طالما كررنا، نحن السوريين، بيقين يبدو لي اليوم ساذجاً، أن الثورة السورية كشفت زيف الأخلاق التي تعلن الدول (المتحضرة) تبنّيها. يخطر لي، أن هذا الادّعاء الاحتكاري لم يكن صائباً على الإطلاق، بل كان زائفاً. حقيقة الأمر أن تلك الأخلاق (أقصد الأخلاق التي تدعيها تلك الدول) كانت زائفة على الدوام، تم تدوينها لتلائم الصورة التي أرادت تلك الدول تصديرها عن نفسها، أو على الأقل، كما كانت تأمل أن تكون صورتها بعد كارثة الحرب العالمية الثانية.
ارتكبت هذه الدول، ذات التاريخ الاستعماري، ما ارتكبت خلال تلك الحرب من مجازر وقصف للمدنيين وإعدامات بالغاز واغتصاب، وكل انحطاط يخطر بالبال. فهل كان من الممكن حقاً أن يطرأ عليها ذاك التحوّل السحري فجأة، مع نهاية الحرب؟ لتغدو دول حقوق الإنسان ومبادئ المساواة بين ليلة وضحاها؟ في أكثر من محطة تاريخية، ظهر التناقض الصارخ بين الادعاء وواقع الأمر، خاصة حين يتعلق الأمر بدول ما يسمى العالم الثالث، وقد اكتشفت هذا الزيف شعوبٌ عانت قبلنا، وما زالت تختبره شعوب مثلنا حتى اللحظة.
اليوم، مع موجة العنصرية غير المسبوقة التي تجتاح أوروبا، فإن شعوب ذاك العالم المتحضّر تعيد اكتشاف نفسها، كما هي حقيقةً، وتحاول التخلص من كذبات دولها. أكاد أقول إنني موقنٌ بأن تغيرات ستطول فيها الكثير، بما فيها القوانين وإعلانات المبادئ الدولية، التي سوف تُصاغ من جديد خلال السنوات القادمة، بطريقة وقحة. نعم، ننسب الفضل لأنفسنا بعد سكوت العالم سنوات عن موتنا ودمنا، لكن قبلنا كانت مجازر كمبوديا ومذابح رواندا وعشرات الأمثلة. كل من عانوا سابقاً، قالوا ما قلناه فيما بعد عن زيف ذاك الادعاء، لكنّا لم نلتفت لنصدق ما قالوه، كما أن هناك من لم يصدقنا اليوم.
لم تكن نكتة مسلّية، ولا حالة عابرة، أن يصل إلى الجولة الثانية بالانتخابات الرئاسية الفرنسية، في "عاصمة النور" باريس يمينيان أحدهما متطرف. لنفرح بعدها بفوز ماكرون، اليميني بدون أية لاحقة، ولنشعر أن فرنسا والعالم قد نجوا هذه المرة، نعم هذه المرة، لأن القادم بالغ القتامة. عام 2021، قبل يومين من الذكرى العاشرة لمجزرة "أوسلو" الشهيرة، تعرض نصب تكريمي لبنيامين هيرمانسن، وهو أول ضحية لجريمة قتل عنصرية ارتكبها النازيون الجدد عام 2001 في النرويج، للتخريب، مع كتابة عبارة "بريفيك كان على حق". لكن، من هو بريفيك الذي استحق هذا الثناء من أحد مواطنيه؟
لم تكن نكتة مسلّية، ولا حالة عابرة، أن يصل إلى الجولة الثانية بالانتخابات الرئاسية الفرنسية، في "عاصمة النور" باريس يمينيان أحدهما متطرف
"أندرس بريفيك" هو من هزّت جريمته النرويج صيف 2011، وتابعها الإعلام العالمي لأسابيع. بعد ظهر يوم 22 تموز/يوليو، قاد بريفيك (32 عاماً) شاحنة صغيرة، فخخها بنفسه، إلى الحي الحكومي في العاصمة أوسلو وركنها هناك، لتنفجر وتوقع ثمانية قتلى وأكثر من 200 إصابة. انتقل بعدها مباشرة، مرتدياً زي الشرطة وحاملاً أوراقاً شخصية، زورها بنفسه، إلى جزيرة "أوتويا" حيث يقام المخيم الصيفي لرابطة الشباب التابعة لحزب العمال الحاكم. هناك وعلى مدى ساعة تقريباً، سيقتل الشاب الذي يعتبر نفسه "فارساً مكرساً لوقف موجة الهجرة الإسلامية إلى أوروبا"، 69 من أفراد المخيم، معظمهم من المراهقين، إضافة إلى أكثر من مئة مصاب. كان الهجوم على مواطنيه، بمثابة رد على السياسات المتسامحة للهجرة التي ينتهجها الحزب الحاكم، ورئيسه "ينس ستولتنبرغ"، أمين عام حلف الأطلسي (الناتو) حالياً.
"على مقاتلي اليمين تبني أساليب القاعدة، والتعلم من نجاحهم وتجنب أخطائهم. القاعدة هي القوة الثورية الأكثر نجاحاً في العالم". لم يكن هذا الاقتباس لمجاهد إسلامي، كما يمكن أن نخمّن جميعاً، وكما يوحي سياق الخطاب، بل لبريفيك، الذي اعتبر تنظيم القاعدة ملهماً له في النضال العنفي. جاء ذلك في بيانه الشهير الذي وزعه عبر البريد الإلكتروني قبل ارتكابه لجريمته بساعة واحدة.
