تعدُّ الأمثال الشعبية بمثابة الركائز التي تقدِّم إحالاتٍ دلاليةً، تطوف هذه الدلالات في خضم تلك المقولات الرمزية، ولأنَّ هذه المقولات تحمل داخلها ثقلاً هائلاً من الدلالات، فإنَّها استطاعت أن تكثِّف البنى الذهنية الاجتماعية القائمة في كلِّ بلدٍ عربيٍّ، تتأصَّل فيه الممارسات الشعبية.
فالأمثال ليست مجرَّد كلمات يتداولها الأفراد بين بعضهم البعض، بل هي خلاصة تجارب متراكمة لدى المجتمعات، بمعنى أنَّ للأمثال دوراً مهماً في إبراز الهوية الثقافية للمجتمعات، ونقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل. ومن المثير "وجود ثقة شعبية كاملة بالمثل؛ لأنَّه يعبِّر عن فكرةٍ صادقةٍ، تكرَّرت بالتجربة، على فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ، علماً بأنَّ بعض الأمثال قد لا تكون صادقةً، في بعض الأحيان حالياً؛ نتيجة تغيُّر الظروف والمواقف"[1]، ومن المثير أيضاً أنَّ الأمثال الشعبية لا تتعامل مع الوقائع بحذر، بل تجسِّدها بوضوح وجرأة، كما هي في حقيقتها، ومن دون مجاملات، وهذا ما يمنح الأمثال حيويتها، واستمراريتها، وقدرتها على البقاء.
وتكرِّس الأمثال الشعبية في المجتمعات العربية القيم السائدة، والعادات والتقاليد، بما في ذلك العلاقات الجندرية، لتبرز مفهوم المجتمع الأبوي الذي يهيمن فيه الذكر على الأدوار الاجتماعية، ويحتلُّ موقع السلطة والمسؤولية، ففي المثل الذي يقول: (الرجَّال بالبيت رحمة ولو كان فحمة) يتعامى المجتمع عن القيم التي يجب أن يتحلَّى بها الرجل، ويركِّز على مجرَّد وجوده، بوصفه عنصرَ حمايةٍ للأسرة عامة، وللمرأة بشكلٍ خاص، بغضِّ النظر عن سلوكه وتصرفاته. ويعزِّز هذا المثل استمرارية وجود هذه النمطية السلبية عديمة الفائدة، أو التي يمكن أن يشكِّل وجودها إعاقة أمام مستقبل الأسرة.
إنَّ الأمثال الشعبية لا تعكس الواقع الاجتماعي فحسب بل تعمل على إعادة إنتاجه وترسيخ هويته الاجتماعية، ويساعد على ذلك تكرار هذه الأمثال على ألسنة الناس في الحياة اليومية، ما يجعلها جزءاً من وعيهم الجمعي
ومثل ذلك المثل القائل: (الرجَّال ما بعيبه شي إلا جيبه) إذ يذهب هذا المثل إلى أبعد ممَّا ذهب إليه المثل الأول؛ ذلك لأنَّه يعفي الرجل من كلِّ المعايير الأخلاقية والسلوكية، مقابل وجود المال الذي يعدُّ المعيار الأكثر أهمية من وجهة نظر المجتمع، فالمال يمكنه تغطية كلِّ العيوب ومحوها، انطلاقاً من أنَّ الرجل في المجتمعات الشرقية مهما فعل لا يعيبه شيء، فالمجتمع يبرر للرجل -خاصة إذا كان غنياً- خيانته، وكذبه، ولكنَّه لا يفعل ذلك مع المرأة، فالرجل عندما يقوم بفعل الخيانة يتمُّ تصنيف فعله ضمن النزوات التي يمكنه التفاخر بها بين أقرانه من الرجال، وبالتالي فإنَّ عدم وجود المال يرتبط بعدم فاعلية الرجل داخل منزله أولاً، وضمن وسطه الاجتماعي الذي يعيش فيه ثانياً، وهذا يشوِّه الواقع، ويقف دون ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الجندرية داخل الأسرة.
