بقيت تعقيدات الهوية الأكثر جدلاً على مرِ التاريخ وارتبطت تفسيراتها بالإنسان كفاعلٍ أساسي لتشكيلاتها وتبدلاتها وثباتها، قد يأخذ التعريف العام للهوية البعد الفلسفي المختلف عليه على مدار العصور، لكن قد أثبتت العقود الأخيرة في المنطقة العربية، أنّ جزءا يسيرا منها أي إعادة صياغة المفهوم بكل تفرعاته العامة والتفصيلية تركّن في حركية السياسة ليس من الجانب التنظيري الذي يحمل بعداً فلسفياً اجتماعياً وإنما من جانب حركيّ يتمثل في دلالة فعلٍ قام على ممارسة تطورت وأصبحت مدخلاً أو إفرازاً جديداً للهوية.
الحقيقة، انهمكت شعوب المنطقة على رأسهم في سوريا منذ ولادة تجربة المملكة السورية (1920) في بلورة هوية للحُيَيزات الجديدة التي بات السوريون يمتلكونها، وكما هو معروف فإنّ سجلات الهويّة بدأت عند تلك الحقبة الزمنية وما زالت مستمرة حتى اللحظة، ولعلّ هناك عدة جوانب لذاك الاحتكاك الفكري والجانب الأبرز منه هو الاعتقادات البشرية التي من الأساس هي طبيعة صرفٌ للإنسان وتعكس ولادة الأيديولوجيا في سوريا.
لكن، في المقابل كان هناك جانب مظلم أي الاستثمار في تلك المتناقضات والسعي لتحويلها من خلاف ديمقراطي طبيعي إلى صفري أفرز صراعَ هُويّةٍ متجذرا مستمرا لم تستطع كل القوى الوطنية في تاريخ سوريا المعاصر تلافيه حتّى في مرحلة نضوج برجوازية سورية إبّان الاستقلال، لكنها سرعان ما ركنت عند حدِّ الإذعان لهوية سوريا الجغرافية عند نهاية الحرب العالمية الثانية ثم العودة لصراعات العسكر.
قد يكون الفرنسيون أول من أجج صراع الهوية في سوريا من خلال عدة اعتبارات منها ما هو جغرافي ـ مناطقي بمعنى تمدين الريف وترييف المدينة وأخرى ديني أي أسلمة غير المسلم وسلخ المسلم عن معتقده أو حتّى قومي، فضلاً عن صراع "زمن السياق" أي ترسيخ مفاهيم ما قبل الدولة "العشيرة-القبيلة" وغيرها في سياقٍ يسعى به السوريون لإنتاج نموذج متحرر لدولتهم المستقلة والحرّة.
قد يكون الفرنسيون أول من أجج صراع الهوية في سوريا من خلال عدة اعتبارات منها ما هو جغرافي ـ مناطقي
مما لا شك فيه؛ أنّ تلك السياسات فرضت أزمة انتماء أو معرفة الذات السورية وكانت أهم مداخل وصول البعث إلى السلطة قبل أن يُدخل في تفريغ الأسباب التقليدية المألوفة من الصراع الاجتماعي، والاقتصادي، والعسكري فكل تلك التفاعلات قد تكون وحدات مهمة في تحليل أسباب أزمة الهوية لكنها ليست نتائج بل أسباب رسخت جدالاً عميقاً حول مشكلة ماهية انتماء الإنسان السوري.
ربما الإنسان السوري، ينتمي للجغرافيا، والأعراف والتقاليد "الثقافة"، وللدين ما بعد العرف أي الذي يتجاوز السياق، أو الدين الذي يعتبر السياق جزءًا أصيلاً من الهوية، أو ما بينهما ذاك الذي لا يرى أن محلية سوريا لا تلغي عولمة الدين والعكس صحيح، وقد تكون أشكال الانتماء قومية وإثنية وغيرها وربما كل مبررات الانتماء تلك مقنعة إلى حدٍّ معين؛ رغم عدم وجود انتماء شكّله "عقد اجتماعي" لغياب التعاقد وتجاوز تلك المحطة الزمنية المهمة عبر القفز على المراحل الذي من الأصل يمكن تبريره بسلّم ماسلو الشهير.
لكن، هناك مرحلة مهمة في سوريا تتشكل في غمار الهوية، بعد الثورة السورية 2011، وهي "هوية المهجر" ربما للمرّة الأولى في تاريخ سوريا المعاصر منذ إعلان المملكة لليوم، يعيد السوريون تعريفهم للانتماء أو يشعرون بأزمته بعد جمودٍ فرضه الاحتلال ثم الاستبداد إلى تشكيل الركود الحالي.
في الواقع، قد تكون مشكلة هوية المهجر أنها لا تعطي اعتباراً لسوريا إلّا بالمثاليات لا سيما عند ضرورة الاستحضار، وقد تلعب الجغرافيا دوراً مفصلياً في تبلور الهويات وهذا مفهوم، لكنها لا تعتبر عاملاً كافياً، إذ بات الانتماء للفرد أو للجماعات هو لهوية مهجر وقد لا تكون مستدامة، ولعلّ التضاد الذي يحصل أنّه مُغلف/ مؤطّر بتعريفات سورية بالبعد الوطني-المحلي، وربما هو تأملات أو آمال معقودة أكثر من أن تكون تعبيراً عن رغبة حقيقية، هناك بالفعل انتماء للمهجر وانتماء لسوريا لكن هناك انتماء للمهجر وانتفاء من سوريا، في المجمل بات هناك انتماء سوري جديد ربما للمرّة الأولى في التاريخ وهو "انتماء الشتات".
لا يغيب التأثر بانتماء الشتات، عن الحالة السياسية السورية الراهنة، ويمكن تأكيد ذلك من أسماء دول أو عواصم الشتات التي وثّقت أبعاداً لتحيزات سياسية مختلفة، فأطلقت المعارضة السورية على تلك المتماهية مع الموقف الروسي "منصة موسكو" وأخرى التي دخلت في تعقيدات أزمة الخليج سابقاً "منصة القاهرة".
لا ينطبق هذا فقط على الحالة السياسية السورية، وإنما يمكن تلمسها في المجتمعات السورية اللاجئة من خلال المبادرات المختلفة التي باتت تحمل أسماءً غير عابرة رغم أنّها طارئة، لكن التعاطي معها يغلب عليه التسليم والاستدامة بوجود انتماء مهجري جديد غير مرتبط بحدود الوطن سوريا، خاصةً بعد عدم قدرة المجتمع الدولي على إجراء تحوّل ديمقراطي حقيقي في سوريا، ومحاسبة النظام السوري.
قد لا يتحمل السوريون وحدهم مسؤولية الهويات الدخيلة المركبة بكونها تشكيلات حالة فرضه التهجير القسري الذي قام به النظام، ولم يتعامل معه المجتمع الدولي من منطلقات إنسانية بل تجاهله، كما لا يمكن عدم لحظ انتماء الشتات من قبل النخب السورية بكونها تحمل دوراً أساسياً في توجيه المجتمعات السورية اللاجئة لضرورة عدم نسيان القضية السورية الأساسية بمدلولاتها الصرفة تلك التي ربما مرتبطة ببناء الوطن والهوية السورية الحرّة وبالطبع بالكرامة والحرية.