البيان الذي جاء بأكثر من ألف وخمسمئة صفحة، وسماه بيان "2083 إعلان استقلال أوروبا"، مثنياً فيه على "تقديس الاستشهاد" لدى جماعة القاعدة، بل وأكثر من ذلك، وفي حالة تبدو فصامية، فقد أعرب عن استعداده للعمل مع مجموعات مثل القاعدة وإيران للقيام بهجمات بأسلحة الدمار الشامل ضد أهداف غربية.
لم يكن "بريفيك" مسيحياً متطرفاً، حسبما تم وصفه في البدايات، بل كان عنصرياً متطرفاً، وكان سخر من المسيحية وخصيصة التسامح فيها أكثر من مرة. في رسالة أرسلها من سجنه إلى إحدى الصحف النرويجية، صرح بوضوح أنه ليس مسيحياً، مضيفاً بطريقة تهكمية "أعتقد أن هناك أشياء قليلة في العالم أكثر إثارة للشفقة من شخصية يسوع ورسالته". ليختم بأنه يصلي ويضحي للإله "أودين" ويعرِّف عن دينه بأنه "أوديني"، ("أودين" كبير الآلهة في الميثولوجيا الإسكندنافية).
اعتقلت الشرطة النرويجية بريفيك في جزيرة أوتويا. اعترف، على الفور، بتنفيذ الهجمات، لكنه نفى التهمة الجنائية، مدعياً أن تصرفه كان بحكم الضرورة الواجبة. أدين وحُكم عليه بالسجن لمدة 21 عاماً، وهي العقوبة القصوى المسموح بها في النرويج.
البيان الذي جاء بأكثر من ألف وخمسمئة صفحة، وسماه بيان "2083 إعلان استقلال أوروبا"، مثنياً فيه على "تقديس الاستشهاد" لدى جماعة القاعدة
عام 2021 وقد مضى على جريمته 10 سنوات، أصبح من حقه المطالبة بإطلاق السراح المشروط. دخل إلى المحكمة ملقياً على الحضور التحية النازيّة، وحاملاً رسالة عنصرية ألصقها على حقيبته ومثلها على سترته. بعد عشر سنوات، و77 ضحية ترهق أي ضمير، لم يعتذر الرجل عن فعلته. فقط أعلن أمام المحكمة أنه سيتحول إلى يميني فاشي، دون عنف. كما هو متوقع، رفضت المحكمة إطلاق سراحه.
هل ستجدون أنه لا علاقة للفقرة التالية بما تريد هذه المادة أن تقوله؟ نعم، أنتم محقون، إلا أنني، لطبيعتي الشخصية التي تقحم نفسها فيما أكتب، لم أستطع إهمال ما صادفني من معلومات حول الرجل. كان من بين مطالبات بريفيك لتحسين شروط سجنه، استبدال قلم الأمان المطاطي الخاص بالكتابة بقلم عادي. بمعرض طلبه، وصف تخصيصه بقلم الأمان بأنه "مظهر لا يوصف من الساديّة" التي تمارَس عليه في ظروف سجنه المتشددة في سجن مدينة "Skien"، وقد تمت تلبية طلبه.
في رسائله إلى وسائل الإعلام عام 2013 عدّدَ بريفيك مطالبه التي قدمها إلى سلطات السجن وكان منها، إضافة إلى تأمين تواصل أسهل مع العالم الخارجي، إحضار "بلاي ستيشن 3" بدلاً من الموديل الأقدم المتوفر لديه حالياً، لأنه يؤمّن ألعاباً أكثر ملاءمةً. عام 2014 ذكرت وسائل الإعلام بأنه سيخوض إضراباً عن الطعام حتى الموت، إذا لم توفر له إدارة السجن صالة رياضية أكبر. تبدو مطالبات الرجل وكأنها صادرة عن إنسان شفاف وبالغ النعومة، لدرجة أن يعتبر إجباره على استخدام القلم المطاطي شكلاً من السادية.
بريفيك الذي يرى تنظيم "القاعدة" قدوة له، والمعجب بالرئيس الروسي بوتين، حيث وجده "زعيماً عادلاً وحازماً يستحق الاحترام"، والمؤيد للقوميين الهندوس في نزوعهم لطرد المسلمين من الهند، والداعم لإسرائيل وسياستها العنصرية، ما دعا صحيفة "جيروزاليم بوست" لوصفهِ كحالةٍ "صهيونية يمينية متطرفة". بريفيك الذي كان ملهماً وقدوة للإرهابي الأسترالي "برينتون تارانت" الذي قتل 51 شخصاً (جميعهم من المسلمين) وجرح 50 آخرين خلال إطلاق النار على مسجد في نيوزيلندا عام 2019. في بيانه "الاستبدال العظيم"، ذكر تارانت بريفيك كواحد من أبطال اليمين الملهمين. بريفيك هذا، سيجد بعد عشر سنوات من يقول "بريفيك كان على حق"، بعد أن بدا للصحافة حين تنفيذ جريمته "ذئباً منفرداً" وقع أسير وهمه، أنه ينتمي للقطيع. بريفيك ذاك أصبح اليوم على ما يبدو، واحداً من قادة قطيعٍ يتمدد باضطراد، وليس من المستغرب أن نجد بعد سنوات الملايين وهي تطالب بإطلاق سراح بطلها، الذي كافح من أجل "المُثل الشمالية الخالصة". أرأيتم معي، إلى أين يمضي هذا العالم.