوضع على حاله اليوم، إذ لدينا إدارة رئاسية، لذا عند ظهور شخصية يمكن أن تهدد الهيكل السياسي الحالي، فإن كل ما تفعله الإدارة الرئاسية بكل بساطة هو عدم السماح لذلك الشخص بالمشاركة في العملية السياسية، وبذلك يحافظ النظام على استقراره".
شرطة مكافحة الشغب في موسكو تعتقل زعيم المعارضة ألكساندر نافالني من مظاهرة مناهضة لبوتين في ساحة بوشكين بتاريخ 5 آذار 2012
في عام 2013، حكم على المدون الروسي المناهض للفساد والمعارض السياسي أليكس نافالني بالسجن لمدة خمس سنوات على يد محكمة في إقليم كيروف بتهمة الاختلاس، في قضية خلصت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في وقت لاحق إلى أنها عملية تقوم على: "استبعاد المعارضين بغية إسكاتهم عن طريق الدعاوى الجنائية".
وعليه، قدم الحكم بإدانة هذا المعارض تبريراً للهيئة المركزية للانتخابات كانت بحاجة إليه حتى ترفض أي طلب تقدمه شخصية سياسية منافسة لتسجيل ترشحها بشكل رسمي في الانتخابات الوطنية الروسية. إلا أن فيديوهات فضح الفساد التي قدمها نافالني ضد شخصيات مهمة في الكرملين حصدت ملايين المشاهدات على يوتيوب، ودفعت بالآلاف من المتظاهرين للنزول إلى الشوارع في نحو 200 مدينة وقرية روسية، وكل ذلك اعتبر مشكلة تهدد سلطة بوتين ومنصبه.
وحول ذلك يخبرنا فلاديمير آشوركوف وهو المدير التنفيذي لمؤسسة مناهضة الفساد التي أسسها نافالني، فيقول: "كان بوسع نافالني تعريف الفساد على أنه النقطة المحورية لفشل النظام الذي أرساه بوتين، وذلك لأن كل طبقات المجتمع سواء أكانت ليبرالية أم محافظة أو قومية، تقف ضد الفساد، ولهذا فإن تركيز نافالني على القضية سمح له بتشكيل قاعدة داعمة ليس فقط في المدن الكبرى، بل في عموم أرجاء روسيا".
قوة "التصويت الذكي"
في أوائل صيف عام 2020، أي في الوقت الذي غيرت فيه روسيا من دستورها لتسمح لبوتين بالبقاء في منصبه حتى عام 2036، لم يطالب نافالني بخروج مظاهرات ضد تلك الخطوة، بل ركز على الترويج لاستراتيجية "التصويت الذكي" الذي يهدف لتوحيد مؤيديه خلف مرشحين رسميين كان لديهم فرصة كبيرة لهزيمة أعوان بوتين في حزب روسيا الموحدة خلال الانتخابات التي جرت في الأقاليم الروسية.
تعرض نافالني لعملية تسميم في ذلك الصيف، وتحديداً في 20 آب، وذلك عندما كان على متن طائرة متوجهة إلى موسكو، تلك الطائرة التي حملت أيضاً أحدا ممن حاولوا اغتيال نافالني ممن تحدثوا مطولاً عن العملية المعدّة لقتله، مما أكد بما لا يدع أي مجال للشك مسؤولية هيئة الأمن الفيدرالية الروسية عن هذه العملية. إلا أن نافالني نجا من ذلك الاعتداء بفضل هبوط الطائرة اضطرارياً في أومسك بسيبيريا، حيث عالجه الأطباء بترياق مناسب للتخلص من ذلك السم الذي يؤثر على الأعصاب.
لم تكن مصادفة أن يتم تسميم نافالني بعد مرور 11 يوما على ظهور مقدمة لأسوأ كوابيس فلاديمير بوتين وتحققها، إذ في 9 آب وتحديداً في دولة بيلاروسيا المجاورة، حيث كان الرئيس مدى الحياة ألكساندر لوكاشينكو يلعب لعبة الديمقراطية الموجهة لمدة تتجاوز مدة بوتين بست سنوات إضافية، خرج الآلاف من المتظاهرين السلميين إلى الشوارع احتجاجاً على ذلك.
