خلال العامين الماضيين، مرت الدراما العربية المشتركة بمنعطف غيرت فيه مسارها، لتتبدّل بشكل مفاجئ الفضاءات التي تدور في فلكها أحداث المسلسلات التي تنتمي لنمط الإثارة والأكشن، ويدخل أبطال هذه الأعمال إلى السجون بعد أن كانوا فيما مضى مجرمين خارجين عن القانون يعيشون طلقاء في مناطق يتمتعون فيها بالقوة والنفوذ.
هذا الأمر يمكن أن نرصده بالمسلسلات التي قدمها قصي خولي منذ بداية عام 2021، حين لعب دور البطولة في أربعة مسلسلات في هذه الفترة، ثلاثة منها كان السجن هو الفضاء الدرامي الأبرز فيها، وهي: "لا حكم عليه" و"بارانويا" و"الوسم"، ولا يشُذ عن هذه القاعدة سوى مسلسل "2020"، الذي تتمحور حكايته حول تاجر مخدرات خارج عن القانون يعيش في حي لبناني يبسط عليه نفوذه، والذي شبهه الجمهور بمسلسل "الهيبة" الذي اختتمت أجزاؤه العام الماضي. الجدير بالذكر أن مسلسل "2020" كان قد تم إعداده للعرض في رمضان 2020، لكن عرضه تأجل حتى رمضان "2021" بسبب تأثير جائحة كورونا، ليؤكد ذلك على أن التحول بالفضاء الدرامي لم يكن وليداً للصدفة. فما أسباب هذا التحول الدرامي؟ وما دلالاته؟
المسلسلات المشتركة التي تتمحور حول شخصيات الأبطال الطلقاء الخارجين عن القانون، كانت تعطي انطباعاً بأنها تدور في دول هشة، تحكمها أنظمة ضعيفة غير قادرة على ضبط الأمن. لذلك لا يمكن تفسير هذه التحولات التي طرأت على الفضاءات الدرامية سوى بأنها محاولة لإعادة رسم صورة مختلفة عن الدولة؛ فاختيار السجن إذاً هو خيار درامي جاء لقلب معادلات القوى، يهدف لإعلاء شأن الأجهزة الأمنية القادرة –على أقل تقدير- على الحد من خطورة رجال العصابات والتحكم بمصيرهم. هذا الأمر ينطبق على المسلسلات التي تصور السجون في لبنان كـ"لا حكم عليه" و"العنبر رقم 6" وغيرها؛ لكن الدلالات تختلف بعض الشيء في المسلسل الأخير، "الوسم"، الذي تدور معظم أحداثه داخل السجون السورية.
يصور مسلسل "الوسم" حكاية عصابة دولية فيها انقسامات وخلافات ويحاول أعضاؤها تصفية بعضهم البعض. في هذا الظرف يقرر مجموعة من أفراد العصابة ممن يحملون الجنسية السورية أن يركبوا البحر ليعبروا من اليونان إلى سوريا، في رحلة عكسية تخالف وجهة كل رحلات اللجوء الواقعية؛ ليدخل "نورس" (قصي خولي) ورفاقه إلى السجون السورية لتنفيذ مهمة مجهولة، ويتصرفون خلال هذه المدة وكأنهم في نزهة! وهي المفارقة التي تبدو أكثر عبثية من الرحلة البحرية العكسية التي تحمل الناس من اليونان إلى الشام؛ فليس هناك أغرب من الهروب غير الشرعي نحو بلد كسوريا التي صدرت أكبر عدد من اللاجئين في العقد الأخير، إلا تصوير السجون السورية على أنها مكان آمن ومن الممكن أن يدخلها المرء عن سابق إصرار وترصد.
ذلك بالطبع يناقض سمعة المعتقلات السورية، التي تحول بعضها إلى بؤرة للمقابر الجماعية، والتي اختفى فيها عدد كبير من السوريين دون أن يبقى لهم أي أثر، ومنهم فنانون كانت كل تهمتهم معارضة النظام السوري، كالفنان زكي كورديللو، الذي اعتقل عام 2012 برفقة ابنه، واختفى تماماً. فعلياً الواقع مليء بالحكايات التي تزيد من إشكالية تقديم مسلسل "الوسم" بهذا الفضاء الدرامي وبهذه الطريقة؛ فالدلالات التي تنطوي على استخدام السجون السورية كفضاء درامي، لتقديم حكاية المسلسل الضعيفة بدورها، لا يمكن قراءتها سوى بوصفها تلميعاً لصورة معتقلات نظام الأسد، التي تسربت منها صور "قيصر" وأدخلت سوريا في دوامة العقوبات الاقتصادية.
المشكلة الأكبر درامياً أن حكاية المسلسل تبدو ضعيفة جداً وغير مقنعة إطلاقاً، بمعزل عن الفضاء الدرامي الذي تدور فيه، ولا نقصد بذلك أن الحكاية غير مكتملة وغير واضحة المعالم، بسبب تقسيمها إلى أكثر من جزء وانتهاء الجزء الأول دون فك شيفرات الغموض، بل الأمر يتعلق ببنية الحكاية من أصلها، التي تبدو فيها موازين القوى التي تحكم عوالمها غير واضحة، ولا يوجد أي منطق يحكمها، باستثناء منطق استعراض القوة وتعديل المعادلات الأخلاقية بشخصية البطل الإشكالية، ورفيقه "رغيد"، الذي أدى دوره مغني الراب إسماعيل تمر، الذي أسهم قصي خولي بتعويمه خلال السنوات الماضية، والذي يقدم عبر أغانيه رسائل لا تقل ابتذالاً عن تلك التي يقدمها المسلسل.
ولا يتحسن مستوى المسلسل في المشاهد التي صورت خارج إطار السجون السورية، بما فيها المشاهد التي صورت في مصر، والتي بدت وكأنها قد أقحمت بشكل قسري في سبيل إعداد عمل سوري – مصري مشترك، ربما بغرض الرد على الأعمال اللبنانية – المصرية، التي بدأنا نشعر بموجتها القادمة مع مسلسل "الزيارة". لكن جميع هذه المحاولات هي فاشلة حكماً، لأن المسلسل بصيغته النهائية غير قادر حتى على منافسة المسلسلات السورية الوطنية الضعيفة الإنتاج، التي تنتجها المؤسسة العامة.