لا شك أن بعضًا منا قد رأى، وهو على مقاعد الدراسة الإعدادية أو الثانوية، ولدًا عابثًا يرتكب فعل ولدنة بحق أحد زملائه أو حتى أساتذته ليُضحِك زملاءه على الضحية الغافل، كأن يعلَّق على ظهره ورقةً مكتوبًا عليها كلمة "حمار"، أو يسكب حبرًا على الكرسي لتتلوث ملابس أستاذه، أو يضع له دبوسًا ليخزه في مؤخرته إذا جلس، إلخ. وهذا السلوك الصبياني، وإن كان مُستهجَنًا، يبقى طبيعيًا إلى حد ما من منظور علم النفس التطوري. فهذا الصبي العابث مراهق يبحث عن تسلية على حساب غيره، لعله يسجل نصرًا يسيرًا على خصم غافل، أو لعله يصبح بطلاً ذكيًا بأعين المجموعة أو بعين محبوبته، المراهقة مثله، حين يروي لها عنترياته في "أم المعارك".
لكن أن تهبط دول، بعضها عظمى، إلى مستوى مماثل من الولدنة فشيء يدعو إلى عجب واستهجان أكبر. صحيحٌ أن بعض الدول تتدخل في شؤون الدول الأضعف، فتعتدي عليها أو تحتلها (جارةً كانت أم غير ذلك)، أو تغتال رئيسها، أو تطيح به في انقلاب دُبِّر بليلٍ، لكن كل هذه تظل من الألاعيب القذرة "المحترمة" في لعبة الأمم (أقول "محترمة" بحكم أنها مألوفة وطبيعية منذ القِدَم). أما ما هو غير مألوف فهو الألاعيب القذرة الأخرى "غير المحترمة." وعلى هذا مدارُ هذه المقالة.
في البدء كان المجوس!
يحكى أن أحد أكاسرة الفُرس استدعى أحد ملوك المناذرة، وقدَّم له فاكهةً غيرَ مألوفةٍ لهذا الأخير ليرى إن كان سيأكلها بقشرها. وإن فعل، فسيكون أضحوكةَ مجلس كسرى. لكن الملك العربي فَطِن إلى هذه الحيلة، واجتاز الاختبار بنجاح، وحفظ كرامته. هنا نتساءل: ما الذي يجعل ملكًا يهبط إلى حضيض التهريج الصبياني؟ لكن الأعجب أن ما فعله كسرى مع ضيفه وتُبَّعِه العربي لم يبق بلا نظائر في التاريخ، كما سنرى.
بالجوارب المثقوبة جئناكم!
في شهر آب 1958، قام شارل ديغول، وكان حينها رئيسَ وزراء فرنسا، بجولة في عدد من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا. عرض ديغول على الزعماء الوطنيين الأفارقة الاختيار بين قبول شروط "الأُسرة الفرنسية" (التي أرادها أن تكون على غرار الكومونولث البريطانية) – أي، التصويت بنعم – وبين الاستقلال. كان اختيار الاستقلال يعني أن فرنسا ستقطع كل صِلاتها بتلك الدولة.
لم يَرُقْ هذا الابتزاز الضمني لأحمد سيكو توري، زعيم غينيا الوطني الشاب. فقد أعلن سيكو توري، وهو يتقاسم المنصة مع ديغول، أن شعبه "يفضل الفَقر مع الحرية على الثراء مع العبودية". لم يعتَدْ ديغول حتى الآن إلا على هتافات الجماهير الإفريقية، فبدا عليه الانزعاج، وارتجل ردًّا أوضح فيه أن فرنسا "ستتخذ بالطبع الإجراءات الضرورية". وأول هذه الإجراءات أنه رفض حضورَ عشاءٍ رسميٍّ مع الزعيم الغيني الذي أشار إليه ديغول لاحقًا بعبارة "ذلك الشخص" (التي تعادل "اللي ما يتسمّاش" بالبلدي المصري). بل أمر أن يُرسَل إليه طعامُه في غرفته، شأنُه في ذلك شأنُ طفلٍ صغيرٍ حَرِدَ من أهله. ولما اختارت غينيا الاستقلال، أوقف ديغول جميع المساعدات الفرنسية فورًا، بل حاول الفرنسيون منع مستعمرتهم السابقة من الانضمام إلى الأمم المتحدة. ثم دعموا سرًا مرتزقةً حاولوا إسقاط الحكومة، وأغرقوا البلاد بأوراق نقدية مزيفة لضرب عملتها. لم يكتفوا بهذه الألاعيب القذرة "المحترمة". بل تآمروا لثقب جوارب سيكو توري لجعله يبدو سخيفًا مُضْحِكًا وهو يُصَلّي! أما كيف سينفذون هذه اللعبة الصبيانية، فلا يخبرنا بذلك المؤرخ البريطاني جولْيَن جاكْسِن، كاتبُ سيرة شارل ديغول.
فلتسقط لحية فيديل!