وحول ذلك يحدثنا فاليري تسيبكالو وهو السفير البيلاروسي السابق إلى الولايات المتحدة وعراب قطاع التقانة الذي ازدهر في مينسك خلال فترة من الفترات، فيقول: "في بداية عام 2020 في بيلاروسيا، بدت كل الأمور مستقرة ومتوقعة كما كانت دوماً، حيث بدت المعارضة المرضي عنها تحت السيطرة، في حين ظهرت المعارضة الحقيقية بعيدة كحالها على الدوام. كما أن ظهور كوفيد كان يعني عدم قدرة الناشطين السياسيين على تنظيم مظاهرات".
ولكن ثلة من ناشطي المعارضة الذين يمثلون خطراً على الرئيس ومجموعة من الشخصيات التي تعمل في الدولة ومن بينهم تسيبكالو، كانوا ينظرون لانتخابات شهر آب كفرصة مناسبة لفرض تغيير سياسي أخيراً في تلك الدولة الصغيرة التابعة لروسيا. وهكذا تعرض كل منهم واحداً تلو الآخر لمضايقات تلاها اعتقال فإخراج من البلد.
يشرح تسيبكالو الوضع بقوله: "وجد لوكاشينكو ذرائع لتصفية الساحة السياسية من قادة المعارضة الشرعية، كما كان يفعل على الدوام، ولكن في عام 2020، أصبح المجتمع المدني في بيلاروسيا على استعداد أخيراً للتوحد خلف شخصية رمزية توحدهم، بدلاً من اكتفائهم بالتصويت لصالح الرئيس الحالي".
لقد كشف توحد المعارضة خلف سفيتلانا تيخانوفسكايا زوجة أحد الناشطين المعتقلين بأن حشداً كبيراً من الشعب البيلاروسي بات يدرك حقيقة نظام "الديمقراطية الموجهة"، إذ طوال تلك الحملة، استقطبت تيخانوفسكايا حشوداً هائلة من مختلف مناطق البلد، ليس فقط لأنها قادرة على حكم بيلاروسيا، بل أيضاً لوضوح برنامجها السياسي القائم على إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين (وعلى رأسهم زوجها)، وإجراء انتخابات حقيقية في غضون ستة أشهر بعد وصول إدارتها إلى السلطة.
إحدى النساء المعارضات في بيلاروسيا وهي تحمل راية ترمز للمعارضة في أثناء مظاهرة في مينسك في 20 أيلول 2020.
وفي 9 آب، عندما أعلنت الهيئة المركزية للانتخابات في بيلاروسيا عن فوز لوكاشينكو بنسبة 80.1%، تحطمت القشرة التي تغلف الاستقرار السياسي في ظل نظام قائم على التزوير، فاندلعت موجة مظاهرات سلمية عمت البلد لأسبوع كامل، ولم تتوقف إلا عندما أعلن بوتين عن استعداد روسيا للتدخل لصالح لوكاشينكو. إذ بعد اعتقال نحو 30 ألف شخص، وضرب أعداد هائلة من المتظاهرين، توفي منهم سبعة على الأقل، توقفت تلك الحركة الاحتجاجية.
إلا أن تسيبكالو يعتقد بأن رسالة واضحة وعالية النبرة قد وصلت إلى الكرملين حينذاك، ولهذا يقول: "كان هنالك احتمال كبير بتكرر سيناريو بيلاروسيا 2020 في روسيا 2024، بيد أن الاستثناء المهم هنا هو تمتع لوكاشينكو بشخصية مثل بوتين لتنقذه، بيد أن بوتين ليست لديه شخصية مثل شخصيته قادرة على التدخل لإنقاذ نظامه، وحتى يتجنب هذا السيناريو، بات بحاجة لعنصر خارجي قادر على تأمين شرعيته في الداخل بشكل مستمر".
وهنا رسم تسيبكالو خطاً مستقيماً بين مينسك 2020 وكييف 2022، وقال: "كل ما تفوه به بوتين من هراء حول تخليص أوكرانيا من النازية ونزع سلاحها والجعجعة حول تعرض الروس للاضطهاد في دونيتسك هي مجرد حجة لشن حرب خاطفة ومظفرة بوسعها أن تسهل أمور إعادة انتخابه كما حدث في عام 2018 عقب ضمه للقرم".