وفي مَثَل (عِيْش يوم ديك ولا عشرة دجاجة) يظهر دور المجتمع في صناعة الرجل/ الديك من خلال تكريس مفهوم فوقانية الذكر، وتلميع صورته بوصفه رمزاً للقوة والهيمنة، بينما يقلِّل هذا المَثَل من دور المرأة -والتي يرمز لها المجتمع بالدجاجة- على الرغم من عطائها المستمر، وإنتاجيتها ذات القيمة، فالمجتمع من خلال هذه الأمثال يشجِّع الرجل على ممارسة دوره السلطوي، ويعمق الفجوة بين الرجل والمرأة، إذ تبدأ هذه التوجيهات منذ نعومة أظفار الأطفال الذكور، فتتم تربيتهم وفق نمط معين، ليسترجلوا على النساء من أفراد عائلاتهم؛ أمهات وزوجات وأخوات، فمن العيب من منظورهم أن يجالس الرجل النساء، أو أن يتعرَّف على حياتهنَّ عن قرب، فلا بدَّ من وجود حاجزٍ يفصل بين هذا الديك وتلك الدجاجات.
ويلخِّص المثل الشعبي القائل (الفرس من خيَّالها) دور الرجل في المجتمع الذكوري، فهو الراعي المسؤول عن رعاياه من النساء، وتنتقل هذه الولاية من الأب إلى الزوج تلقائياً بعد الزواج، ذلك "لأنَّ المجتمع الحالي هو مجتمع ذكوريٌ تسوده وتحرِّكه قوانين وضعها الرجل لمصلحته، جاعلةً المرأة كائناً ثانوياً، كائناً يغيِّر ذاته، كائناً تابعاً في كلِّ مراحل حياته"[2]، فهذه الأمثال تسعى إلى تقليص دور المرأة وتهميشه، ما يحدُّ من إمكاناتها، ويؤثِّر على دورها الفعَّال في المجتمع. بل يمكن للرجل أن يضرب المرأة ويحبسها كي تتأدَّب، فهو خيَّالها، ويحق لها أن يروضها بالطريقة التي يريد، وقد كان ذلك أمراً طبيعياً يحدث بين الرجل ونساء بيته، بسبب أو من دون سبب، ومن ثمَّ تعود الحياة طبيعية كأنَّ شيئاً لم يحدث، لكي (يقطع راس القط من أول ليلة)، بل قد يكون الضرب أو الإهانة اللفظية نوعاً من إثبات الرجولية بين الحين والآخر.
إنَّ الأمثال الشعبية لا تعكس الواقع الاجتماعي فحسب، بل تعمل على إعادة إنتاجه وترسيخ هويته الاجتماعية، ويساعد على ذلك تكرار هذه الأمثال على ألسنة الناس في الحياة اليومية، ما يجعلها جزءاً من وعيهم الجمعي، إذ "تتغلغل الأمثال الشعبية في حياة الناس ناقلة معها أفكاراً وتجارب وحكم الأجيال السابقة، وذلك لسهولة تداولها مع لغتها البسيطة من جيل لآخر، فهي بشكل غير مباشر تشكِّل نمطاً قيمياً للمجتمع"[3]، إن تلك المقولات التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية، ويعدونها من الثوابت التي نتجت عن الممارسة والخبرة الطويلة لا يزال تأثيرها واضحاً، على الرغم من النهضة الفكرية والرغبة في التحرر التي ظهرت في بعض البلدان العربية في الآونة الأخيرة، إلا أنَّ المقولات الشعبية التي تنحاز جندرياً للرجل لا تزال تتحكَّم بالموروث الشعبي واللاوعي الجمعي، لذلك كان لا بدَّ من إعادة النظر في البنى الذهنية الاجتماعية لمجتمعاتنا والعمل على إعادة صياغتها بما يتلاءم مع ما تتطلَّع إليه هذه المجتمعات في المستقبل القادم.
[1] أحمد إبراهيم الزعبي، الأمثال الشعبية ومنا-سباتها، عمَّان: دار الكتاب الثقافي للنشر والتوزيع، 2018، ص8.
[2] صاحب الربيعي، المرأة والموروث في مجتمعات العيب، دمشق: دار صفحات للدراسات والنشر، 2010م، ص66.
[3] وضحى عثمان، الأمثال الشعبية هل أنصفت المرأة أم ظلمتها؟، 2022.06.25، https://2u.pw/pTggVvVP.