وسط إسطنبول وفي مشهد سينمائي مهيب استقبل الرئيس الأوكراني كتيبة آزوف التي كانت في مقر إقامتها بعد الصفقة الروسية الأوكرانية برعاية تركية والتي كانت تشترط أن يبقى قادة الكتيبة تحت رعاية الرئيس التركي ولا تعود لأوكرانيا للمشاركة في المعارك.
هذه الخطوة التي فاجأت بوتين وأركان نظامه لأنهم اعتادوا في السنوات الأخيرة على أن تنفذ كل الاتفاقات التي تبرم بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيسهم بوتين دون أي إخلال بالتفاصيل، عملية تسليم كتيبة آزوف للرئيس الأوكراني زيلنسكي قال عنها الكرملين بأنها انتهاك مباشر للاتفاقيات.
التصعيد التركي الأخير مع روسيا جاء بعد انفراجه كبيرة في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة ومعها الناتو والاتحاد الأوروبي أيضاً، انفراجة أدت إلى موافقة تركيا على انضمام السويد للناتو بعد مفاوضات طويلة ومتعثرة، صحيح أنها مشروطة بموافقة البرلمان التركي بداية شهر تشرين الأول القادم لكن الرئيس التركي يملك الأغلبية المريحة والتي تؤهله لتمرير القرار في حال نفذت الشروط التي طلبت من السويد، وستحصل تركيا على طائرات F16 بعد وعود من إدارة الرئيس بايدن.
"يجب على روسيا أن ترد على إعادة كتيبة آزوف إلى أوكرانيا"، هكذا قال الصحفي الروسي المقرب من الكرملين فيودور لوكيانوف والذي يشغل منصب رئيس تحرير مجلة روسيا وطالب بالرد المتناسب، وأضاف أن "تركيا لم تكن يوما حليفا لروسيا ولن تكون ويجب الرد في مناطق التماس الكثيرة من سوريا إلى القوقاز"، كما حذّر من عواقب عدم الرد على نفوذ روسيا.
من جهته يرى الكاتب المتخصص بالشأن الروسي سامر إلياس أن روسيا لا تريد التصعيد حاليا مع تركيا، وقال في تصريح لموقع تلفزيون سوريا: "أعتقد أن انتقادات روسيا العلنية لتركيا بشأن عودة قادة آزوف كانت اضطرارية وتخرج عن الإطار العام لطريقة إدارة الخلافات بين البلدين المبنية على معالجة القضايا بطرق دبلوماسية قدر الإمكان لكن الرد الروسي على لسان ديمتري بيسكوف كان ضروريا لأن قضية إطلاق سراح قادة مجموعة آزوف في العام الماضي ضمن صفقة أثارت غضبا كبيرا وانتقادات لإطلاق سراح مجموعة تضنفها روسيا على أنها من الحركات النازية الجديدة، وثانياً لأن إطلاق سراحهم واصطحاب الرئيس زيلينسكي لهم على متن الطائرة الرئاسية كان استعراضيا إلى درجة كبيرة.
الأسوأ والأكثر ازعاجا لروسيا هو إعطاء الرئيس أردوغان الضوء الأخضر لانضمام السويد لحلف الناتو لأن موسكو كانت تراهن على معارضة تركيا والمجر واليوم لم يبق إلا حليفها فيكتور أوربان الذي سيكون مضطرا لتمرير انضمام السويد والإسراع إلى دعوة برلمان بلاده على الموافقة.
إطلاق سراح قادة آزوف ولاحقاً عودتهم على النقيض من اتفاق صفقة تبادل الأسرى يقوض هدفاً روسياً غير واضح المعالم كان هدفا للحرب، ولكن توسع الناتو وضم أوكرانيا كان هدفا أساسيا في ورقة الضمانات الأمنية الروسية المقدمة لواشنطن والناتو في منتصف ديسمبر 2021".
بدوره يرى الصحفي المتخصص بالشأن الأوراسي فراس بورزان أن روسيا لاتملك إلا خيار الرد، وقال في تصريح لموقع تلفزيون سوريا: "روسيا لن تترك الموضوع يمر من دون رد عليه، لكن لا يُتوقع أن يكون الرد قاسياً أو حازماً بما يؤدي إلى تداعيات سلبية على العلاقات خاصة أن تركيا معبر للاستيراد الموازي لروسيا ولا شيء مستبعد ويمكن أن تستهدف روسيا الأطراف المدعومة من تركيا بالقصف في سوريا، لكن اعتقد أن الروس سوف يردون بشكل يستطيعون تسويقه داخلياً، مثل عرقلة اتفاقية الحبوب او تأخير الأعمال في المنشآت النووية التي تبنيها روسيا، عموماً خيارات روسيا محدودة مع الطرف التركي لأنها تحتاجه أكثر مما يحتاجها في هذه المرحلة".