طريق بوتين نحو الحرب
لم تبدأ استعدادات بوتين على الملأ لشن غزو واسع النطاق على أوكرانيا في نيسان 2005، وذلك عندما وصف الرئيس الروسي الذي كان في ولايته الثانية انهيار الاتحاد السوفييتي بأكبر مصيبة جيوسياسية حدثت خلال ذلك القرن. كما لم تبدأ تلك الاستعدادات في نيسان 2008، عندما أعلن حلف شمال الأطلسي رسمياً عن خطة عمل تهدف لضم أوكرانيا إليه، ولم تبدأ في شباط 2019، عندما جعلت أوكرانيا من الانضمام لحلف شمال الأطلسي هدفاً أوردته ضمن دستورها الوطني، ولم تبدأ أيضاً في آب 2021، عند انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وسقوط حكومة كابل المدعومة من قبل الغرب بيد طالبان في غضون أيام، بل بدأت بعد ثلاثة عقود من التهديد الروسي لتوسع حلف شمال الأطلسي، وبعد عقدين من الأخطاء الأميركية الفادحة في مجال السياسة الخارجية ضمن العالم الإسلامي، وبعد مرور ثماني سنوات على الحرب التي سيطر من خلالها الكرملين على شرقي إقليم الدونباس في أوكرانيا، ولهذا اختار بوتين شباط 2021 أي بعد مرور خمسة أشهر على التجربة السياسية العسيرة التي خاضها لوكاشينكو، ليبدأ بتحريك دباباته وجنوده من سيبيريا نحو الغرب.
لم يكن التمركز المسبق للآليات العسكرية الاستعداد الوحيد للحرب التي بدأها الكرملين بعد مرور أشهر معدودة على ظهور فكرة الديمقراطية الحقيقية في بلاد لوكاشينكو. إذ قبل سنة كاملة من ظهور دبابات زينت بحرف Z عند اقتحامها للحدود، عملت أجهزة الأمن الروسية على تفكيك ما تبقى من المعارضة في الداخل الروسي.
حملة إعلانية لمرشح مستقل عن الدوما في موسكو، بتاريخ 4 أيلول 2021 وقد ظهرت على وجه المرشح ملصقات توضح بأنه عضو غير معلن ضمن حزب روسيا المتحدة الموالي لبوتين.
في 23 كانون الثاني 2021، وبعد مرور أشهر من التداعيات والوصول إلى ألمانيا، استقل ألكساندر نافالني طائرة توجهت من برلين إلى موسكو، في الوقت الذي تجمهر فيه المئات من أنصاره لاستقباله بمطار فنوكوفو في العاصمة الروسية، بيد أن طائرته غيرت مسارها لتصل إلى مطار شيرميتيفو حيث جرى إلقاء القبض على تلك الشخصية السياسية التي تعرضت للتهديد بالقتل في أثناء اجتيازه لمكتب التحقق من جوازات السفر برفقة زوجته.
في حزيران 2021، تم تصنيف صندوق مكافحة الفساد الذي أسسه نافالني على أنه "تنظيم متطرف" شبيه بتنظيم القاعدة بنظر النيابة العامة الروسية. كما تم استهداف قطاع الصحافة الاستقصائية التي كانت مسموحة في روسيا والقضاء عليها.
وحول ذلك يعلق رومان دوبراخوتوف مؤسس The Insider بالقول: "لم ندرك ذلك حينذاك، ولكن اليوم بات من الواضح بأن قمع الصحفيين المستقلين يتصل برغبة بوتين بشن حربه على أوكرانيا، فقد كان ينظف الساحة من كل الأصوات المعارضة حتى يزيح كل من يعارض غزوه في الداخل الروسي".
حرب بوتين الخاطفة المظفرة
والآن، مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لحرب فلاديمير بوتين الخاطفة والمظفرة، يزداد سخط الشعب في الداخل الروسي يوماً بعد يوم، ليس فقط بسبب النزاع بحد ذاته، بل أيضاً بسبب حالة الجمود التي فرضت عليه.
إذ عندما تقوم شخصيات إعلامية روسية بانتقاد أداء جيش البلاد، فإنها لا تفعل ذلك بدافع الدعوة للسلام، بل على سبيل المطالبة الشعبية للكرملين حتى يبذل كل ما بوسعه أن يبذله لحماية الوطن من المخططات الإمبريالية لما يسمونه بالغرب الموحد.