منذ أن بدأ العَداء الأمريكي لكوبا بعد تولي فيديل كاسترو زمام الأمور في تلك الجارة الشيوعية الصغيرة المستضعَفة، باتت لحية زعيمها الثوري الكارِزمي رمزًا يفقأ أعين الأمريكيين كما كانت كوفية ياسر عرفات رمزًا فلسطينيًا يفقأ أعين الصهاينة. ومن جملة المساعي لتشويه صورة الزعيم الكوبي هو أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إن صدقت الروايات المتداولة، حاولت جعل لحيته الشهيرة تتساقط وذلك عن طريق رشِّ حذائه بأملاح الثاليوم، وهي مادة كيميائية يمكن أن تسبب تساقط الشعر. وكانت الفكرة أنه إذا ارتدى كاسترو حذاءه، سيمتص جلده الثاليوم، فيؤدي ذلك إلى تساقط الشعر، بما في ذلك لحيته. وهذه تذكِّرنا بالغُلالة المسمومة التي أهداها جستنيان الأول، قيصر الروم في القسطنطينية (إسطنبول اليوم)، إلى امرئ القيس الذي جاءه مستنجدًا به ليعيد إليه مُلْك أبيه، آكلِ المَرار.
في الحكايتين الآنفتين – جوارب سيكو توري ولحية كاسترو – نلحظ أن العدو يحاول تحطيم صورة خصمه، بطريقة صبيانية، لكسر هيبته في أعين الجماهير وتقليل شعبيته، لعل ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى اختفائه من المشهد السياسي.
على خطا المَجوس
وفي أثناء الحرب الباردة بين جناحي حزب البعث الحاكم في العراق بقيادة صدام حسين وسوريا بقيادة حافظ الأسد، أصبحت أغنية المطرب السوري موفق بهجت الشهيرة "يا صبحة، هاتي الصينية" سلاحًا نفسيًا فتّاكًا بيد حافظ الأسد ضد صدام حسين، كما يؤكد الكاتب السوري المعارض خطيب بدلة في مقال له في "العربي الجديد" (مع أن موفق بهجت نفسه نفى ذلك). يقول بدلة إنه في منتصف الثمانينيات الماضية، وخلال معرض عن حياة السيدة صَبْحة طُلفاح، والدة صدام حسين، وبحضور عددٍ كبيرٍ من الزائرين، انطلقت أغنية موفق بهجت في القاعة، "يا صبحة، هاتي الصينية،" فأرغى خير الله طُلفاح، خال صدام، وأزبد، ورأى أن بث هذه الأغنية في هذه المناسبة يرمي إلى السخرية من "أم المناضلين،" فأحال مديرة المعرض إلى التحقيق، وعاقب جميع موظفي القاعة.
ويقول الكاتب السوري فؤاد عبد العزيز، في مقال له بصحيفة "زمان الوصل،" إن عراقيًا روى له أنّ صدام حسين لم يمنع بث الأغنية على الإذاعة والتلفزيون فحسب، وإنما منع الدندنة بها في المنازل وفي الشوارع، وقد تصل عقوبةُ من يُسْمَع وهو يغنيها إلى الإعدام. ويروى أنه لما علم حافظ الأسد بانزعاج صدام حسين من هذه الأغنية، أوعز إلى الإذاعة والتلفزيون في دمشق ببث هذه الأغنية كل يوم، بل وأن تقدمها السيدة ماريا ديب للمشاهدين في برنامجها التلفزيوني الأسبوعي الشهير "ما يطلبه الجمهور" حتى وإن لم يطلبها أحد! كل ذلك نكايةً بغريمه صدام حسين. وسبب هذا السلوك الكيدي الذي يستهدف والدة الرئيس العراقي، إن صَدَق الرواة، هو أن صدام حسين في قمة الجامعة العربية التي انعقدت في الرباط عام 1982 عيَّرَ حافظ الأسد بأنه مجهول النسب وتحداه، على ذمة خطيب بدلة، أن يُسمّي جده الثاني! إذن، ما فعله حافظ الأسد مع صدام حسين هو تطبيق لمبدأ الجزاء من جنس العمل: إذا عيَّرتني بجدِّي المجهول، فسأعيِّرُك بأمك صَبْحَة، أمِّ الصينية!
اعتدنا أن نشاهد "النسوان البلدي" في الأفلام والمسلسلات المصرية التي تدور أحداثها في الأحياء الشعبية في وصلات ردح محترف يثير الإعجاب لا بسوقية ألفاظه بل ببلاغته التي تُلْجِم أفصح الخطباء. وصار "شُغل البلكونات" هذا نوعًا من اللازمة البصرية في هذه الأفلام والمسلسلات حتى باتت أمرًا مألوفًا لدى المشاهد غير المصري. أما ما يدعو للعجب حقًا فهو أن تجد نظيرًا لشغل البلكونات هذا في أروقة السياسة القذرة. ربَّاه، ما أتعس كوكبَنا بالسياسيين الصِغار!