هل تستدعي انتخابات الإدارة المحلية التي أجراها النظام قبل أيام من السوريين أن يعلقوا عليها ولو بكلمة؟ أجزم، ومن موقعي كمراقب يبحث عن أي تغييرات في سياسته خلال العقد الأخير، أن لا شيء يستحق النظر فيه طالما بقي التكوين البنيوي للعصابة التي استولت على أجهزة الدولة السورية ثابتاً منذ عقود، ولم يتغير.
لهذا، لن يكون المرء مضطراً للاستفاضة في توصيف المشهد التقليدي لأي انتخابات تجري تحت حكم الأسديين، غير أن بعض تفاصيل واقع السوريين الخاضعين لهم، أي سكان المناطق التي يسيطرون عليها، يمكن التوقف عندها، للتأمل في حال الناس، ولتبين إلى أي درك وصل السوريون بعد مرور 11 سنة على تفجر ثورة الكرامة، ومقابلتها بالحديد والنار والموت.
تُقسم سوريا إلى 1470 وحدة إدارية، موزعة على 14 محافظة، و158 مدينة، و572 بلدة، و726 بلدية، ورغم كل ما جرى في السنوات السابقة، يستطيع النظام أن يجلب 59498 مرشحاً، للمشاركة في فيلمه هذا، بعضهم من السذج، وبعضهم الآخر من المخبرين والفاسدين، والباحثين عن الجعالات، كي يتنافسوا على 19086 مقعداً.
يعرف السوريون، ومنذ زمن طويل، أن أي انتخابات تجرى في بلدهم هي تمثيلية بائسة، يحاولون عدم المشاركة فيها. ولكنها تفرض عليهم بقوة السلاح، وشدة المراقبة الأمنية
وفي المقابل يعرف السوريون، ومنذ زمن طويل، أن أي انتخابات تجرى في بلدهم هي تمثيلية بائسة، يحاولون عدم المشاركة فيها. ولكنها تفرض عليهم بقوة السلاح، وشدة المراقبة الأمنية. والنظام بدوره يعرف أنهم يعرفون، ولهذا فإن إقناع البشر بأن عملية الاقتراع هي شيء مهم في مسار الحراك السياسي لأي بلد، لا يبدو أمراً مهماً لدى أجهزته الإعلامية ومن ورائها شقيقاتها الأمنية.
إنها تصنع الترويج الإعلامي المطلوب على أكمل وجه، إذ كانت وكالة سانا التابعة له تنشر يومياً على معرفاتها الأفلام الترويجية عن هذا الحدث، وكذلك كانت تفعل المؤسسات الإعلامية التابعة له، لكن كل شيء كان يمر بلا روح، وبلا معنى، لأنه عمل روتيني، يتم صنعه بطريقة آلية.
في حالة بلد شبه مدمر، يحتاج السكان الذين تستغرقهم حاجاتهم، وطرق الحصول عليها، إلى أفكار خلاقة تلفت انتباههم، فتحفزهم إلى الذهاب إلى مراكز التصويت، لكن كل طرق الإعلان عن انتخابات الإدارة المحلية كانت غبية في شكلها وفي مضمونها، ذات محتوى تلقيني، لا يرى في عقول السوريين أي جغرافية تستحق أن تبرمج معطيات الخطاب الموجه صوبها بقليل من الديناميكية أو الذكاء.
إنها تحصيل حاصل لتراكم ديماغوجي عمره عشرات السنوات، يتجدد كل عام عدة مرات في المناسبات الاحتفالية المتصلة بهيمنة البعث والأسديين على البلاد، برفقة حلفائهم السياسيين سابقاً أي أعضاء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الذين تم تهميشهم في الانتخابات الحالية. وكذلك برفقة حلفائهم الحاليين أي ميليشيات الشبيحة والفصائل الطائفية البغيضة.
وفي مثل هذا "العرس الذي يجري في مقبرة"، سيلفت الانتباه أن يظهر الأمين العام المساعد لحزب البعث هلال الهلال ليقول إن "سوريا أنجزت كل الاستحقاقات الدستورية طوال سنوات الحرب الإرهابية رغم محاولة أعدائها عرقلة ذلك"! وأن يخرج سلفه عبد الله الأحمر من حيث اختفى طيلة السنوات الماضية، وآثار الكفن والتراب على وجهه، ليقول الكلام ذاته، شبه المتطابق في جوهره، رغم اختلاف ترتيب الجمل والكلمات! فيخال المشاهد أنه يشاهد فيلماً هزلياً ومرعباً في الوقت نفسه، يصبح فيه الهلال ظلاً للأحمر أو العكس، وكأنهما يرتبطان ببعضهما، عبر قناة كحبل السرة، يمتزج فيها الكلام، بالدم، وبالهراء!
طبعاً ثمة أفلام تقوم بالسخرية من طرق صناعة الرعب يعرفها الجمهور، لكن في حالة سوريا الأسدية، حتى الكوميديا، تبعث الأسى على وجوه من بقي في هذه المطحنة، التي تكسر النفوس، وتفتت الآمال، وتطحن الحياة، وأيضاً تعتم المستقبل لأجيال تفتحت عيونها وعقولها على مشهد بلا أمل!
أكثر ما بعث على القرف في الأيام الماضية، هو الإعلام الممانع والمساند للنظام والذي يدخل لعبة التغطية لمثل هكذا أحداث، وكأنه يقوم بتغطية ولادة التاريخ
أكثر ما بعث على القرف في الأيام الماضية، هو الإعلام الممانع والمساند للنظام والذي يدخل لعبة التغطية لمثل هكذا أحداث، وكأنه يقوم بتغطية ولادة التاريخ، فيتطرف في النفخ في أبواقه، فلا يخرج عنه من أصوات سوى أقبح النغمات!
يريد إعلام حلفاء النظام من حزب الله وإيران وروسيا، أن يوحي للسوريين أولاً أن اهتمامه الكبير يتأتى من أهمية الحدث، وهو يعرف وعلى طريقة النظام، أنهم لن يصدقوه، ولهذا يلغي الفوارق بين المنطقي وبين غيره، إذ لن يدقق أحدٌ بما يُعرض هنا، لكن يتوجب تنفيذ المهمة بكامل الجدية! ويريد أيضاً أن يظهر للعام أن سوريا تستعيد عافيتها، فيوغل في صناعة اللقطات عن إعادة للانتخابات هنا، وعن دقة في الأداء، ومراقبة نزيهة هناك.
صورة البلاد البائسة، لا يستطيع عطارو قنوات المنار والميادين وروسيا اليوم والعالم أن يزوّروها، وهم "يزعبرون" عن الديموقراطية السورية المحلية، وحده رحيل الكارثة الأسدية، بمن جلبتهم، وبمن تعيّش على جرائمها، كفيل بأن يغير كل شيء.