وعندما يعترف محافظون وقوميون متشددون من أمثال رئيس الشيشان رمضان قديروف أو رئيس مجموعة فاغنر ييفغيني بريغوزين بعدم سير الحملة وفق ما خطط لها، فإن ما يقدمونه من حلول لا يتصل بمطالبة روسيا بالكف عن سعيها لقهر كييف، بل بدعوتها لتجاوز أي وازع إنساني سبق لها أن التزمت به عبر توجيه القتال بشكل مباشر للمدنيين الأوكرانيين. أي حتى الآن لم تظهر أي حركة مناهضة للحرب قابلة للحياة في أي دائرة من الدوائر المقربة من السلطة في الكرملين.
امرأة تعبر جسراً مهدماً في باخموت بإقليم دونيتسك في 6 كانون الثاني 2023
الطريق مظلم
بناء على معاينة المشهد السياسي في الداخل الروسي، لا يرجح لمن سيخلف بوتين مباشرة أن يتراجع عن الموقف المتشدد تجاه أوكرانيا، بل حتى عندما تبدأ مرحلة روسيا بلا بوتين في نهاية المطاف والتي لابد لها أن تظهر على الساحة الدولية، ستحمل روسيا ديون القيصر المنتخب على ظهرها تجاه الإنسانية.
دفعت جرائم الحرب التي ارتكبها الروس ابتداء من بوتشا وحتى ماريوبول لظهور دعوات تطالب بإقامة محكمة على غرار محكمة نورمبيرغ لمحاكمة الدائرة المقربة من الكرملين. ثم إن الجيش الروسي الذي كان الجميع يحترمه في السابق أصبح اليوم يتوجه إلى كوريا الشمالية لرفد مخزونه من ذخيرة المدفعية، ولإيران حتى تمده بطائرات مسيرة استخدمت لشن هجمات على البنية التحتية في أوكرانيا. وفي هذه الأثناء، دفع القمع في الداخل الروسي مع إعلان التعبئة العامة للجيش بالألوف من الطبقة العاملة المنتجة المثقفة في روسيا للهرب إلى أي منفى في الخارج.
وبينما ليس أمامنا سوى الانتظار لنرى ما إذا كان بوتين الذي بقي في مكانه سيظل حتى يشهد سقوطه وزواله على الصعيد السياسي أم لا، يمكن القول بأن الحقيقة شبه المؤكدة الوحيدة التي أثبتها تعدي بوتين على المؤسسات السياسية الروسية بشكل واسع هي أن عام 2024 لن يشهد خروج حشود سلمية روسية مؤيدة للديمقراطية من بسكوف إلى فلاديفوستوك على غرار ما فعله البيلاروسيون عندما ملؤوا ساحات المدن والقرى من غرودنو إلى غوميل في آب 2020.
في سعيه الحثيث لتجنب الإطاحة به من خلال "ثورة ملونة" ديمقراطية، ضمن بوتين لمستقبل روسيا القريب كل شيء خلا الاستقرار والديمومة والقدرة على توقع ما سيحدث.
إلا أنه من الصعب استيعاب هذه الحقيقة على نطاق واسع ضمن الداخل الروسي، حيث يلقي الدماغوجيون اللوم على قوى خارجية فيما يتصل بأي عاقبة يمكن أن تترتب على حرب بوتين التي اختارها بملء إرادته، والتي يمكن أن يعاني منها الشعب الذي أذعن بكل سلبية لما أطلق عليه بوتين تلطيفاً: "عملية عسكرية خاصة".
وحول ذلك يعلق كازاكوف بالقول: "فقط عندما يرى الشعب الروسي بأننا فشلنا في أوكرانيا عندها بوسعه أن ينفتح على واقع سياسي جديد لا يتحكم فيه بوتين بمجرى الأحداث، ولهذا السبب عزمت كل من واشنطن ولندن على الاستعانة بالدم الأوكراني لهزيمة الجيش الروسي، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي بوسعهم من خلالها تحقيق هدفهم النهائي المتمثل بهزيمة بوتين والتي من خلالها يمكنهم نشر الفوضى في روسيا".
المصدر: Newsweek