وعن خيارات الرد الروسية المحتملة قال سامر إلياس في جوابه على سؤال موقع تلفزيون سوريا: "لدى روسيا أدوات كثيرة للرد في سوريا، والسؤال هل سترد؟ الجواب المباشر لا أعتقد أن ترد بشكل مباشر وقوي لعدة أسباب لا يمكن الاستهانة بقدرة تركيا أيضا التي تسيطر مع الجيش الوطني على مساحات واسعة في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، وتدرك موسكو أن تركيا بوجودها على الأرض مباشرة أو بالوكالة وبحدودها الطويلة قادرة على تعطيل مشروع روسيا للحل والمتمثل في عودة جميع الأراضي لنظام الأسد، وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار ودعم النظام اقتصاديا".
وبحسب إلياس، فإن الهجوم على إدلب وريف حلب سيقابل برد تركي عنيف وأنقرة قدمت أقصى ما يمكن من تنازلات في مارس 2020 بعد تصعيد النظام والميليشيات الإيرانية، وروسيا تدرك أن أي حملة عسكرية واسعة لم تعد ممكنة في منطقة خفض التصعيد الرابعة نظرا لأن أي حرب تعني موجات لجوء وضغوطاً إضافيةً على الحدود التركية من قبل السوريين المقيمين في إدلب وريف حلب، ومعظمهم لا يمكن أن يعودوا إلى حكم الأسد ويعيشون ظروفا صعبة لذلك يمكن أن يضحوا بأي شيئ على أمل الوصول إلى أوروبا وعدم العودة.
ويرى الكاتب المتخصص بالشأن الروسي أن هناك جانب سياسي آخر ومهم، وهو أن روسيا تراهن على دور تركيا في المسار الرباعي مع إيران والنظام كاستمرار لمسار أستانة لإعادة تأهيل الأسد ومن دون تركيا لا يمكن تحقيق ذلك. في الملفات الأخرى والتي لا تقل أهمية وربما أهم هي أن روسيا بحاجة إلى تركيا في عدة قضايا مثل الالتفاف على العقوبات الغربية عبر الاستيراد الموازي والمصالح الاقتصادية من غاز ونفط.
في حين، أن أول رد فعل روسي على الخطوة التركية جاء عبر إعلان موسكو عن انتهاء اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، الاتقاقية التي وقعت في إسطنبول تحت رعاية الأمم المتحدة وبوساطة تركيا بين بوتين وزيلنيسكي.
وتعليقاً على الخطوة الروسية قال الرئيس الأوكراني في لقاء مع صحفيين أفارقة قبل يومين إن شركات شحن الحبوب أبلغته بأنها تريد مواصلة عمليات نقل الحبوب في حال موافقة تركيا وأوكرانيا على استخدام ممر البحر الأسود دون حتى انتظار موافقة موسكو. هذا المقترح في حال دخل حيز التنفيذ يعني أن قوات حماية تركية ستتولى مرافقة السفن ويحضر السؤال هنا عن إمكانية صمت روسيا عن مثل هذا الإجراء الذي يخل بالتوازنات الحالية بين الدول المتشاطئة على البحر الأسود.
من الواضح أن الصدمة كبيرة في موسكو بعد الخطوة التركية والتي أعقبها تقارب كبير بين تركيا والغرب وخرجت أصوات كثيرة تنادي بضرورة الرد ومنها القائد السابق للجيش الروسي في دونباس إيغور ستريلكوف الذي طالب برد عسكري على تركيا في سوريا، وقال إيغور في حسابه على تيلغرام: "عاجلاً أم آجلاً سيحصل صدام عسكري بين الجيش الروسي والجيش التركي سواء في البحر الأسود أم في القوقاز وأرمينيا لذا دعونا نستبق هذه المواجهة ونضربهم في سوريا حتى لاتصبح قواتنا في سوريا محاصرة في حال أغلق البوسفور في وجهنا".
الوضع معقد واحتمالية نشوب مواجهة مباشرة مستبعد حاليا فتركيا حتى اليوم تجيد دور الوسيط المعتمد غربياً بين الغرب وروسيا وهناك فوائد كثيرة تجنيها تركيا من هذا الدور، وروسيا بدورها مستفيدة اقتصاديا من الوسيط التركي، لكن ماحدث مؤخراً من تقارب تركي مع الغرب أعقبه تقارب تركي مع دول الخليج يعطي مؤشراً واضحاً عن أن العلاقة بين تركيا وروسيا بدأت تأخذ منحىً جديداً ومنذ محاولة قادة فاغنر الوصول لموسكو والجميع يحاول الاستثمار في لحظة الضعف الروسية الحالية التي بدأت منذ تمرد فاغنر وأعقبها سلسلة ضربات منها إعادة قادة كتيبة آزوف لأوكرانيا ثم ضرب الجسر الواصل بين القرم وروسيا وهذه المرة صرحت أوكرانيا بأنها هي من استهدفته على عكس المرة الماضية حين لم تتبنَ كييف العملية. ساحات مواجهة ساخنة وكثيرة يمكن لتركيا وروسيا أن تستعرضا عضلاتهما بها لأجل أن يعيد كل طرف تموضعه الإقليمي والدولي، وسوريا واحدة من هذه الساحات.